• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوسيلة الصحيحة لتربية الاستعدادات الفطرية

مرتضى مطهري

الوسيلة الصحيحة لتربية الاستعدادات الفطرية

◄يتركز البحث هنا في معرفة الوسيلة الصحيحة لتربية الاستعدادات الفطرية عند البشر بحيث لا تؤدّي إلى أيّ من الاضطراب والفوضى والخلل، وإثبات أنّ التعاليم الإسلامية هي وحدها القادرة على تنمية هذه الاستعدادات، ومنها الاستعداد الجنسي، نموّاً طبيعيّاً. ويولّد الانحراف عن هذه التعاليم الاضطراب والفوضى، بل ويؤدّي إلى خَنْق الاستعدادات أو جرحها.

وعلينا الآن أن نلقي نظرة إلى المنطق الإسلامي في الأخلاق والتربية بصورة عامّة وموجزة.

 

(أ) الأخلاق الإسلامية وتطهير الوجدان:

يعتقد بعض أصحاب النظرة الضيّقة أنّ الأخلاق والتربية الإسلامية تقف في طريق النموّ الطبيعي للاستعدادات الفطريّة عند الإنسان، ويزعمون أنّها مبنيّة على أساس منع هذه الاستعدادات وكبتها، ويجعلون من التعابير الإسلامية في مجال تهذيب النفس وإصلاحها ذريعة ودليلاً لشنّ هجومهم هذا. وقد جاء هذا التأكيد في القرآن الكريم بعد تكرار عبارة القسم، قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشّمس/ 9)، أي أنّ الفلاح يكون من نصيب الذين يطهّرون أنفسهم من كلّ دنس. ويُفهَم من هذه العبارة القرآنية:

أوّلاً: احتمال تلوّث وجدان الإنسان.

وثانياً: أنّ تطهير الوجدان من هذا التلوّث يكون في يد الشخص نفسه.

وثالثاً: أنّ القرآن يوجب تطهير الوجدان من التلوّث الحاصل فيه، ويرى أنّ سعادة الإنسان وفلاحه متوقفان على هذا التطهير.

لا يمكن إنكار أيّ واحد من هذه الأمور الثلاثة، كما لا توجد عقيدة أو طريقة لا ترى احتمال تلوّث الوجدان عند الإنسان، أو لا توصي بضرورة تطهير النفس من ذلك التلوّث. فوجدان الإنسان كسائر أعضاء جسده معرض لحدوث الخلل والاضطراب فيه. والإنسان ما يطرأ على الروح الإنسانية من تلوّث واضطراب، لذلك فإنّ فلاح الإنسان متوقّف على طهارة نفسه وتوازنها. وعلى هذا افلا مجال للشبهة مطلقاً في التعبير القرآنيّ الآنف الذكر.

 

(ب) القرآن الكريم والنفس البشريّة:

وصف القرآن الكريم النفس البشريّة بأنّها (لأمَّارَةٌ بالسُّوءِ) (يوسف/ 53)، بمعنى أنّها تأمر صاحبها بالشرّ. وهذا التعبير يُوجد في الأذهان السؤال التالي: هل ينظر القرآن الكريم إلى الطبيعة البشريّة على أنّها شرّيرة؟ فإذا كان القرآن يرى – من جانب فلسفته النظرية – أنّ طبيعة النفس البشريّة شرّيرة بالذات، فلا مناص إذاً من أن يختار في فلسفته العمليّة طريقة تخطّئ تربية هذا الموجود الشرّير ذاتياً وإنمائه، وتجعل هذا الموجود دائماً ضعيفاً مسلوب القدرة وتضغط عليه وتؤذيه وتمنع كلّ نشاطاته، بل حتى تقضي عليه أحياناً.

ولكنّ القرآن الكريم لا ينظر إلى طبيعة النفس الإنسانية من الأساس نظرة نرى أنّها شرّيرة بالذات، بل يرى أنّ هذه الطبيعة تتمرّد في ظروف خاصّة ولأسبابٍ وأعراضٍ معيّنة ويصدر عنها الشرّ. ومعنى هذا أنّ القرآن لا يسيء الظنّ في فلسفته النظريّة بطبيعة النفس الإنسانية، ولا يَرى أنّها أصل الشرّ. ولذلك فإنّ الأسلوب الذي يختاره في فلسفته العملية هو الابتعاد عن كلِّ ما من شأنه تعريض النفس الإنسانية إلى الفناء أو الضعف أو دفعها إلى التمرّد.

 

(ج) علل تمرّد القوى النفسيّة:

أثناء البحث عن علل تمرّد القوى النفسيّة ينشأ السؤالان التاليان:

1-     ما الذي يدفع بالقوى النفسيّة عند الإنسان إلى التمرّد والاضطراب والفوران؟

2-     وكيف السبيل إلى إعادة الهدوء لهذه القوى وإرجاعها إلى حالة التوازن؟

السؤال الأوّل: ما الدافع إلى التمرّد؟

     ما الذي يدفع بالقوى النفسيّة عند الإنسان إلى التمرّد والاضطراب والفوران؟

اكتفى أصحاب النظرة الضيّقة، وبمقدار ما عرفوا أنّ الإسلام قد ذكر النفس البشريّة بأنّها (أمّارةٌ بالسُّوءِ)، بهذا القدر دليلاً لإتهامهم الأخلاق والتربية الإسلاميّة بأنّها تسيئ الظنّ بالاستعدادات الفطريّة والمصادر الطبيعية للوجود البشري، وأنّها ترى إنّ طبيعة النفس الإنسانيّة شرّيرة بالذات، وأنّها ترى من الخطأ تربية هذه الاستعدادات، وما إلى ذلك.

من الواضح خطأ هذا التصوّر. وإن كان الإسلام قد ذكر حقيقةً أنّ النفس البشريّة (أمّارَةٌ بالسُّوءِ) ولكنه سمّاها في مكان آخر بـ(النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أي أنّها تلوم صاحبها عند ارتكابه الشرّ، كما وصَفَها في مكان ثالث بأنّها (النَّفْسُ المُطمَئِنَّةُ) أي التي وصلت إلى مرحلة الهدوء والكمال.

نفهم من ذلك أنّ طبيعة النفس الإنسانيّة (من خلال نظرة القرآن الكريم) يمكن أن تمرّ بثلاث مراحل، ففي إحداها تأمر بالشرّ أو السوء، وفي الثانية تلومه لارتكابه الشرّ، وفي الأخيرة يصيبها الهدوء والسكينة ولا تدور حول محور الشرّ والسوء.

وعلى هذا الأساس فالإسلام لا يرى شرّاً ذاتياً في طبيعة النفس الإنسانية، وفلسفته العملية لا تتبع طريقة القضاء على القوى النفسية أو على الأقلّ كبتها أو حبسها، كبقية الأنظمة الفلسفية أو التربوية.

إذا كان موضوع دفع النفس البشريّة لصاحبها إلى ارتكاب الشرّ في بعض المراحل أو الظروف وخلقها حالة خطيرة بسبب ذلك، يلفّه الغموض في الماضي البعيد، فاليوم وعلى أثر التقدّم الحاصل في مجال علم النفس والبحوث النفسية أصبح شيئاً طبيعياً لا لبس فيه.

اللافت للانتباه أنّ القرآن الكريم عند وصفه للنفس الإنسانيّة لم يطلق عليها "داعية السوء" بل قال عنها إنّها (أمّارةٌ بالسُّوءِ)، وهو يريد بهذا التعبير أن يبيّن أنّ العواطف والمشاعر النفسية عند الإنسان إذا تمرّدت لا تدفعه إلى الجريمة والأعمال الانحرافية بل تتحكّم فيه كسلطة ديكتاتوريّة مستبدّة. والقرآن الكريم بذلك التعبير يبيّن هذه السيطرة والهيمنة الطاغية للقوى النفسية التي تعيش حالة التمرد على الاستعدادات الإنسانية السامية. وهذا سرّ لم يكتشفه علم النفس إلّا في الفترات القريبة.

ثبت اليوم أنّ المشاعر المنحرفة تتحكّم أحياناً وبشكل ظاهر في جهاز الوعي عند الإنسان فتفرض نفسها بالقسر والقوّة عليه. ويقوم جهاز الإدراك عنده وبصورة لا إرادية بتنفيذ الأوامر الصادرة عن هذه المشاعر.

السؤال الثاني: كيف نعود إلى التوازن؟

ما هو السبيل إلى إعادة الهدوء لهذه القوى وإرجاعها إلى التوازن؟

سنتعرّض لبحث للجواب على السؤال الثاني أثناء الحديث عن قاعدة الأخلاق الجنسيّة الجديدة أي في بحث "الأساس النفسي" لهذه الأخلاق تحت عنوان "الشعور بالحرمان أسهل الطرق للأمراض النفسيّة".

يمكن أن يُطرح سؤال نابع من طريقة خاصّة في فهم الدين، وهو: لو كانت الأخلاق الإسلاميّة ترى أنّ الاستعدادات الطبيعية للإنسان يجب أن لا تُمسَّ بسوء، فما هو معنى قتل النفس، أو إماتتها، هذا التعبير الذي يرد أحياناً في المحافل الدينية أو على الأقلّ على لسان معلّمي الأخلاق الإسلاميّة؟ ماذا يعني هذا التعبير وأي مفهوم فيه؟

والجواب على هذا السؤال هو أنّ الإسلام لا يدعو إلى إبادة الطبيعة النفسية أو الاستعداد الفطريّ، بل يأمر بالقضاء على النفس الأمّارة بالسوء.

فإنّ النفس الأمّارة بالسوء تمثّل الاضطراب والفوضى ونوعاً من التمرّد والعدوان اللذين يظهران على وجدان الإنسان لأسباب معيّنة، فقتل النفس الأمّارة بالسوء ليس معناه إلا إطفاء نار الفتنة والتمرّد في القوى والاستعدادات النفسية. وإطفاء نار الفتنة يختلف عن قتل القوى التي تولّد الفتنة. وإنّ إخماد نار الفتنة سواء أكانت اجتماعية أم نفسية لا يستدعي القضاء على الأفراد أو القوى التي سبّبت تلك الفتنة، بل يستلزم إزالة العوامل التي دفعت بالأفراد أو القوى إلى الفتنة.

ويجدر أن نضيف هنا أنّ التعابير الدينية لا تتضمّن عبارة بمعنى "قتل النفس"، وما تتضمه لا يتجاوز بالطبع الموردَين أو الثلاثة، وقد أتت بصورة "إماتة النفس".

 

المصدر: كتاب الحب والعفاف

ارسال التعليق

Top