◄المقصد التربوي للطهارة في الجانب الروحي للفرد المسلم:
أوّلاً: من روائع الإسلام أنّه جعل الطهارة من الحدث والخبث فرضاً ليصل المسلم إلى طهارة الجوهر مع طهارة المظهر، ولذا يقول الغزالي: إنّ أهم الأمور تطهير السرائر إذ يبعد أن يكون المراد بقوله (ص): "الطهور شطر الإيمان" عمارة الظاهر بالتنظيف بإفاضة الماء وإلقائه، وتخريب الباطن، وإبقائه مشحوناً بالأخباث والأقذار.." وذكر أنّ للطهارة مراتب أربعة هي: تطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث، ثمّ تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام، ثمّ تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة ثمّ تطهير السر عما سوى الله تعالى وهي طهارة الأنبياء والصديقين.
ثانياً: من أجل هذه الطهارة الظاهرة والباطنة يستحق هؤلاء المتطهرون حب الله جلّ وعلا. يقول سبحانه: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة/ 108)، وهذا الحب من الله تعالى لعبده يجلب للروح نقاء وشفافية تشرح الصدر وترضى النفس وتُسعد القلب.
ثالثاً: الوضوء يعيد للنفس نقاءها من الذنوب والمعاصي التي يرتكبها وذلك لما رواه مالك والنسائي وابن ماجه بسندهم عن عبد الله الصنابحي أنّ رسول الله (ص) قال: "إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، قال: ثمّ كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له". وروى البخاري ومسلم أنّ رسول الله (ص) قال: "لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء فيصلي صلاة إلّا غُفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها".
بهذا يكون الوضوء سبباً في عودة الروح إلى صفائها مثلما يعود الثوب الأبيض الملوث إلى نقائه بعد غسله وتنظيفه.
رابعاً: ربط أعمال الطهارة بالذكر الذي يطمئن القلب ويشرح النفس يتضح في كثير من الأحاديث منها ما يلي:
أ) روى مسلم بسنده عن أنس أنّ النبي (ص) كان إذا دخل الكنيف قال: "اللّهمّ إني أعوذ بك من الخبثِ والخبائث".
وإذا خرج من الخلاء بادر إلى ذكر الله تعالى: "غفرانك أو الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني".
ب) ما رواه أحمد وابن ماجه بسندهما عن أبي هريرة أنّ النبي (ص) قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه".
ت) ما رواه مسلم أنّ النبيّ (ص) قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثمّ يقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمّداً عبد ورسوله – إلّا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخلُ من أيها شاء".
هذا الثواب الجزيل لهذه الأذكار يعتبر غنيمة باردة ينبغي للعاقل أن يشتد حرصه عليها، ولا يكون ذلك للغافل الذي يُنسيه الشيطان ذكر ربه فيقسو قلبه، وترهق روحه، فيمتلئ صدره شغلاً وهماً وغماً ويتحول من السعادة إلى الضنك، ولا مخرج له مهما توفرت له أسباب الدنيا إلّا بالعودة إلى الله تعالى ذاكراً إياه بقلبه ووجدانه وجوارحه ولسانه.
خامساً: الطهارة من علامات الإيمان التي يعرف بها المؤمنون يوم القيامة، فلولاها لكان المؤمنون والكافرون في الهيئة يوم القيامة سواء ولكن الغُسل والوضوء والطهارة والنقاء يبعث في الوجه نوراً، وفي اليدين والرجلين ضياءً يعرف به الصالحون من الكالحين وفي ذلك يروى البخاري ومسلم أنّ النبي (ص) قال: "أنتم الغرُّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرّته وتحجيله". فإطالة الغرة في الوجه والتحجيل في اليدين والرجلين هما من العلامات المضيئة التي تشع النور يوم القيامة وبهذا ينال شفاعة النبيّ (ص) يوم القيامة.
سادساً: من أكبر الأدلة على صلة الطهارة الحسية بطهارة الروح أنّ ذلك التطهير لا يقتصر على الأحياء بل يُغسّل الأموات وجوباً. يقول الكاساني: هذا واجب من لدن سيدنا آدم (ع) إلى يومنا هذا، ويقول ابن حزم: وغسل كلّ ميت من المسلمين فرض ولابدّ، فإن دُفن بغير غسل أخرج ولابدّ. ذلك لأنّه قادم على الله تعالى وهذا يقين لا يخرج عنه مسلم فمن ثمّ وجب القدوم عليه في أحسن هيئة وأنقى طهارة، لكن هناك منزلة سامية يكون التطهير فيها بالعمل لا بالماء، بالتضحية لا بالغسل وهي منزلة الشهيد ذلك الذي قدم روحه خالصة لله تعالى راغباً في الشهادة، طامعاً في رحمة الله وجنته ورضوانه، فإنّ هذا الشهيد وإن سالت منه الدماء وهي في أصلها نجسة، لكن ذلك كلّه يتضاءل أمام هذه الطهارة المعنوية الروحية التي قدم فيها على ربّه ومن ثمّ فإنّه لا يحتاج إلى تغسيل ويكفن على حالته التي قُتل عليها ليلقى ربّه اللون لوم الدم والريحُ ريحُ المسك ويفاخر الله عباده أنّ هذا هو الشهيد الذي قدّم لله تعالى نفسه وماله.
سابعاً: في كثير من أحكام الطهارة ما يصدر عن تسليم لأمر الله دون تردد، وإن غابت الحكمة التي يدركها العقل أسلم القلب بأنّ هذا هو الحقّ والخير فمن لم يجد الماء تيمّم وهي طهارة حقيقية وإن كان ظاهرها مسّ التراب والمسح على بعض أعضاء الوضوء دون بعضها، وهي تغنى عن الغسل، ولذا لما عرض سيدنا عمار بن ياسر الأمر على عقله في أمر التيمم من الجنابة تقلّب فتمرّغ في التراب، لكن الأمر كلّه تعبديّ، يعنى مطلق التسليم لأمر الله تعالى، وهذا يعبر عن ثقة ويقين وسلامة الصدر من وساوس الشيطان أنّ العبد لا يطبق إلّا ما يعقله عقله ويطمئن إليه فؤاده، ومنه أيضاً المسح على ظاهر الخفين دون باطنهما، وطهارة ماء دون ماء، والوضوء من ريح الدبر والبول والغائط والمذي والودي، والغسل من نزول المني بشهوة. والمني أقل نجاسة من الغائط، لكن هذا يرجع إلى علم الله سبحانه والمسلم يصل من اليقين العقلي إلى التسليم القلبي، فعن طريق النظر في ملكوت الله تعالى ودقة صنعه، وبديع خلقه، والنظر في آيات القرآن وإعجازه يدرك أنّ كلّ حكم ورد بنص صحيح ثبوتاً واجب الاعتقاد والعمل به.►
المصدر: كتاب للعبادة أثر في الفرد (روحياً وأخلاقياً وعقلياً وبنياً)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق