• ٩ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ١ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المعنى الإنساني عمق للفن

شاكر حسن آل سعيد

المعنى الإنساني عمق للفن
    " أنا، أنت، هو، هي، هم" فإذا كان ثمة تواشج ما بين كلّ هذه الضمائر فما أفدح أن أقول إذن:

لقد كنت فيما مضى أو ها أنذا الآن أو (سوف أنجز كذا وكذا).

الإنسان هو الإنسانية وليس الإنسان النسخة "هو الحياة وليس النموذج، وهو بؤرة كلّ هذه الأشعة غير المرئية التي تصف ركب البشرية جمعاء".

الإنجاز؟

ولكن من خلال القول، والفعل. والتفكير يتحقق الكلّ من خلال الجزء، والمتحرك فيما هو ثابت، والغائب فيما هو حاضر، كما ينجز الآخرون.

وإذا احتاج الأمر في البشرية إلى كيان فما أيسر أن يستغني عن النسخة الأولى كسند. ومع ذلك فإنّ النسخة الأولى من الإنسان ليست أكثر كمالاً من القالب ولا أقل. انّها الصورة السلبية له إلّا انّها دونما تصحيح.

وفي أمسية صيف، أو صبيحة شتاء سيستيقظ الكيان البشري بأجمعه على اعتراف مكتوم لجزء يحطم من حوله القالب كيما يحدد لنا أحد طرفين. أما النهاية أو البداية، الولادة أو الموت.

الإنسان الحقيقي – رغم بدئه وانتهائه – قابل لأن يجعل من كيانه بؤرة مسار الأشعة خلال عدسة فحسب، فهو طرفان مجتمعان وليس امتداداً ما بين طرفين.

وقد لا يبدو أي ريب في أن يمتلك هذا الإنسان ناصيته، وأن يتحكم بمصيره، لكنه مع ذلك امتلاك مملوك وتحكم محكوم. انّ يداً ترتفع في الفضاء لكيما ترسم علامة استفهام كبيرة هي نفسها يد ترسم علامة تأكيد، أو تردد، أو تعجب، وانّ الإنسان الذي يجد انّ بمستطاعه أن يريد هو نفسه الذي لا يستطيع أن ينكر. مع ذلك فالإنسان لا يزال يحقق وجوده الذاتي ووجوده الإنسانية جمعاء، وهو هو الذي بمستطاعه أن يمجدهما معاً.

لكن الإنسان طرف وعلاقة في مسألة واحدة، وتلك هي حقيقة الركب البشري بل الكوني. وبالنسبة لسؤال طالما راود أذهان المصلحين من البشر ولن يجد له الإنسان أي جواب شافٍ، وهو ما مدى علاقة الإنسان بالخليقة؟ يظل الجواب حائراً ما بين التدين والإلحاد. لكن إيماناً وجحوداً مطلقان لا يوازيهما سوى إيمان أو جحود نسبي بل وينقضهما. فإذا كنت مؤمناً بالإنسانية فأنا ند لمن يجحدها. ترى ما الفارق بين (الغزالي) و(ابن سينا) إلّا أن يتصوف الأوّل ويتفلسف الثاني؟ ومع ذلك فإنّ كليهما لم يكن صرف العقيدة بل مشوبها. وهذا ما يؤكد إلى حدّ بعيد حيرة الفكر في الجواب على مسألة الإنسان.

والواقع انّ حيرة الإنسان في تكوين نظام بسيكولوجي ومع الخليقة يفترض قبل كلّ شيء احتواؤها، واستيعابها. فإذا لم يكن الأمر كذلك فليس من حيرة فأما إيمان مطلق أو إلحاد.

الإنسان هو المخلوق المزدوج الشخصية أبداً. فهو أزمة الخلق والخليقة معاً. وهو عداء مستمر من أجل الإبداع وليس العقم. مع ذلك فهذا المخلوق الغريب هو إلفة ومحبة الجزء للكلّ، والجنس للجنس، والتوصل للحلّ. انّه في الواقع أزمة لأنّه لن يستقر على حال. لا ثبات ولا حركة وانما كلاهما مجتمعان. من الثبات إلى الحركة، ومن الحركة إلى الثبات. ومن هنا فإنّه مركز الكون ومطوّره، فهو المخلوق وهو المبدع، وهو الضعيف وهو القوي، وهو الصورة الصغرى للإنسانية جمعاء.. ولقوانين التطور.

أما بالنسبة للعمل الفني فأنّ الإنسانية هي أن يعبّر الفنان عن هذه الأزمة تعبيراً إبداعياً، أن ينطوي على الثبات والحركة معاً. وعن حدود هذه الأزمة:

من كونها امتداداً طولياً من (الماضي والحاضر والمستقبل) إلى كونه استعراضاً (من الأنا إلى الهو). تلك هي الفكرة الإنسانية في الفن، وذلك هو مغزاها:

تصنع اللوحة الفنية، فإذا كانت أبعادها الإنسانية تقتضي نقل الشكل الخارجي للإنسان (كحاضر) ماثل فأنّ ما يظل يعوزها هو أن تهب الناظر المقدرة على أن يبني ماضي ومستقبل هذا الإنسان. لكن اللوحة كسطح (طول في عرض) تقتضي جحود الشكل الخارجي كحاضر متوقع، وهنا يكمن سرّ الإبداع والمعنى الإنساني في الفن. ذلك انّه منذ اللحظة التي لا يقتصر فيه الفن على مجرد بعث الطمأنينة في النفس، وذلك بالاقتصار على رسم الشكل الخارجي (أي أن يرسم الإنسان ملامحه أو ملامح العالم الخارجي)، كحاضر (يكون تعبيره مقتصراً على اللحظة) فسيؤول به الأمر إلى أن يصبح محاولة للتعبير عن الحقيقة، والحقيقة الإنسانية ككيان عام خارجي، وداخلي (أي أن يرسم الإنسان وحدة السلوك الإنساني بل الحيوي.. وحدة الكيان الإنساني بل الأرضي بل الكوني) كأزل: كماضٍ وكحاضر ومستقبل في آن واحد، (ومعنى ذلك أن يرسم الإنسان بصورة مجردة). وهكذا: يلوح الإنسان في العالم الفني لأوّل وهلة وهو عارٍ عن أبعاده كإنسان حي في الطبيعة. فهو يفكر، ويتكلم ويتحرك ولكن دون أن يترك أثراً واضحاً لكلّ ذلك. فإذا فكّر فسيكون تفكيره إيحائياً لنا بما هو معناه: محتواه. وإذا تكلم فسيقول لنا بواسطة التكنيك ما يجسد إيحاءنا وأفكاره، لكن المعضلة تظل في أن يعبّر لنا الإنسان المرسوم عن تعبيره الحركي: ذلك انّه رهين عالمنا الأرضي، وهنا فإنّ حركة الإنسان المرسوم تظل أبداً حركة غير متوقعة. (والواقع انّ حلّ هذه المشكلة بالذات هو التوصل التكنيكي للفن والإنسانية). فالجسد البشري مهما رسم ماثلاً، هامداً، جالساً أو واقفاً فإنّ ما يزيد هموده هو أن نفقد القدرة على إحيائه، وذلك بأن نستنتج بصورة قبلية – بواسطة الأداء – هذا الهمود، أن نسلم بموته. وحينئذ فإنّ جسداً، وأعضاء دقيقة الصنع سوف لا تلبث أن تلوح لنا على السطح التصويري وهي أشد عقماً من تمثال أكاديمي من الرخام، وعرياً من لعبة من لعب الأطفال، ذلك انّها إذا كانت تكتسب بصورة زائفة الفراغ إلى حد ما بواسطة قوانين المنظور، فأنّ ما سوف تخسره هو الوقت (الوقت هو مادة أي فن زمني، وفي الفن التشكيلي ينعدم الوقت كيما يستعاض عنه باللاوقت). أجل فليس ثمة مدى حقيقي للوقت بالإمكان استيعابه. وعلى فرض انّ الأمر سيظل متروكاً للناظر في استيعاب اللوحة فأنّ صميم المشكلة سيظل هو انّ ما يستغرقه الناظر في استيعاب الإنسان المنظور يظل بعداً خارجاً عن اللوحة شأنه في ذلك شأن العمق الذي يخلق لنا وهم المنظور الجوي. وهكذا، فإنّ حياة الإنسان المرسوم تظل أبداً في حالة احتضار مستمر طالما انّها تخسر بصورة موضوعية عنصرين هامين من عناصر عالم الطبيعة، وهما الوقت والفراغ. ومن مشكلة احتضار الإنسان يتألف الموضوع الإنساني، فالسطح التصويري – بطبيعته ذات البعدين – يرفض الفراغ والوقت في حين انّ الناظر يقبلهما. وما بين هذا التناقض الأزلي تبرز المشكلة، مشكلة الوعي الإنساني كوسيلة محتومة للقضاء على ذلك – لتقليل الأزمة.. لاستيعاب الإنسان المتحرك.

الوعي الإنساني في الفن هو تجاوز وامتداد مستمرين.. طولي وعرضي في نفس الوقت. انّه أعمق من أن يكون (رؤية) الشكل الخارجي للإنسان، منفرداً أو مجتمعاً، ولكنه رؤيا هذا الشكل بصورة لا يغشاها وهم بل تصور خلّاق. فإذا كان من المسلّم به انّ عالم الفن هو السطح فأنّ من المحتم إذن أن نستغني عن المنظور والملامح معاً كيما ندركه. وهكذا. فسيعاد إذن رسم الإنسان على اللوحة الفنية كرمز للإنسانية المتطورة، كشهاب يومض في ظلمة ليل بهيم، وليس كنجمة ماثلة في كبد السماء.

والواقع انّ التعبير في الفن البلاستيكي عن الإنسانية المتطورة هو التعبير عن (الإنسانية في حالة حركة)، عن الإنسان المتحرك. فإذا كانت مشكلة (احتضار الإنسان) هي معنى الفن الإنساني فإنّ التعبير عن الحركة فيه هو (الموقف).. التعبير عن تجاوز الإنسان النسخة لقالبه، وعن انسياب العناصر الفنية في مجالها في تجرد الملامح من ملامحها والموضوع من مناسبته، عن عرى الإنسان النسخة أمام الإنسان الحرية، نحو آفاق سرمدية لا معالم لأنسانها ولا مناسبة. انّ حلّ مشكلة (الفراغ والوقت) يتم حينئذ بضوء التعبير عن الحركة والديناميكية – وبصورة جذرية – في اعتبار العالم الفني قبل كلّ شيء عالماً فضائياً وليس عالماً للكتلة والظهور فحسب. أو بمعنى آخر أن ترسم فيه الأشياء وهي منظورة من شتى الجهات وليس من زاوية نظر واحدة (وهو ما كان بسبيله تذليله جميع المنجزات التكعبية من الناحية العقلية والفن المجرد من الناحية الروحية). وهكذا. فإزاء وجهة نظر كهذه تصل أزمة رفض السطح التصويري ببعديه، الطول في العرض إلى غايتها، وذلك حينما لم يدع الفراغ إزاءها تجسيداً صرفاً لقوانين المنظور الجوي بل التعبير عن رؤيا الأشياء وهي هائمة دونما منظور ما.. فهي في العالم ما بين أن تخضع لقانون السطح التصويري – ذي البعدين – وما بين إن تفلت من قبضة عالم الظهور – ذي الأبعاد الثلاث – كيما تصبح من عالم متعددة الأبعاد، عالم الأبعاد الست بل السبع.

أما بالنسبة للوقت فلن تقتصر حينئذ المشكلة على أن ينظر الإنسان في لحظة ما محدودة بزاوية النظر الواحدة وانما سينظر حينئذ في أي وقت، وفي لا وقت. والواقع انّ مسألة الوقت تكتسب معنى آخر حينما ينعدم الظهور كما يستحيل إلى حركة.. فهو ليس حقيقة الزمان كحاضر فحسب ولكن كماضٍ وحاضر ومستقبل في نفس الوقت. وإذن فالتعبير عن الإنسانية من الناحية الشكلية هو حرية العنصر الفني في مجال السطح.. فلا علاقات زخرفية ولا إيضاحية ولكن علاقات حيوية تترجم نفس الفكرة في جميع العناصر. فالتعبير عن الإنسانية في الناحية المضمونية هو الكشف عن (الحقيقة) خلال (النسخة).. الكشف عن الإنسانية خلال (الإنسان).

إنّ حركة الإنسان المرسوم – بشتى أشكالها المترجمة – هي تكامل الوعي الإنساني، وفهم قوانين الأداء العام وليس الاقتصار على التكنيك كمهارة إبداعية فحسب، والإنسان مهما كان كحقيقة مماثلة فهو شكل مبهم بمستطاعه أن يكون (أنا) كما انّ بمستطاعه أن يكون (الآخرين). وهو ذلك المخلوق الذي يمثل لي طفولتي وشبابي وشيخوختي كما يمثل لي حرتي وعبوديتي. انّه حرية الفرد واندماجه بالجماعة كما انّه عبودية الجماعة وحرية الفرد. انّه الضعف، وانّه القوة، فهو المخلوق... وباختصار هو كلّ من شأنه أن يختصر المعاني الإنسانية في معنى واحد، وأن يبلور الأبعاد البشرية في بؤرة واحدة. انّه بؤرة الضياء كما انّه انعدامه. فهو يولد ويموت، ينفرد ويجتمع، يتحرر ويستعبد على عدد اللحظات. على أنّه في حالة احتضار أزلي. وأي احتضار لإنسان مرسوم لا يكاد يوازي لدى الناظر الفج أيّة قيمة درامية إلّا في أن يكون مأساة موضوعية، أو مناسبة سعيدة.

لكنه كإدراك معنى (الضحية) في قطف (زهرة) من جنينة، وكإدراك معنى الطغيان في عقاب طفل بريء. فإذا ما قبلت التضحية كأمر مسلّم به وإذا ما قبل الطغيان كتبرير لاستمرار السلطة فأنّ في ذلك مسخاً مكيناً للمعنى الإنساني ونسفاً له من جذوره.

يرسم الشكل (أو اللا – شكل) الإنساني مفرداً أو مجتمعاً، وترسم البيوت والفضاء والأشجار. ترسم الأشكال الحيوية أو المجردة، لكن إنسانيتها هي في أن نغدق من مواهبنا ما سوف يحقق وحدة الفرد بالجماعة. والكائن البشري بالطبيعة. وجهد الإنسان بالإنسانية. فالمعنى الإنساني في الفن هو في آخر أشكاله التعبير عن الإنسان (من كونه إنساناً إلى كونه كائناً حيوياً فحسب).. انّه الحقيقة. حقيقة الإنسان الحي لأنّه حر:

بلا ماضٍ. وبلا مستقبل ولا حاضر (أو بهم جميعاً). بلا تعدد ما بين الأنا والهو، أو بهما معاً..

ولكنه أيضاً الشعور الدينامي، والحب العميم والإبداع.

 

المصدر: كتاب الحرِّية في الفن

ارسال التعليق

Top