• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المثقفون العرب والحوار الحضاري

محمّد محفوظ

المثقفون العرب والحوار الحضاري

◄أثارت قضية كوبنهاغن وتأسيس تحالف بين جملة من المثقفين العرب والإسرائيليين وموقفهم من عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط، الكثير من ردود الفعل المتباينة، بين مؤيد لخطوة المثقفين العرب المشتركين في هذا التحالف الدولي، وبين رافض لهذه الخطوة، معتبرين إيّاها خطوة تخدم في المحصلة النهائية المشروع الإسرائيلي في المنطقة.

ونحن هنا لا نريد أن نتبنّى موقفاً معيّناً في هذه المسألة، وإنّما نريد القول إنّ هذه الزوبعة كشفت عن الثغرات الجوهرية التي يعاني منها الجسم الثقافي العربي والإسلامي، إذ تكشف هذه الحادثة وغيرها من الحوادث أنّ طبيعة الوضع الثقافي العربي والإسلامي قائمة على نزعة اختزال الحياة الثقافية العربية والإسلامية في إطار وقالب فكري واحد، ونفي كلّ حالة تعدُّد وتنوُّع ثقافي وفكري، ويعتمد هذا القلب الفكري الواحد على لغة الإقصاء والتخوين تجاه كلّ قضية ثقافية أو اجتماعية أو سياسية، لا تتناغم وأقطاب القالب الفكري الواحد.

وإنّنا نرى أنّ المشكل الحقيقي الذي يعاني منه الوضع الثقافي العربي ليس في لقاء بعض أقطاب الحياة الثقافية الإسرائيلية (دون إغفال أنّ هذه الأقطاب عناصر معادية لنا على المستوى التاريخي والحضاري)، وإنّما في غياب عملية الحوار الحضاري بين المدارس الثقافية التي تتشكّل منها الحياة الثقافية العربية والإسلامية.

فلعلّ من نافلة القول بيان إنّ الوضع الثقافي العربي والإسلامي مليء بالمدارس والتيارات الثقافية والفكرية المختلفة، ذات المشارب المتنوّعة، ولذلك فإنّ محاولة تعميم لون واحد على هذه الحياة، يعد تعسُّفاً بغيضاً، لا يؤدِّي إلّا إلى المزيد من التشتُّت والتبعثر والتمزُّق. كما أنّ بقاء هذه المدارس والتيارات الفكرية بعيدة عن بعضها البعض يجعل الجسم الثقافي العربي والإسلامي مهترئاً وسهل الاختراق والتقويض.

لهذا فإنّ المهمة الإستراتيجية التي تقع على عاتق الحياة الثقافية العربية والإسلامية (مؤسسات وأفراداً)، هي البدء بتدشين عصر الحوار الحضاري بين مختلف تيارات ومؤسسات الحياة الثقافية العربية والإسلامية، لأنّ غياب فريضة الحوار الحضاري هو الذي يحوِّل كلّ اختلاف فكري أو سياسي إلى حرب ساخنة، وتجدد أسبابها وشروطها باستمرار حالة الجفاء وغياب فقه الحوار في الحياة الثقافية العربية والإسلامية.

فالإختلاف في وجهات النظر وتقويم الأمور والقضايا، مسألة طبيعية ومتناغمة مع نواميس الوجود الإنساني. وتاريخياً لم يكن ينظر مفكِّروا الأُمّة وأئمّتها للاختلاف كمصدر ضعف وتراجع، بل اعتبروه تعبيراً عن غنى الثقافة وزخم الحضارة المرتبطين بعمق التجربة التاريخية واتساع الانتشار الجغرافي. وبالتالي، فإنّ حمل الناس على الرأي الواحد والفهم الواحد يناقض حقيقة الاجتهاد والنواميس الكونية، فيما يرتبط بالاختلاف البشري، كما أنّ حمل الناس على الرأي الواحد يناقض الفكر الديمقراطي المعاصر، إذ إنّ "الاختلاف في المفهوم الديمقراطي ليس تفتيتاً وتجزئة، بل هو بديل عن كل استبداد مغلّف بغلاف الوحدة، حين تكون هذه الأخيرة مجرد تغطية للانفراد بالسلطة. نعم، هناك سلبيات ومزالق للتعدّدية حتى في مستوى التعبير المؤسسي الديمقراطي، إلّا أنّ عيوب الديمقراطية تصحح بالديمقراطية وليس بإلغائها".

من هنا، فإنّ غياب لغة الحوار عن الحياة الثقافية العربية والإسلامية هو الذي يؤدِّي إلى التشتيت الدائم والمستمر للآراء والأفكار، ويبقي كلاً منها منغلقاً على ذاته رافضاً للآخر. كلّ منها يشكّل عصبية لا تقبل التعايش والحوار، فهو صراع عصبوي حتى لو تجلبب بجلباب الاختلاف حول مسألة التطبيع الثقافي مع إسرائيل. ونرى أنّ الحوار الحضاري بين مختلف التيارات الثقافية العربية والإسلامية هو الكفيل بإنهاء المواقف الشاذة (في أي اتّجاه كانت)، التي لا تنسجم ومصالح الأُمّة. والحوار الحضاري الذي ننشده وندعو إلى أن يسود كلّ تضاريس الحياة الثقافية العربية والإسلامية، هو الذي يتشكّل من العناصر التالية:

- نبذ الأحكام المطلقة:

إنّ الحُكم المطلق الكاسح (في أي اتّجاه كان)، يصادر الحقيقة ويُشرِّع لعملية إقصاء الرأي الآخر، فهو نسق يحرّم على الآخرين المشاركة في صنع الحقيقة والمعرفة، ويصادر منهم الحقّ في الاختلاف. له وحده (صاحب النسق المطلق)، الحقّ في أن يخالفهم، وليس للآخرين أي حقّ في إبداء رأي مخالف له. إنّ الأحكام الكاسحة التي لا ترى الأمور إلّا بلونين، إمّا أسود أو أبيض، تؤدِّي بصاحبها إلى الشدّة وتستولي عليه روح الضيق بالمخالفين، ويسارع إلى اتّهامهم في أفكارهم ونياتهم وأخذهم بالشبهة وسوء الظن. وحين يسود هذا النسق في الحياة الثقافية العربية والإسلامية تستباح الحقيقة ويزيّف الواقع وتنتهك السمعة والكرامة، ويرجم أصحاب الرأي المخالف، على حدّ تعبير الدكتور أحمد أبوالمجد، لأنّ الأحكام المطلقة في العلاقات الإنسانية تجعل صاحبها منفصلاً بشكل دائم عن الذات، ومبرِّراً لكلّ ما يصدر عنها، والنقد المطلق لغيره واتّهامه وتجريحه في كلّ ما يصدر عنه. لهذا فإنّ الحوار الذي ننشده لحياتنا الثقافية هو الذي يؤمن بنسبية الحقيقة، وإنّ الاختلاف الثقافي في حدود الطبيعية هو أصل الوحدة ومنبع التقدُّم والتطوُّر، وقيمنا الثقافية ومبادئنا الفكرية والعقدية تتسع لاختلاف الآراء، فلا نضيقها بأهوائنا ونوازعنا الذاتية السيِّئة.

- الاتفاق على خريطة المستقبل:

بادئ ذي بدء لابدّ من القول إنّه لا يوجد مجتمع في التاريخ الإنساني لا تتعايش فيه رُؤى وتوجهات مختلفة ومتباينة، ذلك لأنّه ينطوي بالضرورة على مصالح متغايرة ويمارس اختيارات مختلفة، ولكن التقدُّم والتطوُّر لا يكون إلّا من نصيب المجتمع الذي استطاع أن يوجد علاقة إيجابية وحسنة ومتعايشة بين هذه الرؤى والمدارس الفكرية المختلفة.

وعن طريق هذه العلاقة الإيجابية والمتعايشة التي تربط هذه الرُّؤى، يحتضن المجتمع عناصر التقدُّم والتطوُّر في مختلف الأبعاد والحقول، وبهذا نغني ثقافتنا العربية والإسلامية، ونعيد توازننا الاجتماعي والتاريخي. فالاختلاف في تقويم القضايا والأمور ليس مرضاً يجب التخلّص منه والقضاء عليه، بل هو مُحرِّك المجتمع نحو الأفضل ومصدر ديناميته، وهو يقود، لو أحسنّا إدارته، إلى المزيد من النضج والوعي والتكامل.

ومن هذا المنظور، فإنّ الحوار في الدائرة الثقافية العربية والإسلامية، ينبغي أن يكون حول الغد والمستقبل حتى يشترك الجميع في نحت معالمه وبلورة آفاقه.

- أخلاقيات الحوار:

باعتبار أنّ الاختلاف حالة طبيعية ومرتبطة بطبيعة التكوين الإنساني، لهذا فإنّ الحوار في الدائرة الثقافية العربية والإسلامية، ينبغي أن يتحلّى بمجموعة من أخلاقيات الحوار في دائرته المعرفية والفكرية، ومن هذه الأخلاقيات:

* الالتزام بالموضوعية، وهي منهج يهدف مقاربة آراء وأفكار الآخر المختلف بدون زيادة أو نقيصة، كما أنّها تقتضي ألا ينظر المرء إلى الآخر المختلف من علو، وإنّما هي رؤية متساوية وقريبة منه.

* ضرورة عدم الاكتفاء بأدنى الفهم والمعرفة، وإنّما تهيئة النفوس والعقول، لاستقبال أقصى الفهم والمعرفة، إذ إنّ الكثير من الاختلافات تأخذ سبيلها السيِّئ والسلبي من جراء الفهم المنقوص للمسألة التي دار حولها الخلاف. لذلك، وقبل أن يرتّب أحد أطراف الاختلاف أي قناعة أو موقف، لابدّ من أن يفهم المسألة بشكل كامل بحيث تتوفّر المعرفة التامة حول المسألة المعنية.

* ضرورة احترام حقّ الرأي، إذ إنّنا لا يمكننا أن نصادر حقّ الإنسان في التعبير عن آراءه وقناعاته. لذلك فنحن مطالبون بأن لا نشنّ على الطرف الآخر (المختلف) نعوتاً تؤدِّي إلى التسقيط، لأنّنا نحترم رأيه ونجعل هذا الاختلاف في هذه الدائرة. وقديماً قيل: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".

* إخراج الذات من دائرة الاختلاف، وهذا يقتضي أن نعتبر أنفسنا مختلفين ضمن مختلفين، لا أن نعتبر الآخرين هم وحدهم المختلفين، المخالفين. ومن الضروري الابتعاد عن التعالي، تعالي كلّ خصم على خصمه بادعاء احتكار العلم الكوني والحقيقة المطلقة، وفقه التحديات الحضارية التي تواجه الأُمّة في الوقت الراهن.

لهذا كلّه، فإنّنا نرى أنّ الحياة الثقافية العربية والإسلامية بحاجة فعلية وماسّة إلى تدشين مرحلة الحوارات الحضارية بين مدارسها وتياراتها المختلفة، حتى لا تتحوّل حياتنا الثقافية إلى مجموعة من ردود الأفعال المتشنجة التي تساهم في تقويض عوامل القوّة في الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة. ►

 

المصدر: كتاب الحضور والمثاقفة.. المثقف العربي وتحديات العولمة 

ارسال التعليق

Top