(وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (هود/ 59).
من القصص التي وردت في القرآن الكريم، واحتلت حجماً كبيراً منه هي قصة عاد، فقد ترددت في تسع عشرة سورة وفيما يقارب التسعين آية من آيات الذكر الحكيم، وما كل ذلك التكرار في سرد القصة بأشكال مختلفة إلاّ لوجود حِكم كثيرة يريد الله أن يهدينا بها إلى صراطه ونهجه الذي رسمه لنا.
فلم ترد تلك الآيات الكثيرة لتسرد لنا قصة قوم مضت عليهم سُنّة الله. ولم يذكرها ويصورها لنا القرآن لنترفه بالمشاهد التي يصنعها. ولم يكن الغرض أيضاً من ايراد القصة مجرد التثبت من شخصية الرسول (ص) من أنه يوحى إليه. ولم ترد تلك القصص لتعالج مشكلة وقعت في وقت ما فجاءت الآيات بشكل قصة تعظ تلك الجماعة من خلالها.
إنّ القصّة في القرآن الكريم، وإن كان ما ذكرناه قد يدخل في ضمن أهدافها، ولكن الآيات القصصية هي تماماً كبقية آيات الكتاب، فيها روح الدعوة إلى الله والإرشاد إلى العدل والحق والهداية إلى الخير، لتنتشل الامة من الواقع الفاسد الضحل والإرتفاع بها إلى آفاق الله ورحابه الواسعة.
ففي القصة إخبار عن الغيب لتثبت من شخصية الرسول، وفيها عرض لسنن الله في الأرض، وفيما الموعظة والهداية إلى الصواب، وهذا أهم شيء في عرض القصة، فروح القصة هي الدعوة إلى الخير والحق والموعظة، فمن خلالها ينتقل ذهن العاقل النابه عند سماع أخبار الأولين وما حلَّ بهم إلى تقديرها في نفسه وحاله، فيعتبر بها ويرجع إلى الصواب فيأخذ بمنهج الله القويم، وإلى هذا أشار تعالى:
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ...) (يوسف/ 111).
والقصة أسلوب للدعوة إلى الله بأسهل الطرق وأيسرها وأقربها إلى الحسّ البشري، فهي موجّه قريب المنال سهل التأثير، ولها قوة وفاعلية في النفس، نتيجة لما تُحدثه من إثارة وتشويق، وهي ليست خيالاً يسبح فيه السابحون، لقد كانت القصة عند العرب مجموعة تصورات وتخيلات وخرافات تأخذ بأفكارهم وتستوعب جُلّ وقتهم، ولذلك اشتهروا بالروايات القصصية وأبدعوا في هذا المجال، ولكن هذا هو الجانب السلبي من القصة، أمّا الجانب الإيجابي لها والذي استثمره القرآن يخدم أهدافه فهو تلك القصة التي ترسم في الذهن صوراً تتخيلها وتعيش معها وتنفعل بأحداثها وتشعر بها وتتأثر، وتلمسها واقعاً يتحرك أمامك، ويحسّ بها وجدانك ليقودك إلى الهدف الأسمى.
فالقصة في القرآن جاءت لتجسّد حركة الواقع الرسالي الذي تعيشه الرسالات في كل زمانٍ ومكان، وتتجه بالإنسان إلى حيث السموّ والرفعة والخير.
إنّنا ومن خلال القصة في القرآن، نستطيع أن نكتشف الكثير من الحلول، ونحلّ الكثير من الإشكالات التي تقع في حياتنا اليومية عندما نتدبّر القصة ونعيها وندرك سرها ومغزاها.
فالقصة هي لحاظ الماضي وعبرة الحاضر وموعظة المستقبل. ولرسم طريقة حياتنا لابُدّ لنا أن نأخذ من وحي القرآن، لا من وحي افكارنا وتطلعاتنا، فلم يترك لنا القرآن صغيرة ولا كبيرة إلاّ وذكرها لنا سواء فصّل أم أجمل، فهو للذاكرين ذكر، وللعارفين موعظة، وللسائرين نور.
وهنا نسجل ما نقله ربيب القرآن علي بن أبي طالب (ع) وهو يستمع لحديث رسول الله (ص) فيقول عليه السلام:
"أما أني سمعت رسول الله (ص) يقول: ستكون فتن. قلت: وما المخرج منها، قال: كتاب الله، كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن أبتغى الهدى في غيره أضلّهُ الله، هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجِر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط المستقيم"[1] صدق رسول الله (ص).
- قصة قوم عاد ونبيهم هود (ع):
لم يكن قوم عاد من الأقوام الخرافية التي ابتدعتها مخيلة الرواة، فقد ذكرهم القرآن الكريم بالتفصيل وسنتعرض إليهم دون أن نخوض في غمار القصة أكثر مما ذكره القرآن، بل سنكتفي بما ذكره تعالى في كتابه العزيز دون أن نتعرض لكتب التأريخ والحضارات، فهذه الأخيرة مليئة بالخيالات والخرافات البعيدة عن المنطق السليم. وإضافية إلى ذكر القرآن لهم، (تمكن العلماء من العثور على أسماء بعض هذه الأقوام في الكتب القديمة، وحصلوا على بعض المعلومات عنها)[2]، وكان قسم من هذه المعلومات مشابهاً لما ذكره القرآن عن قوم عاد، ولم يأتِ ذكرهم في التوراة وذلك لأن التوراة اهتمت بالعبرانيين فقط، ولعله أن قوم عاد عاشوا بعد أن تم تدوين التوراة، ويظهر ذلك من سؤال اليهود عن قوم عاد[3].
- قوم عاد:
بعد أن استقرت الأرض بنوح (ع) ودارت عجلة الزمن جاء دور عاد، وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح (ع).
وأمّا هود (ع) فهو هود بن شالخ بن ارفخشد بن نوح (ع). فهود أخو عاد في النسب، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ) (هود/ 50).
وكانوا ينزلون اليمن، وكانت مساكنهم بالشحر والأحقاف: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ...) (الأحقاف/ 21).
والأحقاف؛ منطقة رملية تقع جنوب الجزيرة العربية.
وذهب بعض المؤرخين إلى أنّها دمشق أو الأسكندرية، والذي دعاهم إلى هذا الرأي هو وجود المباني ذوات العماد في هاتين المدينتين، وما عُرف عنهما من القِدم فوجد الأخباريون فيها وصفاً ينطبق على وصف إرم ذات العماد، وقالوا أن جيرون بن سعد بن عاد بنى مدينتها وسماها جيرون ذات العماد لكبر أعمدة حجارتها، ولذلك يقال لأحد أبواب دمشق باب جيرون[4].
وكانوا أصحاب زرع كثير ونخل، وكانوا ذوي أجساد عظيمة وأعمار طويلة، حتى أن أحدهم كان يضرب الجبل فينال منه. وكانت لهم أصنام يعبدونها من دون الله سموها آلهة، فكان النبي هود (ع) يقول لهم عند عنادهم واصرارهم على مخالفتة:
(..أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا...) (الأعراف/ 71)، فكان عندهم إله للمطر، وآخر للرزق، وآخر لشفاء المرضى، وآخر يصحبهم عند السفر وهكذا. وكانت لهم بيوت ضخمة وكانوا يبنون ما لا يحتاجونه لسكناهم: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) (الشعراء/ 128)، حتى بعث الله إليهم هوداً (ع) نبياً، وكان من قومهم: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا...) (هود/ 50).
وكان النبي هود (ع) أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً، دعاهم إلى التوحيد فكذّبوه وآذوه، وقالوا له: هل تريد أن تكوين سيداً علينا؟ وأيّ أُجرةٍ تريد منا؟ فقال: (يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) (هود/ 51).
ودعاهم إلى التوبة والإستغفار وحدّثهم عن نعمة الله عليهم بإرسال المطر وزيادة القوة وجعلهم خلفاء في الأرض (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (هود/ 52). وكلمة مدراراً، تعني الغزير السيلان، وأيضاً ويزدكم قوة، فهاتان الكلمتان إشارة إلى النعمة التي كانوا فيها سواء في الجانب الاقتصادي أو الجانب العسكري.
ولكن ما كان جوابهم لنبيهم إلاّ أن: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (هود/ 53).
فأمسك الله عنهم المطر سبع سنين، وأصابهم القحط. وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد التجأوا إلى بيت الله الحرام، فبعث عاد وفداً إلى مكة ليستسقوا لهم، فنزعوا على رجل هناك فأكرمهم وأقاموا عند حتى نسوا قومهم، وهذا إن دلَّ على شيء فإنّه يدل على مدى القحط الذي أصابهم خلال هذه السنوات السبع حتى نسوا قومهم عندما عاشوا الرفاه ورأوا النعمة، فذكّرهم الرجل بقومهم فاستسقوا عند الحرم فقال لهم رجل يؤمن بهود (ع) سراً، واللهٍ لا تُسقون إلاّ إن أطعتم نبيكم فزجروه ورجعوا إلى قومهم، ولكنهم ظلوا على جاهليتهم. والنبي هود (ع) يدعوهم ويتودد إليهم ويذكّرهم بالأواصر التي تجمعهم فلعل ذلك يستثير مشاعرهم فيما يقول، والرائد لا يكذب أهله، فرموه بالهذيان والجنون، وكانوا يردّون أيديهم إلى أفواههم ليحدثوا ضجيجاً كي لايسمعوا كلام هود (ع) وهو يدعوهم: (.. فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (إبراهيم/ 9).
وكذبوا بما جاء به هود (ع) وأنكروا القيامة، واتبعوا أمر السفلة والساقطين من الرؤساء، وأطاعوا الجبابرة والمعاندين الذين لا يقبلون بالحق (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) ( هود/ 59)، ولذلك ذكرهم الله بهذا البُعد "وتلك عاد" وكأنه منظر الخراب أمامنا. وحمّلهم مسؤولية أتّباعهم الجبابرة، وأن يفكرو بأنفسهم لأنفسهم، ولا يكونوا ذيولاً فيهدروا آدميتهم. وما ذلك إلاّ ليكونوا عبرة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
فكان أن بعث الله عليهم السحاب تسوقها الرياح، فلمّا رأوها مقبلة استبشروا بها، وقالوا هذا عارض ممطرنا، ولكن خابت ظنونهم وذهبت آمالهم بعد أن رأوها ريحاً شديدة البرودة فيها العذاب الشديد، صر صراً عاتيةً عقيمة، أي شديدة الصوت شديدة العصف، سخّرها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانية أيامٍ لم تدع أحداً، إلا هلك. ونجا هود (ع) ومن معه من المؤمنين: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) (الحاقة/ 6-8)، فسخّر الله عليهم ريحاً صوتها مرعب وهواؤها بارد وهبوبها مستمر متتابع، جعلتهم صرعى مجدّلين متناثرين، كأنهم النخل باصولها وفروعها وجذورها خالية فارغة قد تآكلت فتساقطت على الأرض، وأضحت مساكنهم دار خراب، عبرة للأجيال على طول التاريخ: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) (الفجر/ 6-8).
إنّه مشهد الخراب "ألم تَرَ" واقع أمام كل ناظر إلى آثارهم، ولا زالت آثارهم إلى اليوم حاضرة وهي في رمال صحراء الربع الخالي في الجزيرة العربية والتي سماها القرآن الكريم بالأحقاف، وهذا ما اكتشفه مؤخراً فريق علمي أمريكي يعتقد أنّه أفلح في اختراق رمال صحراء الربع الخالي بواسطة الأقمار الاصطناعية، وأنّهم اكتشفوا في الجانب العُماني من الصحراء آثار قوم عاد الذين جاء ذكرهم في النصوص السماوية والقصص العربية القديمة. ونقلت مجلة "الحياة" (3/9/1990) عن "جورج هيدجز" عضو الفريق العلمي الأمريكي أنّه وزملاءه اكتشفوا الآثار المنسية لقوم عاد مدفونة تحت الرمال. ويضم الفريق العلمي علماء في الآثار والجيولوجيا والكومبيوتر. وذكر هيدجز أن فريقه عثر على أدلة جيولوجية لما يعتقد أنّها طريق قوافل الجمال التي كان تجار العطور يستخدمونها، وكذلك على بعض اللقى التي ربما تعود إلى حضارة عاد. ويأمل الباحث الأمريكي أن تكون التلال والكثبان الرملية في المنطقة تخفي تحتها آثار مدينة عبر، التي كانت مركز تجارة العطور الرئيسية وكان أهل عاد يديرونها، واعتبرها الرحالة البريطاني "آي لورنس": "اطلنتس المدفونة تحت الرمال". وحسب هيدجز، فإن العطور التي كانت سلعة تجارية مهمة جداً في العالم القديم وتجد أسواقاً في مناطق عدة من الصين وحتى روما، تستخرج من نسغ أشجار معينة في شرق افريقيا والشرق الأوسط. وكان البخور الذي يستخرج منها يستخدمه الأباطرة وعامة الناس في مختلف الاحتفالات والمناسبات. وقد واصل مجتمع عاد التجاري المزدهر النشاط منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد وحتى القرن الأول بعده. واندثر ضحية أحداث اقتصادية وسياسية ومناخية توافقت مع تدهور تجارة العطور أنذاك.
ويعتقد الباحث الأمريكي، أن قرى عاد دفنت تحت كثبان الرمال التي ترتفع الآن إلى مايتراوح بين 60 و200 متر. هذا، وقد أكد بعض العلماء على وجود العصر الممطر بحيواناته ومياهه وغاباته في الأزمنة السحيقة في تلك المنطقة[5].
تلك هي قصة عاد. ويقول جرجي زيدان في كتابه "العرب قبل الإسلام": أن ثموداً ذكرت مع عاد في القرآن الكريم لأن المراد بهما واحد من حيث العبرة والموعظة، فبعد أن يذكر عاداً يذكر ثموداً.
(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود/ 49).
* التأملات
- أولاً: عودة عاد:
لقد كانت عاد أعظم قبيلة في ذلك الزمان، وكانت تملك من القوة ما لم تكن لتتوافر عند غيرهم، وأيضاً كانوا يملكون من المال ما لم يكن عند غيرهم، وكان عندهم ذكاء متميّز عن باقي الملل بالقوة والمال والذكاء. وكان سلطانهم عظيماً بحيث كوّنت أعظم دولة فى حينها وكانت الأولى التي لا تنافسها دولة أُخرى، ولتقريب الصورة أكثر فإنها كانت بالضبط كما هي الدول العظمى اليوم، كانت كالاستكبار العالمي اليوم. وإذا كانت الدول العظمى تنافس احداها الأُخرى، فإن دولة عاد كانت بلا منافس، لما تمتلكه من القوة، بحيث لا تستطيع أية قبيلة أن تتعرض لها أو تعترضها: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً...) (فصلت/ 15)، إنّها طبيعة الطواغيت على مرّ العصور – "وقالوا من أشد قوة" – إنّها طبيعة المستكبرين وجبلّتهم في كل مكان وزمان.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فالدولة العظمى في كل عصر هي الدولة التي تمتلك أهم عناصر الحياة من المال والقوة، إضافة إلى ما عرف اليوم من التقنية المتطورة والعقول الالكترونية من الكومبيوترات وغيرها.
وكم الشبه قريب بين هذه الدول في عصرنا الحاضر ودولة عاد التي كانت تستعبد الناس بقوتها وتمتلك القصور الفخمة والعمران الفريد، حتى أنّك ترى عمرانهم من بعيد وكأنه العلامة وما هي بعلامة، إن هي إلاّ بيوت الطواغيت العالية في ضخامتها وعلوها. لقد كان لهم في كل بقعة متميزة ومرتفعة من الأرض قدم، وإلى هذا أشار القرآن فقال: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) (الشعراء/ 128).
واليوم، فإننا نرى في كلّ بقعةٍ متميزة من بقاع العالم قدم وآية – كما عبّر عنها القرآن الكريم – للدول العظمى، فما من بقعة في الأرض تتميز بستراتيجيتها الجغرافية أو ثرواتها الطبيعية إلاّ وللطاغوت فيها نصيب وآية، وما اسرائيل إلاّ آية من آيات الدول العظمى زرعوها في قلب الأرض المقدسة التي حرّم الله عليهم وطأها.
لقد بلغت عاد من الحضارة الصناعية ذروتها في حينه، حتى حدثنا القرآن عنهم بقوله سبحانه: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (الشعراء/ 129)، فقد اتخذوا المصانع لنحت الجبال وبناء القصور الفخمة التي تعمر مئات السنين، لو شاء الله لها البقاء. وهذا شأن أصحاب القدرة والمال، شأن الطواغيت في كل عصر ومصر.
واليوم، فإنّ هذه الصورة التي عبّر عنها القرآن بالمصانع أو البناء القوي المتين التي لو قدّر لأحد أن يخلد فيها لعاش مئات السنين لا يصيبها الدمار والهلاك. إنّ تلك الصورة اليوم شاخصة أمامنا في كل مكان، ولا حاجة لنا أن نستعرض حصون الملوك وأسوار الرؤساء والطواغيت، وكأنهم سيخلدون فيها ولا يموتون. إنّ مثل ذلك البناء هو بناء من يطمع بالخلود ولا خلود. وإن كان قوم عاد قد صمموا من الجبال بيوتاً ليباهوا بها بقية الأقوام، فإنّ أكبر قوى العالم اليوم تبني من العمارات ما تناطح السحاب ومن الأسوار والقصور بما يضاهي الجبال، وليس ذلك إلاّ لتتباهى بعظمتها وكبريائها.
ولقوم عاد أيضاً من القوة مانراه اليوم عند أكثر دول الإستكبار قسوة وتجبراً، وهذا هو شأن المتجبرين المعتزين بالقوة التي يملكونها. فإذا أردت أن تشهد تجبّر عاد وقسوتها عن كثب وقرب فانظر إلى ما تصنعه الدول الكبرى بالشعوب والحكومات المستضعفة. فليست عاد وحدها في التاريخ متجبرة معتدية على (حقوق الإنسان) الضعيف، بل إن البطش جبلّة كلّ متكبر في كل زمان، وقد وصف القرآن قوم عاد بهذا الوصف من القسوة فقال تعالى: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (الشعراء/ 130)، أي بطش من يريد أن يتجبّر وقسوة من يريد أن يبطش. إنّ كل أُمةٍ تغتر بهذا الغرور، وتبتعد عن الله وتنتج أسباب الدمار لغيرها والوقاية لنفسها، سوف يأتيها عذاب كعذاب قوم عاد والصبح قريب، وليس ببعيد أن نرى ذلك اليوم فتلك سُنة الله تعالى: (.. فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء/ 139-140).
أمّا أصحاب الدعوة الحقة فإنهم يقفون – بكل شموخ – أمام قوى الجاهلية تلك، وقوى المال والعلم والسلطان وقفة استعلاء، لأنّهم متيقنون من أن ربهم آخذ بناصية المبطلين، ولذلك سمّاهم القرآن بالدواب: (.. مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ...) (هود/ 56).
ولابُدّ من الإشارة والتأكيد على هذه الحقيقة القرآنية الرائعة وهي أن المستكبرين في الأرض يرون أنفسهم أشد الناس قوة لما يملكونه من أسباب الدمار. ولكن عودة سريعة إلى عاد، نرى أن كل استكبار هو استكبار بغير حق، وإن كانوا قد ملكوا القوة والسلطان فهناك من هو أشد منهم بطشاً وقوة، ألا انه هو الله الذي خلقهم وأعطاهم تلك القوة فهو أشد منهم قوة وأوسع منهم سلطاناً وأكثر منهم بطشاً إذا بطش، فهو الذي مكّنهم من تلك القوة المحدودة التي تجبّروا بها، وهو سبحانه قادر على الأخذ بناصيتهم.
وأمّا شعورهم بقوتهم فهو شعور كاذب، وأن الله مهلكهم لا محالة هلاكاً يناسب استكبارهم وتباهيهم، كما ناسب هلاك قوم عاد مع امتلكوه من قوة.
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت/ 15).
- ثانياً: دور المال والقدرة في الحياة:
إنّ القرآن يقرر حقيقة عظيمة وهي أنّ المال والقدرة التي يعطيها الله في الدنيا لأمة من الأمم أو لفرد من الناس إنّما هو مال الله ورزق منه سبحانه وتعالى. فللمال في حياة الإنسان دور مهم ووظيفة سامية يسمو بها إلى حيث الرفعة والكمال. وإن المال يطور الإنسانية ويبني الإنسان الصالح إذا استثمره في الوجهة الصحيحة، لا كما يفعله هؤلاء المترفون الحمقى الذين يبذلون الملايين ويصرفون الكثير من أجل توافه الدنيا يريدون أن يتنعموا فيها أو يستهتروا بها، وفي الأرض من يملك قوت ساعته ويومه، بل كم من الجماعات التي نسمع بها ونراها – وهم ليسوا بالألف بل بالملايين – تبيت وهي تتضور جوعاً، وما الله وحلاله بيد هؤلاء يقضمونه ويعبثون به كيف يشاؤون. ولأجل الدور الكبير لقيمة المال في حياة الإنسان نرى أن الأديان السماوية اعتنت كثيراً بتنظيم المال أو الحالة الإقتصادية، وخصوصاً الدين الإسلامي فقد اعتنى بالمال كاعتنائه ببقية علاقات الإنسان الروحية والمادية، وخطط لذلك كثيراً فحفظ لليتيم ماله حتى يرشد، وحجّر على السفيه والمفلس لأنّه لا يعرف قيمة المال ولا يحسن التصرف فيه، وقسّم الإرث تفادياً للمشاكل المالية وتوجيه التقسيم لما ينفع الأفراد والمجتمع، وضرب على أيدي المحتكرين وحرّم أكل المال بالباطل وذمّ الذين يكنزونه.. إلخ، حتى أصبحت المكاسب عِلماً خاصاً اهتم به الباحثون والعلماء الإسلاميون وهمّوا بتعلمه وتدريسه.
والقدرة أيضاً مِن مِنن الله وهبها لبعض الأفراد أو لبعض الجامعات لتكون في خدمة البشرية لا وبالاً عليها. ولم يهبها الله لأحد حتى يظهرها للآخرين من دون أن ينفعهم بها، فلابُدّ للقدرة من توجيه، ولم يبقِ لنا الإسلام قدرة إلاّ ووجهها، لأنّ الإنسان مهما وصل به الذكاء والمقدرة فإنّه يبقى محتاجاً إلى المطلق الذي علّم الإنسان ما لم يعلم ومكّنه بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً. إذن، فلابُدّ من توجيه القدرة البشرية على مستوى الفرد والجماعة وتوجيه الإنفاق المالي بالوجهة الصحيحة التي تخدم البشرية. وفي القوت نفسه، تحفظ حق الفرد في التصرف فيه ضمن قوانين وضوابط. وأمّا إذا لم تنفق في سبيل الله، وبما يُرضي الله وينفع عباده، فسيهلكه الله كما أهلك عاداً عندما كنزوا الأموال وادّخروها، ونحتوا – بقدرتهم التي فاقت قدرة الناس العاديين – من الجبال بيوتاً. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أن القرآن يريد أن نتصور قدرتهم الفائقة.
فبنوا في كل مرتفع بناءً لا لأجل أن يسكنوا فيها وينتفعوا منها، بل كان لأجل الترف والتباهي بالمقدرة والإعلان عن الثراء: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (الشعراء/ 128-129).
فلم يكن بناؤهم وتطاولهم في مهارتهم لما هو ضروري ونافع، ولكنه كان للتباهي وعرض العضلات وحب الظهور بمظهر البراعة والمهارة والذكاء. ولذلك أطلق عليهم القرآن كلمة تعبثون من العبث، أي اللعب بلا مبالاة. ولو كان الذي يفعلونه لغرض نافع ما قال لهم ربهم: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) (الشعراء/ 128)، فالعبث بالقدرة والمال كان سبباً مهماً في إهلاك قوم عاد، وأن الله سبحانه مهلك كلّ أُمةٍ تسير على ما سار عليه قوم عاد. والقرآن بكلماته الرائعة وصوره الجذابة يذكر قوم عاد، ويذكرنا بهم وكأن صورتهم أمامنا حاضرة نشهد فيها منظر الخراب والدمار بعد ذلك العمران الرهيب "وتلك عاد"، ذلك العمران الذي مازالت آثاره باقية إلى الآن شاهدة على قدرتهم وشاهدة على زوالهم وهلاكهم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) (الفجر/ 6-8).
وستبقى تلك الآثار عبرة لكل من ألقى السمع وهو شهيد، عبرة على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع وعبرة للدول الكبرى. ولم يكتف الله بإهلاكهم، بل طردهم أيضاً من رحمته وشيّعهم باللعنة في الدنيا والآخرة: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (هود/ 60).
- ثالثاً: موقف واحد ومصير مشترك:
ليس بجديد على رُسل الله والدعاة إليه أن يُكذبوا وأن يتحزب الناس – ممن لا يفهم الحق – ضدهم، فموقف المشركين من خط الرسالة واحد على مدار القرون: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ) (الحج/ 42).
وذلك لأنّ الكذب خط واحد ممتد بامتداد الرسالة، وان تكذيب الرسالة هو تكذيب لجميع الرُسُل الذين جاءوا برسالة التوحيد تلك. ومن هنا كان مصير المكذبين عند الله مصيراً واحداً. أمّا قوم عاد الذين كذبوا رسولهم، فقد كان مصيرهم الهلاك والدمار وهبوب الرياح الشديدة الباردة في أيام شؤمهم وقحطهم: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) (القمر/ 18-19)، وإنه لهو المصير نفسه الذي سوف تلاقيه كل ملّة تكذّب رسولها وتكفر بالله العزيز القدير.
فما استحقته عاد وما صارت إليه هو مصير ينتظر كلّ المكذبين، وهو درسٌ يبقى على طول التاريخ الرسالي وبامتداد الرسالة، وهو درس لكل المخلصين، ليقفوا باستعلاء أمام كل طاغية، وأمام المكذبين، ناظرين إليهم كما صوّرهم القرآن الكريم: (.. كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) (الحاقة/ 7-8)، إنه مشهد حاضر شاخص أمام الدعاة إلى الله، فالقوم صرعى مجدّلين متناثرين كأنهم أعجاز نخل بأصولها وجذوعها فارغة قد تآكلت فتساقطت على الأرض وذلك شأن المكذبين.
- رابعاً: الإتعاظ بالعذاب:
جنود الله تعالى كل قوى الطبيعة، وما الريح التي بعثها سبحانه على قوم عاد إلاّ إحدى تلك القوى الطبيعة التي تدركها البصائر المفتوحة ولا تراها الأبصار، فهي قوى واعية مأموردة نحسّ بها ونشاهدها، ولكن تكرار مشاهدتها أفقد القلب روعتها والحسّ بها، ولذلك يكررها علينا ربنا، ويؤكدها كذلك، لنحسّ بها ونتجاوب معها، لئلا نفقد ايحاءاتها ودعوتها إلى الإيمان بالله تعالى.
والناس يرون ويسمعون بهبوب الرياح وهو أمر طبيعي مألوف، ولكن هبوب الرياح التي تقتلع البيوت والأشجار ويروح ضحيتها الآلاف، قضية غير مألوفة عند البشر وغير طبيعية. يتعجب منها ويأخذه الخوف، ولكنه لا يعتبر بها ولا يتعظ.
ونظرة سريعة إلى قوم عاد وما حلَّ بهم من عذاب ودمار وهلاك جراء الريح التي أصابتهم فجعلتهم كالرميم، وهو النبات إذا يبس وديس، نعرف أن لا مانع عند الله من بعث ما يهلكنا، كما أهلكَ عاداً عندما تنكرت لرسولها، ونكرت ربها، وقد جاءتنا الرُسل وجاءنا البلاغ والإنذار وأتانا نبأ الذين من قبلنا وقد أعذر من أنذر، قال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (التوبة/ 70).
- خامساً: دعوة للتحدي:
نبي الله هود (ع) كأيّ نبي آخر من أنبياء الله تحدّوا الطاغوت، وتحدّوا اُممهم الكافرة، فلقد وقف هذا النبي أمام أقوى طاغوت في حينه، ولم يخف منهم ولم يخشهم، فقد كان يخشى الله وحده ولا يخاف غيره، وكان مصداقاً لقوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب/ 39).
إنّه فرد واحد أعزل ليس معه أي سلاح إلاّ سلاح الإيمان، وليس معه من قومه أحد. يقف ليواجه قوماً غلاظاً شِداداً ثمّ يقتحمهم اقتحاماً رهيباً، فيعلن بعد اليأس منهم تبرّءَهُ منهم، ولم يكن يملك هذا النبي الكريم إلاّ شيئاً واحداً، هو الثقة بالله والإطمئنان إليه وبنصره، شأنه شأن بقية الأنبياء والرُسل والصالحين والدعاة إلى الله عزّ شأنه: (.. قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي) (هود/ 54-55).
فمن يتوكل على الله ويضع ثقته به لا يبالي بقوة الجمع وعظمته، لأنّه يعلم أنّ الله مهلكهم لا محالة، وهو آخذ بناصيتهم ومستخلف قوماً غيرهم ولن يضروه شيئاً.
وهذه في الحقيقة دعوة للتوكل على الله لمن يريد الإصلاح وتغيير الأُمة والأخذ بيدها نحو الصراط المستقيم.
وإنّها لدعوة يدعونا الله إليها عن طريق هذا النبي هود (ع)، لنقف أمام الطواغيب والمستكبرين في الأرض ونواجههم كما واجههم نبينا هود (ع) وكما فعل السلف الصالح من الأنبياء والصالحين. فكلٌ وقفَ أمام جبروت زمانه ولم يخشهم، فلهم في عاد وقومه عبرة، فمهما بلغ البشر من القوة والتكبّر والتجبّر، فلم يبلغ ما بلغه قوم عاد وقد أهلكهم الله، وحتى لو بلغ من بلغ من القوة والسلطان فما هو بقوي، وإن هي إلاّ أيامٌ معدودة ويهلك كما هلك قوم عاد: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا...) (التوبة/ 69).
فمهما كانت القوة التي يملكها السلطان الطاغي، فهي أمام قوة الله لا شيء، وليعلم أنّ الله مهلكه لا محالة: (.. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا...) (القصص/ 78).
ولكنّهم (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/ 74)، و(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال/ 52). والمهم أن نقف كما وقف نبي الله هود (ع) وكما وقف النبي موسى (ع) عندما قال لفرعون: (.. إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) (غافر/ 27). والحمد لله ربّ العالمين.
الهوامش:
[1]- "البيان في تفسير القرآن"26.
[2]- "تاريخ العرب قبل الإسلام"- جواد علي- ص298.
[3]- المصدر السابق 299.
[4]- "تاريخ العرب قبل الإسلام" مصدر سابق، ص298.
[5]- مجلة آفاق علمية، العدد 34، السنة السادسة 1991.
المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 68 لسنة 1993م
ارسال التعليق