• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

بين مثقف السلطة و مثقف الشعب

عبدالله القاسمي

بين مثقف السلطة و مثقف الشعب

للثقافة دورهام  وتأثير بالغ في سيرورة إيلاء التوجيهات والاتجاهات العقلانية للفرد فهي تساعد على إعطاء صورة قيمية للواقع الحياتي المعاش بل قد تعكس أيضا صورة انطباعية وايجابية عن أي فرد أو مجتمع يتحلى بها او ينهجها. من هذا المنطلق يقتضي على الإنسان أن يولي اهتماماً بالغاً إزاء عملية التحصيل الثقافي لا سيما في خضم الحياة المعاصرة فقد أصبحت للثقافة أهميتها ومدى فاعليتها وجدوى  تتجلى  في حركية الواقع المعقد الذي يشتمل على المعارف والأفكار أو العادات والمعتقدات أو القوانين والأخلاق والتقاليد والفلسفة والفنون والأديان التي اكتسبها الإنسان من مجتمعه بوصفه عضواً فيه .
ومن خلال ذلك نستطيع أن نقوم بعملية تكوين وإنتاج وبلورة ما نريد توظيفه من مفاهيم ومضامين ثقافية تتناسق وتتسق مع ما نواجه أو نقابل في حياتنا المعاصرة وهنا تكمن أيضا أهميتها وفائدتها ووظيفتها في كيفية تفعيل الحلول المواتية لكافة المعضلات والمشكلات الحياتية، وإذا كان الأمر كذلك . فعلينا ان ندرك مدى خطورة الدور الذي يضطلع به المثقف باعتباره صانع ذلك الحراك . و بالنظر في المثقفين العرب نقف عند نوعين من المثقيفين هم مثقفي السلطة و مثقفي الشعب ،و نعني بمثقفي السلطة الأغلبية الساحقة من المثقفين الذي اصطفوا وراء الحاكم الظالم يروجون لمشروعه اللاوطني المتمثل في ضرب الهوية الوطنية و يشرعون لدكتاتوريته من خلال نشر ثقافة التمييع و الاستلاب و يكرسون لواقع الهزيمة و العمالة من خلال الترويج للمشروع الثقافي الغربي و الدعوة للتطبيع و غالبا ما يغلب على هذا الصنف من المثقفين الانتهازية و الوصولية و يقدمون المصلحة الشخصية على المصلحة العامة باعتبار ان تقربهم من المستبد ينبع من رغبتهم في تحقيق مصلحة آنية  . و على النقيض من هذا المثقف نجد  مثقف الشعب و هو ذلك الشخص الذي يملك قدرا من المعرفة تمكنه من قراءة أوضاع المجتمع وتحليلها وتحديد أبعادها ، انه ذلك الشخص الذي يعي الواقع ويعمل على تغييره إلى الأفضل يستجيب لنداء الفقير والضعيف وينصف المقهور والمظلوم وهو ما يعرف بالمثقف الملتزم .
و يحتدم الجدل عادة حول  دوره  وملامحه ومسؤوليته تجاه الفكر والثقافة والمجتمع في آن معا، وهو الذي غالبا ما يقع بين سندان الواقع المأزوم والذي يرغب في تغييره وتجاوزه وبين مطرقة المرتهنين بهذا الواقع الذي يمنحهم  المستبد الامتيازات والسلطة والنفوذ لذلك يتسم إنتاجه الثقافي بسمة المواجهة، وأي انخراط ثقافي لابد وأن يؤدي إلى سلوك صدامي، هذا هو قدره
إذ لا يمكن للمشتغل والمهموم بالشأن الثقافي أن يقترب من وهج الحقيقة إلا بعد أن يروض نفسه على المواجهة ويكون مهيئا على صد الصفعات أو امتصاصها، فالحقيقة ليست فاتنة دائما، أحيانا تبدو حارقة وموجعة، وكل اقتراب منها يتطلب قدرة عالية على الاحتمال، رغم هذا لا يمكن مزاولة أي فعل ثقافي دون القيام بكشف الحقيقة أو جانب منها على الأقل حتى وإن أدى ذلك إلى وجود صدمة في الوعي الاجتماعي، هذا ما يؤكده في الحد الأدنى المثقف الذي يحمل توجها مبدئيا يجعله لا يضحي بالحقيقة المعرفية مهما كانت النتائج حتى وان سجن و عذب .
و أهم خاصية يجب أن يتحلى بها مثقف الشعب هي استعداده للتضحية وتحمل كل ألوان الحرمان والمعاناة وذلك بصفته فاعلا اجتماعيا يمارس الفكر على أرض الواقع وليس فقط الفكر المجرد المتعالي على كل التحديات المعاشة، هنا تماما تكمن محنة الوعي والفكر، وهنا يمتحن المثقف لدى اقترابه من لجة المعرفة والنضال الفكري، لأنه سيغدو في مواجهة  بكل شراسة مع مثقفي السلطة  من المرتزقين بالثقافة والفكر لذلك  فإن مثقف الشعب الحريص على التزام الأمانة والمصداقية المعرفية سيحشر حتما في مواجهة حامية مع خصم ثقافي أيديولوجي مهمته التبرير الثقافي للواقع، ومن شأن هذا الخصم اللجوء لكل الوسائل التي بإمكانها أن تؤخر وتشوه التنوير، لان مثقف السلطة   مفسد مزعزع لأمن المجتمع ولثقافته محارب لكل قيم الحرية

لهذا كله يبدو الاشتغال الفكري لدى مثقف الشعب  في الدرجة الأولى تضحيةً ونضالا وليس مجرد ترف وكماليات، المثقف مسؤول ومناضل  وهو الذي يقود حركة المجتمع ويضيء شعلة التنوير. ما من مثقف حر كان له إسهامه في حركة التاريخ إلا ودفع الضريبة و هذه الضريبة اقلها التهميش و الاقصاء ، لأن التغيير
بما هو معاكسة للتيار لا يولد إلا بعملية جراحية تتوقف على مدى الاستعداد للتضحية . لان هذه الولادة مؤلمة جعلت مثقفي الشعب قلة و مثقفي السلطة كثر بل وصل الامر الى الكثير من المثقفين المناضلين الى التنازل على خياراتهم الثقافية وهو ما ولد حالة من  البؤس الثقافي الماثل في الاستقالة الفكرية للكثير ممن كان يفترض بهم مزاولة الفكر النقدي والتصحيح و قد تسبب هذا في شيوع حالة من الكسل والشلل الفكري، وهو أمر أدى لتسلل أفات خطيرة  كالفقر والتأخر الحضاري والثقافي والطائفية وهيمنة الفكر السلفي على كل مرافق الحياة وغيرها من قضايا لا يمكن مواجهتها إلا بتوفر جهد فكري وثقافي مضاعف تتحمل مسؤوليته النخب الثقافية وإلا فلا شيء يضمن الخروج من شرنقة الانسداد التاريخي  .        
ولكن ما العمل و المشهد الثقافي العربي مازال مخيبا للآمال و مازالت الحكومات تنتهج سياسية الإقصاء      و التهميش لمثقف الشعب و تفتح منابرها للمرتزقة المفلسين من مثقفي السلطة رغم المد الثوري الذي تعيشه عدد من الأقطار العربية .

ارسال التعليق

Top