• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مرآة الإسلام ومرايا البشر

أ. د. محمود عباس

مرآة الإسلام ومرايا البشر

◄إذا نظر الإنسان إلى نفسه في مرآة الإسلام عرفها على حقيقتها دون تزييف أو خداع، عرفها أمّارة تأمر بالسوء فيحذرها، ويعرفها لوّامة تلوم على الشر فيستجيب لها ويطيعها وهذا ما يطلبه الإسلام (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10)، ولكن إذا نظر الإنسان إلى نفسه وأحواله في المرايا التي صنعها البشر من مذاهب وفلسفات عصرية فإنّه يرجع من النظرات مخدوعاً لا يعرف حقيقة النفس ولا طبيعة الحياة لأنّ المذاهب البشرية متقلبة تشبه عروض الأزياء وخدّاعة لا تعكس لك الحقيقة وإنما تُزيف الأمور فتريك الأشياء الصغيرة الحقيرة في صورة كبيرة تلفت الأنظار كأنك تنظر إلى الدنيا ومتعها في مرآة محدبة، وتعكس لك الأشياء العظيمة الكبيرة في صورة صغيرة هزيلة تدعو إلى النفور والاستهانة كأنك تنظر إلى الدين والقيم والأخلاق في مرآة مقعرة، فتتضاءل في نفسك كلّ القيم، وتستهين بكلِّ معنى يمثل في حياتك قيمة لأنك تنظر إلى الدنيا في المرايا التي صنعها لك العالم المتمرد وزيّنها لك الشيطان، ولم تنظر إليها في مرأة الإسلام فأصبحت مخدوعاً لا ترى في نفسك ولا حياتك رزقاً ولا نعمة إلا الدرهم والدينار أو اليورو والدولار، حتى صرت ذاهلاً مغيباً عن قول مولاك جلّ في علاه: (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 20-21).

ولكن كيف تبصر الحقيقة بعيون معطلة وأنت تنظر إلى الدنيا بعيون غيرك حتى أصبحت لاترى لله في نفسك نعمة ولا في الحياة رزقاً إلا المال والمنصب والوجاهة، ولو دقّقت النظر في مرآة الإسلام لرأيت في نفسك ثروة كبيرة لا تحاكيها ثروة المال، حدث في عهد التابعين أن شكا أحدهم قلة المال وسوء الحال، فرد عليه التابعي الجليل بهذا السؤال: أتبيع عينك بمائة ألف؟ أتبيع سمعك بمائة ألف؟ أتبيع لسانك بمائة ألف؟ أتبيع قدميك بمائة ألف؟ أتبيع يديك بمائة ألف؟ أتبيع عقلك بمائة ألف؟ وظل التابعي يردد عليه الآلاف والرجل يقول في كل مرة: لا. فقال له: كيف تزعم أنك فقير وأنت تملك هذه الثروة؟ لكن يبدو أنّ هذه الثروة في عالم اليوم صارت مغرية يسيل لها لعاب المتاجرين بالأعضاء البشرية بعد أن إرتفعت أسعارها في الأسواق، وصارت الأكباد والكلى أعلاها سعراً وثمناً، إنها تجارة معروفة في العديد من بلاد العالم فلماذا لا نصاب بعدواها ونحن ننظر إلى الدنيا بمنظار العالم وفلسفته المادية، وماذا كانت العواقب المؤسفة يا فلاسفة المادة. أمراض نادرة مستعصية على العلاج وأسبابها حددها الإسلام وحذر منها قبل أن يظهر الطب، وأمراض لا يصلح فيها إلا قطع الغيار من أعضاء البشر فاللهم رحماك بكلِّ مريض يتوجع ورحماك وهدايتك لكلِّ غافل يبيع ما لا يملك طمعاً في المال. ولا تؤاخذنا بما فعال السفهاء منا.

نخدع أنفسنا إذا قلنا إن في مجتمعنا حرماناً أو جوعاً يحمل الآباء على بيع أولادهم أو يضطر الإنسان إلى بيع أعضائه البشرية ونكذب على أنفسنا إذا صدقنا بأنّ في المجتمع المسلم اليوم فقيراً أو محروماً يبيت طاوياً من شدة الجوع كما كان يبيت فقراء الصحابة والتابعين (رض). ففقير اليوم لا يرضيه أن يبيت آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه، وتلك هي حيازة الدنيا كما أخبر رسول الله (ص)، ولكننا حين نظرنا إلى الغني والفقير بمنظار العالم المادي صار الغني لا يشبع والفقير لا يقنع فالمسألة مسألة إيمانية وفقرنا اليوم فقر أخلاقي تحكمه النسبية، فالغني ينظر إلى من فوقه فلا يشعر بالكفاية والفقير لا ينظر إلى من دونه في الحظوظ حتى يقنع بما عنده فكلا الغني والفقير يجعل الله فقره بين عينيه إذا لم يقنع كما علمنا الإسلام والإنسان إذا لم يؤمن إيماناً جازماً بان الله هو الرزاق وأنّه سبحانه (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) (العنكبوت/ 62)، فلا تلتمس له عذراً في سلوك يغضب الله وإلا كنا كالمجتمعات التي تلتمس الأعذار للمجرمين والمجرمات بحجة أنهم ضحايا المجتمع أو ضحايا الجوع والحرمان. وفي المثل العربي: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها"، والإسلام لا يعرف مسلماً يبيع دينه وأخلاقه أو يبيع نفسه وأولاده أو يبيع عرضه وشرفه من أجل المال لأنّه مؤمن بأن الله يرزق النملة ولو كانت في قلب الحجر، فدعونا من فلسفة شعوب تمردت على الله فرخصت في الأعراض من أجل المال، وباعوا الذمم من أجل المال، وإمتهنوا النفوس من أجل الماء والإسلام يدعو إلى الرحمة بالفقير والمحروم ولكن لا يلتمس له العذر إذا صار مجرماً (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) (النساء/ 135).

 

المصدر: كتاب (القرآن وقضايا العصر)

ارسال التعليق

Top