• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

بالسلم وحده يحيا الإنسان

عبدالكريم ناصيف

بالسلم وحده يحيا الإنسان

  عالمنا الجميل هذا لماذا يشوهه الإنسان؟ كوكبنا الرائع لماذا يخربه؟ جنتنا هذه لماذا يحيلها إلى جهنم؟ تساؤلات تخطر في كل بال والمرء ينظر إلى ما حوله فلا يرى إلا القبح والدمار، والفظائع والأهوال: طائرات تقصف البشر، تدمر البيوت، تقتل الأطفال الأبرياء، شعوب تحاصر حتى الموت جوعاً، بلدان تهدد حتى الموت خوفاً والوحش الفاتك يجوس العالم باطشاً هنا، مروعاً هناك وليس هنالك من أوديب قادر على قتل الوحش.

لقد تقدم الإنسان، أرتقى مدارج الحضارة، صنع تكنولوجيا، ازداد علماً ومعرفة، رغم ذلك مازال للشر فيه نصيب كبير، جذوره تضرب عميقاً في تربته، لكأنه ورث عن إنسان الغابة نزوعه لأن يشابه وحوش الغابة شراسة وضراوة، لكأنّه ورث عن تلك الوحوش التي هزمها نهمها الذي لا يشبع، غرائزها التي لا ترتوي، حبها للافتراس والفتك، للسيطرة والبطش لكن بدلاً من أن يحارب وحش الغابة تحول إلى أخيه الإنسان يحاربه ويبطش به، يفترسه ويفرض سيطرته عليه. وكيف؟ بالقسوة والعنف، بل بأشد أشكال القسوة تدميراً وأفظع ألوان العنف وحشية. وإذا كانت البشرية قد عرفت في تاريخها الطويل قيام إمبراطوريات وصراع ممالك، حروباً وغزوات، لهذا السبب أو ذاك فإنّ العصر الحديث وحده ينفرد بظاهرة خطيرة، ظاهرة منظمة مبرمجة، لها وسائل محددة، وغايات محددة هي: الاستعمار. عصرنا الحديث وحده هو الذي شهد تركز هذه الظاهرة في أوربا واستفحالها لدى الغرب بعد أن ظل هذا الغرب قروناً من الزمن يقتتل ويتصارع إلى إلى أن اتفق على التصالح الذاتي من أجل السيطرة على الآخر، منهياً بذلك مرحلة الصراع مع الذات ليدخل في صراع مع الآخر، يسيطر عليه ويقتسم النفوذ والهيمنة على أراضيه. هكذا فعلت الدولتان الاستعماريتان الأساسيتان في أوروبا وهما تدخلان القرن التاسع عشر لتباشرا بسط نفوذهما في شرقي الأرض وغربيها، متفقتين على ألا تختلفا، متعاهدتين على ألا تتصارعا، فالعدو هناك في آسيا، أفريقيا، أوقيانوسيا.. استخدمتا شتى الوسائل، مارستا كل أشكال العنف: القتل، التهجير، النفي، التجويع، الذبح، الأرض المحروقة، الأرض المسروقة... كل شيء فعلته الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وتوأمهما الامبراطورية التي لا يغيب عنها القمر كي ترسخا جذورهما الاستعمارية في الأرض، حتى بدت الأرض كلها، ذات يوم. ملكاً لهما تفعلان بهما ما تشاءان. لكن ما إن جاء القرن العشرون حتى ظهرت قوى جديدة تنافس قوى الاستعمار تلك وتريد حصتها من الأرض. هي من الغرب ذاته، مركز النهضة ومنطلق التقدم التكنولوجي والعلمي المتفوق على الجنوب والشرق، والقادر أن يمارس عليه شتى أشكال العنف. لكن هل يرضخ الآخر الاستعماري؟ هل يسلم بشبر من الأرض التي يسيطر عليها؟ واندلع الصراع من جديد: صراع المصالح والاستعمار، وكان القرن العشرون أكثر القرون دموية وتدميراً، وحشية وتخريباً. إنّ نظرة واحدة نلقيها على نتائج تلك الحروب والصراعات الاستعمارية تبين لنا فداحة ما لحق بالبشرية جراء الاستعمار، إذ تقول الإحصائيات: في الحرب العالمية الأولى بلغ عدد الشعوب التي أعلنت الحرب على بعضها بعضاً – 1.5 – مليار من البشر ينتمون إلى ثلاث وثلاثين دولة قامت بتعبئة سبعة ملايين مقاتل وبلغت خسائرها البشرية عشرة ملايين قتيل وعشرين مليون جريح، كما بلغ حجم الخسائر المادية مئتين وثمانية مليارات من الدولارات.

في الحرب العالمية الثانية بلغت الخسائر سبعة عشر مليون قتيل من الجنود وثمانية عشر مليوناً من المدنيين، إضافة إلى أضعاف هذه الأرقام من الجرحى والمشوهين، اليتامى والمشردين... إلخ، فيما بلغت النفقات العسكرية للحرب ألفاً ومئة مليار دولار وإجمالي خسائر الحرب في العمران والصناعة وبين المدنيين الفين ومئة مليار دولار علاوة على المواشي التي قتلت، المناجم التي دمرت، المصانع التي احترقت، المدن التي هدمت. الطيار الأميركي بول جيردوم بعد أن ضرب هيروشيما بقنبلته الذرية أرسل البرقية التالية: "رأيت المدينة وهدمتها" فأية وحشية أشد من وحشية الإنسان هذه: بقنبلة واحدة يدمر مدينة بكل مافيها من بشر وحيوان، نبات وعمران... وتكون نتائج الحربين العالميتين الأشد وحشية في تاريخ البشرية: أكثر من مئة مليون من البشر بين قتيل وجريح والخسائر المادية أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة مليار دولار!! إنّه لشيء أشبه بالجنون، الأمر الذي دفع بالكثيرين لأن يبحثوا عن مخرج.. أن يجدوا وسيلة لإنهاء التنافس، لاجتثاث الاستعمار... فكانت في البداية عصبة الأمم، تلك التي تآمر عليها الاستعماريون أنفسهم إلى أن حولوها إلى مطية ثم كسيحة عاجزة، لكن خوف الإنسان من شرور الإنسان، خشيته من وحشية أخيه الإنسان دفعته للبحث عن وسيلة جديدة فكانت هيئة الأمم المتحدة التي عقدت عليها الآمال لإنقاذ البشرية من براثن الاستعمار وتصفية الاستعمار... لكن هل تحقق هذا الحلم؟ هل بلغ الإنسان هذا الأمل؟ الإحصائيات أيضاً تقول إنّه ما بين إنشاء هذه الهيئة وتسعينيات القرن العشرين نشبت مئة وتسع وأربعون حرباً قتل فيها أكثر من ثلاثة وعشرين مليون إنسان وتركت من الدمار والخسائر مالا يعد ولا يحصى... لماذا؟ لأنّ الشر نفسه مازال متمكناً من الإنسان ولأن غريزة التملك والسيطرة ما تزال هي المهيمنة على الإنسان. صحيح أنّ الصورة تبدلت، وقوى الاستعمار تغيرت فحلت قوة محل أخرى، وهيمنت دولة على العالم محل أخرى إلا أن جوهر الأمر ما يزال هو نفسه: الشر، العدوان، البغي ما تزال هي وحدها صاحبة القوة، تريد الاستئثار بكل شيء والسيطرة على كل شيء حتى على هيئة الأُمم المتحدة نفسها لتصبح أداة ووسيلة بدلاً من أن تكون المرجع والحكم، وتتكرر المأساة نفسها دون أن تتعلم قوى الشر والاستعمار تلك من دروس التاريخ ودون أن تتعظ من عبر السلف... فالدم لا يجر إلا الدم والعنف لا يجر إلا العنف والاستعمار والهيمنة لا يجران إلا الرفض والتمرد لتنشب حروب من جديد ويحدث دمار من جديد، بينما تتسع الأرض للناس جميعاً إن عاشوا أخوة متعاونين متأزرين، يسودهم الأمن والسلام، ذلك أن عِبَر التاريخ كلها تقول: بالأمن وحده يكون النماء والازدهار وبالسلم وحده يحيا العالم بل يصبح الأجمل والأروع.

 

كلمة أسرة البلاغ: تعقيباً على ما تفضل به الباحث الكريم ونحن نعيش هذه الأيام نشهد من الوحشية والظلم ما لم نشهده في فترة زمنية أخرى فالباحث يقول في مقطع من البحث مات هكذا عدد من الجنود أي يتحدث عن معارك وأرض معركة لكن الآن ما نراه هو حرب على المدن والمدنيين ولا نعلم أين هي المنظمات التي ذكرت وأين هي منظمات حفظ حقوق الإنسان! والحديث يبقى لكم أنتم قارئين هذا البحث.   المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 461 لسنة 2002

ارسال التعليق

Top