• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النظم والانضباط

مركز نون للتأليف والترجمة

النظم والانضباط

تمهيد:

إنّ التكاليف الإلهية كما قد تتوجّه إلى أفراد المؤمنين، فإنّها قد تتوجه إلى جماعة المؤمنين؛ فهناك مجموعة من التكاليف تتوجّه إلى مجتمع المؤمنين، كإقامة العدل والدفاع عن الإسلام..

وهنا إذا أراد المؤمنون أن ينجحوا في أعمالهم، ويصلوا إلى أهدافهم، لابدّ لهم من مراعاة مجموعة من العوامل والشروط التي تعدّ أساسية للنجاح في أعمالهم الإدارية والاجتماعيّة..

ومن أهمِّ تلك العوامل هو نظم الأمر والانضباط أثناء العمل.

إنّ الإسلام كما يريد للفرد أن ينجح في أعماله، ويستقيم في أموره، وأن يجهد في تزكية نفسه، ليصل إلى مقام القرب، فإنّه يؤكّد على الأخذ بتلك الأسباب السياسيّة والإداريّة التي يكون لها نتائج ترتبط بنجاح الأهداف الكبرى والعامّة لمجتمع المؤمنين.

إنّ نظم الأمر وتنظيم شؤوننا وحسن الإدارة، يجب أن يشمل جميع مجالات حياتنا، سواءً منها الفردية أم الاجتماعية، ولا نستطيع أن ننظّم أمورنا العامّة إذا لم ننجح في تنظيم أمورنا الفردية، وقد اعتنى الإسلام بكلِّ هذه المجالات ابتداءً من استغلال الوقت، إلى الاستفادة من كلّ الطاقات التي منحها الله تعالى للإنسان.

 

1-  التقوى ونظم الأمر:

إنّ التقوى شرط أساس، لكنّها لا تكفي لوحدها حتى ننجح في أعمالنا العامّة وإداراتنا، بل لابدّ من مراعاة جملة من الأمور التي ترتبط بالتدبير وحسن الولاية ونظم الأمر. يقول أمير المؤمنين (ع) لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام): "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم".

وهنا يجب التأكيد على العلاقة الوثيقة بين التقوى ونظم الأمور، وعلى الحاجة إليهما معاً، لأنّ الاعتماد على أحدهما دون الآخر لن يوصلنا إلى المطلوب، ولحساسيّة هذا الموضوع وأهميّته، تصدّى القرآن له، وبيّن التنظيم الدقيق، سواء في المجال التكوينيّ (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 40)، أم في المجال التشريعيّ والسياسي، يقول أمير المؤمنين (ع) في وصفه للقرآن: "ألا إنّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم".

 

2-  النظم في التشريع الإسلامي:

وهنا نشير باختصار إلى بعض قوانين الإسلام في عالم النظام والانضباط، تشمل مختلف أبعاد حياة الإنسان:

أ‌)       في العبادة:

النظام والانضباط في العبادة؛ يعني الاعتدال الذي تفيد مراعاته في استمرارها ودوامها.

وهو أيضاً البعد عن الإفراط والتفريط؛ الذي يؤدّي إلى التعب والنفور وقساوة القلب.

فينبغي أن يرفق الإنسان بنفسه حال الإتيان بالعبادة، فيؤدّيها بحسب قابليّته واستعداده النفسيّ.

عن الرسول (ص): "إنّ هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله".

وعن الإمام الصادق (ع): "لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة".

فالإتيان بالعبادة ينبغي أن يصاحبه رغبة وميل، لأنّ إلزام النفس بكثرة التكاليف العبادية المستحبّة يثقل عليها، ممّا يسبّب حالة من النفور والفرار من العبادة، حتى يحمل الإنسان نفسه عليها حملاً، قد يؤدّي به الأمر إلى تركها من الأساس، مع ما يصاحبه من إحساس بالتقصير والبعد عن الله.

ب‌) في الحياة الشخصيّة:

يهتمّ الإسلام برعاية النظام والعدالة في حياة الفرد المسلم، بما يشمل مختلف شؤونه الحياتيّة، منها:

1-  النظافة:

عن رسول الله (ص) أنّه قال: "إنّ طيّب يحبّ الطيّب، نظيف يحبّ النظافة".

وقال (ص): "تنظَّفوا بكلّ ما استطعتم، فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة، ولن يدخل الجنّة إلّا كلّ نظيف".

وصحيح أنّ الاهتمام الأكبر ينبغي أن يتوجّه إلى تنظيف القلب الذي هو الأساس: "إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". غير أنّ الإسلام اهتمّ برعاية النظافة والصحّة في الهيئة واللباس، باستعمال المشط والسواك والتطيّب والتزام حسن الظاهر.

2-  الترتيب:

أولى الإسلام الترتيب وحسن الهيئة اهتماماً في تعاليمه الأساسية، فعن جابر بن عبدالله قال: أتانا رسول الله (ص) فرأى رجلاً شعثاً قد تفرَّق شعره، فقال (ص): "أمَا كان يجد ما يسكّن به شَعْرَهُ".

وكان (ص) كلّما أراد الخروج إلى المسجد، أو لزيارة بعض أصحابه، ينظر في المرآة، أو في صفحة من الماء الصافي، فيمشط شعره، ويرتّب ثيابه، ويتعطَّر ثمّ يقول (ص): "إنّ الله يحبُّ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّأ لهم ويتجمَّل".

فالإسلام يريد للإنسان المؤمن أن يظهر في مجتمعه على أكمل وجه، وأحسن صورة ليعكس، إلى جانب سلوكه العمليّ، حضارة هذا الدين وكماله.

3-  الاعتدال في المصرف:

ينبغي مراعاة حدّ الاعتدال والتوازن، وعدم الإفراط والإسراف، في موارد الطعام والشراب واللباس، وشؤون الحياة وزاد السفر والحضر...

والتنظيم في المصرف يعني وضع برنامج محاسبة دقيقة لموارد الدخل والإنتاج والمصروف، وموارد الإسراف والتبذير، حيث يتمّ اجتناب الفوضى التي تؤدّي إلى الضياع والفقر.

فقد ذمَّ الله سبحانه وتعالى المبذّرين والمسرفين في كتابه العزيز، بقوله: (.. وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 26-27).

وقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).

وفي حديث للإمام العسكريّ (ع) يقول فيه: "إيّاك والإسراف فإنّه من فعل الشيطنة".

وهذا التأكيد على التنظيم في المصرف لا يقف عند حدود الحياة الشخصيّة، بل يطال أيضاً موارد الأموال العامّة وبيت مال المسلمين.

فالحكومة تستطيع أن تخطو في إدارة المجتمع خطوات واسعة إلى الأمام، إذا جعلت لمصارفها برنامجاً وتخطيطاً مدروساً، يقوم على أساس الاحتياجات الضرورية لأبناء المجتمع.

ت‌) في العلاقات الاجتماعية:

1-  تنظيم الوقت:

أحد عوامل توفيق الإنسان في علاقاته وأموره الاجتماعية هو الاستفادة الصحيحة من الوقت، وتنظيم برنامج الأعمال والمطالعات واللقاءات وغيرها. وتجنّب الفوضى التي تؤدّي إلى الحرمان من كثير من الفرص والندم عليها.

ففي وصيّة أمير المؤمنين (ع) الأخيرة لولديه يقول: "أوصيكما وجميع أهلي وولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم".

فبقدر ما ينظم المرء أوقاته على الأعمال، بقدر ما يوسّع على نفسه ليجد متّسعاً من الوقت، لم يكن ليحصل عليه لولا هذا الأمر.

وقد قسَّم الإمام الكاظم الأوقات إلى أربعة فقال (ع): "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان الثقاة الذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرّم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات".

2-  العهود والعقود:

من مظاهر النظام في الإسلام أيضاً العمل بمقتضى العهود والعقود وتنفيذها بدقّة، حتى يتمّ قطع طريق الإنكار وبروز الاختلافات فيما بعد. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ...) (البقرة/ 282).

وفي آية أخرى تأكيد على الوفاء بالعهد: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) (الإسراء/ 34).

وقال رسول الله (ص): "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد".

هذا الإهتمام بضرورة الالتزام بالوفاء بالعهد مطلوب، حتى مع غير المسلمين ولو كان عدوّاً، وفي ذلك يشير أمير المؤمنين (ع) في عهده لمالك الأشتر، بقوله: "وإنْ عَقَدْتَ بينَكَ وبينَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أو ألبستَهُ منكَ ذِمَّةً فحُط عَهدَكَ بالوفاء وارعَ ذمّتك بالأمانة".

وإذا كان هذا الحال مع الأعداء، فإنّ الرعية أولى بالوفاء بالعهد بل والإحسان والعطف، وفي ذلك يتابع أمير أمير المؤمنين (ع) قوله لمالك الأشتر: "وأشعِرْ قلبَكَ الرَّحْمَةَ للرَّعيَّةِ والمَحَبَّةَ لهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ، ولا تكُونَنَّ عليهِمْ سَبُعاً ضارِياً تَغتَنِمُ أكلَهُمْ، فإنَّهُم صِنفَانِ: إمَّا أخٌ لكَ في الدِّين، وإمّا نَظيرٌ لك في الخَلقِ".

ث‌) الحرب وشؤونها:

إنّ التزام النظام، والانضباط في الحرب، يشكّل عاملاً مهمّاً من عوامل النصر المضافة إلى العوامل الأخرى، كالإيمان بالله، والتوكّل عليه، وتدبير القيادة ووحدتها، والالتزام بالأوامر والنواهي القيادية..

وهذا التنظيم واجب في التدبيرين النظريّ والعمليّ في جهاز الدعم في ساحة الجهاد، وفي ترتيب صفوف الجند والوحدات العسكرية، وكذلك في توقيت الهجوم والإنسحاب، حتى فترات الاستراحة، وذلك لئلّا يضيع الكثير من الجهود ويؤدّي ذلك إلى الهزيمة.

وقد كانت سيرة الرسول (ص) كذلك في حروبه، فهو (ص) قبل دعوته للتعبئة العامّة كان يجمع الأفراد، ويكلّف كلّ شخص بتكليف معيّن لا يتعدّاه لغيره. ومن لوازم النظام التزام العناصر بأوامر القادة، وعدم تخلّفهم أبداً عن ذلك، وبعدهم عن القرارات الذاتيّة، والانفعالات العاطفيّة وغيرها، من الأمور التي قد تؤدّي إلى الهزيمة.

وفيما يتعلّق بالإهتمام بالنظام حتى في فترات الاستراحة وأخذ الإجازات يقول تعالى في كتابه الكريم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النّور/ 62).

وهكذا ينبغي للمجاهد أن يجعل أمر النظام والانضباط في الحرب بكلِّ شؤونها نصب عينيه، وموضع إهتمامه، حتى يتحقّق النصر والعزّة للإسلام والمسلمين بعون الله تعالى.

 

المصدر: كتاب دروس في تزكية النفس

ارسال التعليق

Top