• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المسلم.. والجمال

محمد عمارة

المسلم.. والجمال


من الناس من يحسب أن هناك خصومة بين الإسلام وبين الجمال، تدعو المسلمين إلى التجهم في النظرة إلى الحياة، وإدارة الظهر إلى ما في الكون من آيات البهجة والزينة والجمال.. يحسبون ذلك، فيقولونه، أو يعبرون عنه بسلوك المتجهم إزاء آيات الجمال والفنون والإبداعات الجمالية فى هذه الحياة..
ولو كان هذا المسلك الخشن والغليظ والمتجهم، أثراً من آثار المحن التي يمتحن بها المسلمون في مرحلة الإستضعاف التي يعيشونها، ورد فعل للتحديات المعادية التي تفرض الهم والحزن على الوجدان الإسلامي المرهف، أو مظهر الغضبة لحرمات الله المنتهكة، لكان ذلك مبرراً ومفهوماً.. لكن أن يكون هذا التجهم، فى نظر هذا الفريق من الإسلاميين، هو مما يقتضيه المنهج الإسلامي في الحياة، فذلك هو الذي يدعو إلى إستجلاء منطوق ومفهوم المنهج الإسلامي إزاء جماليات الحياة..
وجدير بالتنبيه أن هؤلاء الذين يحسبون قيام التلازم بين التجهم ومخاصمة الأحاسيس الجمالية وبين منهج الإسلام، منهم الإسلاميون، الذين يحسبون – مخلصين – أن هذا هو الموقف الحقّ الصحيح فى هذا الموضوع، ومنهم الخصوم الذين يتخذون من مسلك الغلظة لبعض الإسلاميين تجاه جماليات الحياة سبيلاً للطعن على الإسلام.. فالقضية، إذن، أكبر من أن تكون "خياراً خشناً" لبعض من الإسلاميين هم أحرار في سلوكه، وإنما هي قد غدت واحدة من المطاعن التى يحاول نفر من خصوم المنهج الإسلامي استخدامها – ضمن مطاعن أخرى – لتشويه صورة منهج الإسلام في الفكر والحياة.. الأمر الذي يكسب الحديث عن هذه القضية أهميته، ويجعل له مكانه الطبيعى فى سياق الحديث عن معالم منهج الإسلام.
وبادىء ذي بدء، فإذا كانت "الحضارة" هي جماع إبداء الأمة فى عالمي "الفكر" و "الأشياء"، أي في "الثقافة" التي تذهب الإنسان وترتقي به، وفي "التمدن" الذي يجسد ثمرات الفكر – في التطبيق – والتقنية – أشياء يستمتع بها الإنسان المتحضر.. إذا كانت هذه هي "الحضارة" فإنها – كإبداع بشري – في المنظور الإسلامي وفي التجربة الإسلامية، وثيقة الصلة بدين الإسلام، كوضع إلهي، نزل به الوحى على قلب رسول الله، عليه الصلاة والسلام..
ففي التجربة الحضارية الإسلامية، كان "الدين" هو الطاقة التي أثمرت، ضمن ثمراتها، توحيد الأمة، وقيام الدولة، والإبداع في كل ميادين العلوم والفنون والآداب، شرعية وعقلية وتجريبية، كما كان الدافع للتفتح على المواريث القديمة والحديثة للحضارات الأخرى، وإحيائها، وغربلتها، وعرضها على معايير الإسلام، واستلهام المتسق منها مع هذه المعايير، لتصبح جزءاً من نسيج هذه الحضارة الإسلامية، التي وإن كانت إبداعاً بشرياً، إلا أنها قد اصطبغت بصبغة الإسلام الدين، كما كانت ثمرة للطاقة التى مثلها وأحدثها عندما تجسد في واقع المسلمين..
تلك هي العروة الوثقى بين دين الإسلام وبين حضارته، بما فيها من إبداع شمل مختلف الميادين: الشرعية.. والعقلية.. والتجريبية.. والجمالية..
بل إننا لو تأملنا في مكان "الهجرة" في دعوة الإسلام ودولته وأمته، لرأيناها أكثر وأكبر من إنجاز لإنقاذ الدعوة من حصار "الشرك المكي".. لأن الهجرة فى حياة هذه الدعوة لم تقف عند الهجرة من مكة إلى المدينة – ومن قبلها الحبشة – وإنما كانت، أيضاً، هجرة من "البداوة"، إلى "الحضارة"، من "البادية" إلى "الحاضرة"، من حياة "الأعراب"، التى تغلب عليها الغلظة ويسود فيها الجفاء، إلى حياة "العرب" الذين استقروا في "القرى"، فغدا بإمكانهم أن يقيموا "مدينة" و "حضارة" في هذه "القرى".. كانت إنجازاً حضارياً، ينتقل بالجماعة البشرية من طور ترحال البداوة، الذي يستحيل معه قيام "التراكم" في الإبداع – الثقافي والتمدني – إلى طور الإستقرار والحضور فى "القرى" الحاضرة، الأمر الذي يتيح لإبداعات الإنسان أن "تتراكم"، فتعلو بناءً حضارياً مناسباً للجهد الإبداعى المبذول فيه..
تلك هي "المكانة الحضارية" للهجرة في حياة دعوة الإسلام، في عصر صدر الإسلام، وتلك هى بدايات خيوط العروة الوثقى بين الإسلام الدين – الوضع الإلهي – بين الحضارة الإسلامية – الإبداع الإسلامي لأمة الإسلام..
وفي ضوء هذه "الحقيقة الحضارية"، نفهم اصطفاء الله سبحانه وتعالى، "مكة"، أم القرى – وحاضرة الحواضر – مهبطاً للوحي بالدين الجديد.. ونفهم مغزى كون "يثرب" – المدينة – وهي ثانية القرى والحواضر – هي دار الهجرة وعاصمة الدولة ومنارة الدعوة.. بل نفهم سر استمساك القرى والحواضر الثلاث – المدينة ومكة والطائف – بالإسلام، يوم ارتدت عنه، أو عن وحدة دولته، البوادي بمن فيها من الأعراب، عندما زلزلت وفاة الرسول (ص)، قلوب هؤلاء البدو والأعراب؟!.. نفهم جميع ذلك في ضوء العلاقة بين هذا الدين وبين الإبداع الحضاري للإنسان الذي تدين بهذا الدين..
بل ونفهم أن هذه العلاقة بين "الدين" وبين "الحاضرة"، ومن ثم "الحضارة"، ليست خصيصة إسلامية، إنما هي سنة من سنن الله في كل الشرائع والرسالات.. فكما اصطفى الله حاضرة مكة، لتبدأ منها الدعوة، قائلا لرسوله: (...وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(الانعام/ 92)، أنبأنا فى قرآنه الكريم، أن هذا الإصطفاء إنما كان اطراداً لسنة إلهية.. (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)(القصص/ 52).. فأم القرى، وحاضرة الحواضر كانت دائما هي موطن الرسل والرسالات، وذلك للعلاقة العضوية بين "الدين" و"الحضارة"، على امتداد تاريخ الإنسان..
ولأن هذا هو دور "الهجرة" في دعوة الإسلام وأمته ودولته، ولأن هذه هي وظيفتها الحضارية – الإنتقال بالإنسان – الأعرابي – من غلظة البادية وتجهم خشونتها – إلى مدينة الحاضرة وتثقف – تهذب – عقول أبنائها – .. لأن هذا هو دورها، وهذه هي وظيفتها الحضارية، كان المسلمون يستعظمون ويستنكرون رجوع المهاجر عن "المدينة" وانقلابه إلى "البادية" مرة أخرى، حتى لقد سموا هذا الإنقلاب "ردة".. وقرآناً في مصادر السنة ذلك السؤال الإستنكاري الذي سأله أحد الولاة لمن عاد فتعرب – رجع أعرابيا بعد هجرته –: "أرتددت على عقيبيك تعربت؟!"
تلك هي بدايات الخيوط بين الإسلام الدين وبين الحضارة، وهي بدايات لا ترشحه كي يوحي بالتجهم إزاءها، ولا بمخاصمة إبداعاتها الجمالية بحال من الأحوال!..
ثم.. إن "الجمال"، الذى يظن بعض من الناس مخاصمة الإسلام إياه، هو – إذا نحن تأملناه – بعض من آيات الله سبحانه و تعالى، التى أبدعها فى هذا الكون، وأودعها فيه.. إنه بعض من صنع الله وإبداعه سبحانه، سواه وسخره للإنسان، طالباً من الإنسان أن ينظر فيه، ويستجلى أسراره، ويستقبل تأثيراته، ويستمتع بمتاعه ويعتبر بعبرته (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(الأنعام/ 99).. إنها آيات خلق الله، يأمر الإنسان أن ينظر فيها..
وأينما يمم الإنسان بصره أو بصيرته أو عقله أو قلبه، فإنه واجد آيات الله التى خلقها "زينة" للوجود، ودعاه إلى النظر فيها.. (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ..)(الصافات/ 6-7)... (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(فصلت/ 12)... (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ)(الحجر/ 16-18)... (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)(ق/ 6)...
فهذه "الزينة" – التي هي آيات إبداع الله سبحانه وتعالى، هى "زينة – جمال" يدعو الله الإنسان إلى النظر فيها، بل يقول لنا: إن خلقها ليس "للحفظ" فقط، ولا "للمنفعة" وحدها.. وإنما "للزينة" التى أبدعها الله لينظر فيها الإنسان ويستمتع بما فيها من جمال!
ومثل ذلك حديث القرآن الكريم عن آيات خلق الله التى أبدعها لنا في صورة "الحيوان" المسخر للإنسان، فليست "المنفعة" المادية وحدها هي الغاية من هذا الخلق والتسخير، وإنما "الجمال" و "الزينة" أيضاً غايات يبتغيها الإنسان في هذا الخلق الذي خلقه الله.. (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)(النحل/ 5-8)...
فليست "المنفعة المادية" فقط هي غاية خلقها وتسخيرها للإنسان، إذ "الجمال والزينة" كذلك "منفعة" محققة ولازمة، أيضا، للإنسان!..
والبحار، التي سخرها خالقها للإنسان.. لا تقف منافعها عند المنافع المادية – اللحم الطري، وسبل الإتصال – وإنما ابتغاء "الحلية.. والزينة.. والجمال"، أيضا، من منافعها.. (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(النحل/ 14).
وعندما يشير الله سبحانه، إلى بعض من نعمه وآياته.. نرى قرآنه الكريم يلفت النظر إلى ما ينزل من السماء من ماء تمتلىء به الأودية فيحيي الأرض ويزينها للناظرين.. وإلى ما يستخرجه الإنسان، بالنار من حلى الزينة والجمال، المستخرجة من معادن الأرض.. ففي الزرع: طعام، وزينة، وفى الذهب والفضة: نقد، وحلية وجمال يتجمل به الإنسان.. (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ)(الرعد/ 17).
إن هذا الجمال وتلك الزينة، هي آيات الله، أبدعها وبثها في هذا الكون، وأمر الإنسان أن ينظر فيها.. إذن، فالنظر فى هذا الجمال، والإستقبال لآيات الزينة، وفتح قنوات الإحساس الإنساني على صنع الله هذا، هو إمتثال لأمر الله سبحانه وتعالى (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ)(الأنعام/99).. (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا)(ق/6).. وهذا النظر، في هذه الآيات، هو سبيل من سبل الإستدلال على وجود الله، وعلى كمال قدرته وبديع صنعته.. وما تعطيل النظر في آيات الجمال هذه – باصطناع الخصومة بين الإسلام وبين جماليات الحياة – إلا تعطيل للدليل على وجود الصانع المبدع لهذه الآيات!..
ويستوي مع هذا التعطيل للنظر – بقمع أدواته وسد قنواته وإهمال ملكاته – "النظر" المجرد من "الإحساس" بآيات الجمال المودعة في هذه المخلوقات!.. والذين لا يرون في المحيط الذي يعيشون فيه غير "المنافع المادية"، ولا ترى بصائرهم آيات الجمال في هذا المحيط، لا شك أنهم معنيون وموصوفون بقول الله سبحانه (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(الأعراف/ 179).
كذلك فإن تنمية الإحساس الجمالي لدى الإنسان المؤمن هو تنمية للكلمات والطاقات التى أنعم بها عليه الله.. وفى ذلك الشكر لِلَّه الذي أنعم بها.. وإن في استخدام هذه الملكات سبلاً للإستمتاع بما خلق الله في هذا الكون من آيات الزينة والجمال والشكر لله على نعمة خلقه لهذه الزينة ولهذا الجمال. وصدق الله العلي العظيم يقول: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(الضحى/ 11). وصدق رسول الكريم عندما قال: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
وإذا كان المسلم – بحكم إيمانه وإسلامه – مدعو إلى التخلق بأخلاق الله، ليكون ربانياً، ومطلوب منه أن يسعى، قدر الطاقة – ومع ملاحظة فوارق المطلق عن النسبي – أن يسعى كي يتحلى بمعاني أسماء الله الحسنى.. فإن رسول الله (ص)، يعلمنا أن "الجميل" هو من أسماء الله.. ففي الحديث الشريف: "إن الله جميل يحب الجمال".. فالمسلم، إذن، مدعو إلى الإتصال بالجمال، الذي هو البهاء والحسن، في الفعل وفي الخلق، وإلى تنمية إحساسه بالجمال الذي أودعه الله في الكون، جمال الصور وجمال المعاني على حد سواء.. ففي ذلك "كمال" للإنسان و "سعادتة" له أيضاً.. وكما يقول الغزالي "فإن كمال العبد وسعادته التخلق بأخلاق الله تعالى، والتحلي بمعاني صفاته، وأسمائه، بقدر ما يتصور في حقه.. ليقرب بها من الحق قرباً بالصفة لا بالمكان.. لأن إستعظام الصفة وإستشرافها يتبعه شوق إلى تلك الصفة وعشق لذلك الجلال والجمال، وحرص على التحلي بذلك الوصف إن كان ذلك ممكناً.. أو يبعث الشوق إلى القدر الممكن منه لا محالة.. وبذلك يصير العبد ربانياً، أي قريباً من الرب تعالى.." عندما يكون جميلاً، يتصف ويستمتع بصفات وآيات الحسن والبهاء، التي أبدعها البارىء – الجميل، الذي يحب الجمال – ..
ولأن هذا هو موقف المنهج الإسلامي من آيات الجمال والزينة المبثوثة في الكون، من صفات الحسن والبهاء المتاحة للإنسان في هذه الحياة، كانت دعوة القرآن الكريم الناس إلى إتخاذ الزينة عند كل مسجد، أي إلى إقامة التلازم وعقد القرآن بين التزيين وبين دعاة الله والمثول بين يديه، فكلاهما – التزيين، والصلاة – شكر الله سبحانه وتعالى!.. (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/32-31).. ونحن نلحظ أن هذه الآيات تدعو الإنسان – مطلق الإنسان. (يا بنى آدم) – وليس المسلمين وحدهم، وذلك تنبيهاً على أن هذا هو مقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، طلب الزينة والجمال.. وتصحيحاً للإنحراف الذي جعل العبادة رهبانية تدير الظهر لصفات الحسن ومظاهر الجمال في هذه الحياة – (قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) – .. إنه المنهج الإسلامي، الذي يعيد الإنسان – في هذه القضية، كما في سواها – إلى "فطرته"، والتي يمثل التجمل والتزيين ملمحا أصيلاً من ملامحها.
ولا يحسبن أحد أن "الزينة" التى يطلبها الإسلام ويأمر بها مقصورة على الثياب الحسنة، والطيب، وحسن التجمل، فقط، عند المثول بين يدي الله في الصلاة، ذلك أن "الزينة" إذا كانت اسماً جامعاً لكل شىء يتزين به.. فإن مصادر طلبها، ومواطن الإحساس بها مبثوثة في كل آيات الجمال التى خلقها الله وأبدعها وأودعها في سائر أنحاء هذا الوجود.. ففي الجنات وأزهارها – بل إن فى مطلق النبات – زينة للأرض، تتزين بها، وتتجمل، كي يستمتع بها الإنسان.. لقد كان من دعاء النبي (ص) – في حديث الإستسقاء –: "اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها"!.. وكانت دعوته إلى تزيين قراءة القرآن بالصوت الحسن: "زينوا القرآن بأصواتكم"!..
فالخيل "ستر وجمال للرجل يتخذها تكريماً وتجملاً، ولا ينسى حق بطونها وظهورها وعسرها ويسرها.."
ولقد ميز الإسلام ما بين طلب الجمال، والإستمتاع به، عندما يحكمه الإقتصاد والإعتدال، وعندما يكون شكراً لأنعم واهب هذا الجمال، وبين "الكِبْر" الذي نهى عنه الإسلام، وتوعد مقترفيه.. فعندما قال رسول الله (ص)، في الحديث الذي يرويه ابن مسعود –: "لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كِبْر".. عند ذلك قال رجل:
– يا رسول الله، إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جيداً – وذكر أشياء، حتى ذكر علاقة سوطه – أفمن الكِبْر ذلك يا رسول الله؟
– فقال رسول الله (ص): "لا! ذلك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال. ولكن الكِبْر من سفه الحق وازدرى الناس! "
فالجمال محمود.. بل هو سعي على درب الإتصاف بطرف من صفات الله المعلنة في أسمائه، وليس هو الكِبْر المذموم، الذي هو تسفيه الحق وازدراء الناس.
ولقد أباح الإسلام للمرأة أن "تتجمل للخُطّاب"، إظهارا لنعمة الجمال، وطلباً للزواج.. وفي حديث الصحابية سبيعة بنت الحارث الأسلمية.. عندما توفى عنها زوجها سعد بن خولة، ووضعت حملها منه، وبرئت من نفاسها "تجملت للخُطّاب".. فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك – من بني عبد الدار – فقال لها: مالي أراك متجملة، لعلك ترتجين النكاح؟! إنك، والله، ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. فذهبت سبيعة إلى رسول الله (ص)، وسألت عن ذلك – عن "العدة" – وليس عن "التجمل للخُطّاب" – فلم يكن ذلك موضع خلاف! – قالت: "فأفتاني رسول الله بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي.."
ولقد كان منهج النبوة، الذي تجسد في سلوك الرسول (ص)، في خاصة نفسه، ومع أهله، وفي تشريعه للناس.. كان هذا المنهج – بصدد التربية الجمالية، والسلوك الجمالى – البيان العملي والممارسة التطبيقية للبلاغ القرآني، الذي شرع الله فيه منهج الإسلام في هذا الميدان..
فهذا الرسول، الذي جاء رحمة للعالمين، كان النموذج الأرقى للإنسان الذي يستشعر كل آيات الجمال في خلق الله، ويلفت النظر بهذا السلوك الجمالي، ليغدو سنة متبعة في مذهب الإسلام وحضارة المسلمين..
لم يكن الرسول "مترفاً"، ولا "مستغنياً"، ولكن الله قد أغناه عن الحاجة، بعد أن كان فقيراً عائلاً.. (وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى) (الضحى/ 8).. لم يكن "الراهب" الذى يقيم الخصام بين مملكة الأرض ومملكة السماء.. ولا "الناسك نسكاً أعجمياً"، الذي يدير ظهره للدنيا وطيباتها.. كان يقبل الهدية، ويهدي إلى الناس، وكان يتصدق، دون أن تتطلع نفسه أو تمتد يده إلى شىء من الصدقات.. كان له من المال – في "فدك" – ومن الغنائم – سهم وصفايا – ما يكفيه وأهله، كإمام للدولة، وبمقاييس بساطة تلك الدولة ودرجتها في الثراء، في ذلك الزمان وذلك المكان.. كان المال في يده، ولكنه لم يستول على قلبه في يوم من الأيام!..
ونحن إذا شئنا أن نتلمس في سيرته – في خاصة نفسه – نماذج شاهدة على رقيه وارتقائه في السلوك الجمالي، والإحساس بالجمال، فإننا واجدون الكثير..
يروي ابن عباس فيقول: "كان رسول الله (ص)، يتفاءل، ولا يتطير، ويعجبه الاسم الحسن"!..
والذين يتأملون هذا السلوك، في ضوء قضيتنا، يدركون أن التفاؤل إنما هو ثمرة لرؤية إيجابيات الواقع وجماليات المحيط.. وهو ضد التشاؤم، الذى لا يرى صاحبه سوى القبح والسلبيات.. وأيضاً هو غير السذاجة، التى لا يبصر صاحبها لا الإبجابيات ولا السلبيات!.. فالتفاؤل موقف إبجابي من جماليات الحياة وإيجابيات المحيط..
وفي مأكلة ومشربه – على بساطتهما – كان طالبا للجمال والاستمتاع.. "كان يحب العسل والحلواء".. و"كان أحب الشراب إليه الحلو البارد".. فكان – على بساطة عيشه – ذواقة يحب الطيب والجميل من الطعام والشراب.. وقصصه شهيرة عندما كانت تعاف نفسه حلال الطعام إذا لم تستطبه نفسه، عليه الصلاة والسلام..
وكما لبس البسيط من الثياب.. فلقد "لبس جبة رومية..".. وعندما أهديت إليه جبة من ديباج منسوج فيه الذهب، لبسها (ص)، وقام على المنبر، وجلس ولم يتكلم! ثم نزل، فجعل الناس يلمسون الجبة وينظرون إليها!.. فلما خشى افتتانهم بأمثال هذه الأشياء، سألهم:
- "أتعجبون منها؟!"
- قالوا: ما رأينا ثوباً قط أحسن منه!
- فقال (ص): "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون"!
لقد لبس هذا الذي لم يرَ الناس ثوباً قط أحسن منه.. لكنه ذكرهم بما هو خير منه وأفضل عند الله!...


المصدر: كتاب معالم المنهج الإسلامي

ارسال التعليق

Top