• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

جهادُ النفس ووقاية اللسان

العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله

جهادُ النفس ووقاية اللسان

الشرّ ليس ثابتة حتمية، بل طبيعةٌ متحرّكة في أصل تكوين الإنسان في نظامه الغريزي الذي ينفتح على الخير كما ينفتح على الشر.
- جهاد النفس.
- التركيب الغرائزي.
- الوقاية في اللسان.
- إستقامة الأعضاء باستقامة اللسان.
- سلامة الإنسان بحفظ اللسان.

- جهاد النفس:
في الحديث عن رسول الله (ص): "تكلّفوا فعل الخير، وجاهدوا نفوسكم عليه، فإنّ الشر مطبوع عليه الإنسان". وفي الحديث عن الإمام علي (ع): "الشر كامن في طبيعة كل أحد، فإن غلبه صاحبه بطن، وإن لم يغلبه ظهر".
وفيما روي عنه (ع): "أكره نفسك على الفضائل، فإنّ الرذائل أنت مطبوع عليها".
تؤكّد هذه الكلمات، أنّ الشر مما طبع عليه الإنسان. وهذا عنوان لابدّ لنا من أن نتفهّمه وأن نحلّله؛ لأننا نعرف من القرآن الكريم، أنّ الإنسان لا يختزن في داخله الشر كطبيعة واحدة حتمية، بل إنّ الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الهداية للشر وللخير، وهو جاء في قوله سبحانه وتعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/ 10). ثمّ إنّ الله سبحانه اعتبر الحرّية للإنسان في اختياره، فقال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29)، بمعنى أنّ الإنسان يملك حرية الاختيار بين الحق والباطل، فكيف يكون الإنسان مطبوعاً على الشر أو على الرذائل؟
إذا أردنا أن نجمع بين هذه النصوص القرآنية، وبين تلك النصوص الحديثية، فلابدّ من أن نستوحي ذلك مما ورد في القرآن الكريم: (إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف/ 53)، وكما في دعاء يوم (الثلاثاء): "وأعوذ به من شر نفسي إنّ النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي". فالإنسان عندما خلقه الله، خلق فيه قابلية الخير وقابلية الشر، بلحاظ أنّ الله ركب فيه الغرائز التي قد تنفتح على الشر وقد تنفتح على الخير، وأعطاه العقل الذي يميز فيه بين ما ينفع الإنسان وبين ما يضره، وألهمه من خلال ما يدركه من قضايا الحسن. والقبح، ومن خلال ما أوحى به إليه من خلال رسله، أنّ الخير هو الذي ينفع الإنسان في الدنيا والآخرة، وأنّ الشر هو الذي يضرّه ضرراً دنيوياً أو أخروياً. فهناك إذاً صراع في تكوين الإنسان بين العقل والغريزة، بين الفطرة وبين ما يتراكم عليها مما يثير الغرائز التي هي داخلة في تكوين الإنسان، وتمثّل شرط وجوده؛ كغريزة حب الذات، وغريزة الجنس، وغريزة الطعام والشراب والنوم، وما إلى ذلك، وبهذه الغرائز يعيش الإنسان، ولولاها فإنّ الإنسان لا يستمرّ في الحياة.

- التركيب الغرائزي:
لذلك، فإنّ الإنسان مطبوع على الرذائل، أو مطبوع على الشر، من حيث القابليّة التي قد تتحوّل بفعل عناصر الإثارة إلى حالة فعليّة، بلحاظ أنّ الغرائز كمانة في داخل الإنسان، وأنّها قد تنفتح على الجانب السطحي من جسده، فتوحي إليه بالشر هنا وهناك، فقد توحي إليه بالشر في الطعام المحرم، أو الشراب المحرم، أو الشهوة المحرمة، أو حب الذات الذي قد يتحول إلى حالة استكبارية، أو إلى حالة عدوانية ضد الإنسان الآخر، وما إلى ذلك مما تثيره الغرائز في هذا المجال. فالشر كامن في الإنسان، من خلال طبيعة وجود هذه الغرائز التي قد يحوّلها المناخ المنحرف إلى الشر، وقد يحوّلها إلى رذيلةٍ وما إلى ذلك.
هناك آية في القرآن تتحدّث عن شهادة امرأة العزيز ببراءة يوسف، وأنها هي التي ظلمته، فقالت: (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف/ 51-53). ولكنّ الله نقل هذه الآية، ليؤكِّد أن امرأة العزيز كانت تتحدث عن نفسها، من حيث كونها الإنسان الذي تدفعه غريزته إلى الشر، ولكنه يرجع إلى الله (إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ولذلك استعيرت هذه العبارة في الدعاء المرويّ عن زين العابدين (ع) في يوم (الثلاثاء): "وأعوذ به من شر نفسي، إنّ النفس لأمارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي".
لذلك، فالأحاديث المروية عن رسول الله (ص) وعن أمير المؤمنين (ع)، تؤكِّد أن وجود الشر في ما يكمن في النفس، هو من الأساس التكويني للإنسان في طبيعة الغرائز التي يمكن أن تتّجه نحو الشر، ويمكن أن يتجه نحو الخير، مما يحله الله، ومما يريد للإنسان أن يسير عليه. ومع ذلك، فإنّ الأحاديث تؤكد أنّ الإنسان قادر على أن يضبطها، وأنها ليست من الأمور الطبيعية الحتمية التي لا يملك الإنسان أن يعالجها، ولا يمكن له أن يتحرك من أجل تقويمها، فهي ليست مثل عين الإنسان أو أذنه أو أي عضو تكويني آخر، بل هي قابلية في الإنسان، لابدّ للإنسان من أن يعالجها حتى لا تتحوّل إلى حالة فعلية، بل عليه أن يحرِّك الجانب الخيِّر فيها بفعل وعي عقله وإدراك إيمانه، وذلك حيث يقول: "تكلفوا فعل الخير"، أي: عندما تريدون أن تندفعوا إلى العمل، فإن عليكم أن تعلموا أنّ هناك خيراً شراً كامناً في داخل نفوسكم، فحاولوا أن تحركوا نفوسكم نحو الخير لتتكلّفوه.. "وجاهدوا نفوسكم عليه"، يعني عندما ينشأ في نفوسكم الصراع بين الخير والشر، فحاولوا أن تضغطوا على عناصر الشر فيها، وأن توجهوا غرائزكم في اتجاه الخير، لا في اتجاه الشر، "فإنّ الشر مطبوع عليه الإنسان"، ولكن ليس طبيعة ثابتة حتمية، بل طبيعةٌ متحرِّكة في أصل تكوين الإنسان في نظامه الغريزي الذي ينفتح على الخير كما ينفتح على الشر.
وهكذا في كلمة الإمام علي (ع): "الشر كامن في طبيعة كل أحد، فإن غلبه صاحبه بطن"، يعني أنّه بقي في باطنه مجرد شيء كامن في الأعماق، لا حركة فيه، ولا فعلية له، "وإن لم يغلبه ظهر" أما إذا ترك الإنسان غريزته تتحرك في اتجاه الشر، فلابدّ من أن يتحول الشر إلى حالة فعلية بعدما كان حالة باطنية.
وهكذا قوله: "أكره نفسك على الفضائل، فإنّ الرذائل أنت مطبوع عليها"، باعتبار أنّ الفرق بين الرذائل والفضائل، هو أنّ الرذائل تتصل بالجانب الحسي للإنسان، بينما الفضائل تتصل بالجانب العقلي والجانب الروحي عنده، ولذلك، فإنّ الإنسان بطبيعته يتجه نحو الرذائل بحسب مشاعره وأحاسيسه التي تطفو على السطح. لذا لابدّ للإنسان من أن يتكلَّف الفضائل وأن يدفع نفسه إليها.
وفي حديثٍ للإمام علي (ع) في الاتجاه نفسه: " النفس مجبولة على سوء الأدب" وذلك من خلال الطبيعة الذاتية للإنسان، من خلال الحساسيات السلبية الكامنة فيه، "والعبد مأمور بملازمة حسن الأدب" أي أن يتعلّم الأدب في ما يحسن للإنسان أن يقوم به، وأن يربّي نفسه على ذلك، "والنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة، والعبد يجهد بردِّها عن سوء المطالبة"، باعتبار أنّ الإنسان، بحسب العادة، مجبول على حب ما تمتنع عليه نفسه، فعندما يُمنع من شيء، فإنّ النفس تصبو إليه وتتطلع إليه. ولذلك، فإنّ المطلوب من العبد أن يجهد نفسه بأن يردّها عن سوء المطالبة بما ينتج عنه المخالفة، "فمتى أطلق عنانها" وأعطى النفس حريتها، "فهو شريك في فسادها"، لأنّ الإنسان لابدّ له من أن يحكم نفسه، ولابدّ له من أن يوجّهها ويقودها، فإذا امتنع عن دور القيادة لنفسه، في توجيهها إلى ما يصلحها، وتركها لما يفسدها، فإنّ معنى ذلك أنّه شاركها الجانب السلبي في نفسه، والذي يؤدّي إلى فسادها، "ومن أعان نفسه في هوى نفسه، فقد أشرك نفسه في قتل نفسه"، لأنّ الهوى قد يقود الإنسان إلى ما يهلكه وإلى ما يقتله.

- الوقاية في اللسان:
وقد ورد في الأحاديث عن رسول الله (ص)، ولعل في هذا التعبير نوعاً من الغرابة، ولكنه – على كل حال – مروي في كتاب (مستدرك الوسائل)، يقول "من وقي شر ثلاث فقد وقي الشرّ كلّه؛ لقلقه، وقبقبه، وذبذبه"، فـ(لقلقه) هو لسانه، يعني بذلك حركة اللسان، وللسان شر وخير بحسب ما ينطق به، فمن وقي شره وانفتح على ما فيه من الخير، فقد وقي الشر.
(وقبقبه) بطنه، باعتبار أنّ البطن يشتهي أن يتطلع إلى كل ما يملؤه، فقد يكون حراماً وقد يكون حلالاً، والحرام شر، والحلال خير، فمن وقي شر بطنه وقيّ الشر، لأنّه ما ملأ العبد وعاءً شراً من بطنه، سواء كانت تأثيرات البطن في الحلال أو الحرام، أو في المرض والصحة.
(وذبذبه)، أي فرجه، باعتبار أنّ الفرج هو الذي يقود الإنسان نحو الشهوات التي قد تكون شراً إذا كانت حراماً، وقد تكون خيراً إذا كانت حلالاً.
وقد ورد في الحديث عن مسألة اللسان في كلمة لرسول الله (ص) يقول: "إن كان الشر في شيء ففي اللسان"، لأنّ طبيعة اللسان هي أنّها تعبر عن كل ما يفكر به الإنسان، وعن كل ما يتحرك به، وعن كل ما ينطلق به في علاقاته مع الناس في المستوى الفردي والاجتماعي، وفي كل المشاريع التي يخطط لها، سواء كانت مشاريع سلم أو مشاريع حرب، مشاريع خير أو مشاريع شر، فباللسان يغتاب الإنسان، ويسبّ، ويفتن، ويطلق الكلمات التي يأمر فيها بالقتل والجرح والحرب وما إلى ذلك.
وقد ورد في الحديث عن الإمام محمد الباقر (ع): "إنّ هذا اللسان مفتاح كل خير وشر". لأنّه يمكن للإنسان أن ينفتح بلسانه على ما تفيده الكلمات من مضمون الخير، ويمكن أن ينفتح به على ما في الكلمات من مضمون الشر، "فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه"، بمعنى أن يجعل قفلاً للسانه "يختم على ذهبه وفضّته"، فكما تحافظ على ثروتك وتقفل عليها لكي لا يعبث بها اللصوص، عليك أن تختم على لسانك حتى لا ينفذ الشيطان إليه.. فيفتح لك من خلال باب الشر، ويغلق عنك باب الخير. وقد ورد عن الإمام علي (ع) أنّه قال في نهج البلاغة: "لقد قال رسول الله (ص): لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه"، والمراد بالقلب غالباً العقل، وهو منطقة الوعي الداخلي.

- إستقامة الأعضاء باستقامة اللسان:
واستقامة القلب بمعنى توازنه في طريقة إدراك الأشياء، وفي الإيحاء للإنسان باختيار الأشياء المستقيمة التي يمكن لها أن تجعل حياته في خط التوازن، لأنّ الإيمان يمثل القاعدة التي تنفتح بالإنسان على الله سبحانه وتعالى، وتربطه بالله وبكل ما يحبه ويرضاه. ولذلك، فإنّ الإيمان عندما يستقيم، فإنّ الإنسان يتحرك في خط العقل، لأنّ الله جعل العقل الحجة على الإنسان، وجعله الهادي له. وقد ورد في الحديث القدسي – مخاطباً العقل – "إياك آمر وإياك أنهى، وبك أثيب وبك أعاقب"، فلا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه؛ لأنّ عقله إذا كان منحرفاً أو كان منطلقاً في خطِّ الانحراف، فمعنى ذلك أن إيمانه يكون منحرفاً؛ لأنّ الإيمان ينطلق من خلال العقل، "ولا يستقيم قلبه"، يعني لا يتوازن العقل في حركته في ما يريد للإنسان أن يتحرك فيه، "حتى يستقيم لسانه".
ثمّ يقول الإمام علي (ع) بعد نقل هذه الكلمة عن رسول الله (ص): "فمن استطاع منكم أن يلقى الله وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم"، يعني من استطاع أن يعيش مع الناس وقد سلموا من يده في ما يمكن أن يعتدي به عليهم، أو في ما يأخذه من أموالهم، "سليم اللسان من أعراضهم" لا يسبّهم، ولا يؤذيهم، ولا يوقع بينهم، ولا يتعرض لكراماتهم "فليفعل"، فهذا هو طريق السلامة للإنسان. وقد ورد في الحديث: "المسلم من سلم الناس من يده ولسانه".
وقد ورد عن لسان الرسول (ص): "إذا أصبح ابن آدم"، وهو تعبير وارد على نحو الكناية، وعلى نحو تقريب الفكرة "أصبحت الأعضاء كلها تستكفي اللسان"، يعني تطلب من اللسان أن يكفيها شره، "أي تقول: اتق الله فينا"، يعني أننا سنتعذب بسببك "فإنّك إن استقمت" وكانت كلماتك في ما يرضي الله وفي مواقع طاعته، وفي خط الاستقامة، فنحن نستقيم، لأنّ الإنسان عندما يتكلم بالأمانة، عندئذٍ تكون اليد أمينة، وعندما يتكلم باحترام دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، فإنّ اليد عند ذلك تكون عفيفة غير عدوانية، بينما لو فرضنا أنّ اللسان تكلم بكلمات فيها العدوان، أو على خلاف العفة والسلامة للناس، فإنّ اليد تتحرك في هذا الاتجاه، "فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت أعوججنا"، كذلك في كل المحرمات عندما يتكلم الإنسان بالمحرمات.
وإذا تكلَّم اللسان بالحلال في ما يتّصل أيضاً بأعضاء الإنسان، فإنّ الأعضاء تتجه أيضاً إلى الحلال في ذلك المقام. وقد ورد في كلام الإمام علي (ع): "لسان العاقل وراء قلبه، ولسان الجاهل مفتاح حتفه". إنّ العاقل لا يتحدث إلا بعد أن يوحي إليه عقله بما يتحدث به، فالعقل هو القيادة، واللسان جندي من جنود العقل، بينما عندما يتكلم الجاهل أو الأحمق، فإنّه قد يتفوّه بكلام من دون أن يدرسه أو يحتاط به، ما يجعل الآخرين يشاركون في هلاكه وفي قتله. وعنه (ع) أيضاً: "لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه". أمّا لسان العاقل، فقد تقدّم الحديث عنه، وأما الأحمق، فهو الذي لا يملك العقل الذي يزن به الأمور، والذي يدرك به حسن الأشياء وقبحها، ولذلك، فإنّه يتكلم الكلمة أوّلاً، ثمّ يفكر فيها بعد أن تعطيه النتائج السلبية.

- سلامة الإنسان بحفظ اللسان:
وفي حديث الإمام علي (ع) في هذا الاتجاه أيضاً يقول: "إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه" هنا يربط المسألة بقضية الإيمان والنفاق، لأنّ المؤمن ينطلق من خلال إيمانه على أساس أنّه مسؤول عن كل أقواله وأفعاله، ولذلك، فإنّه لا يتكلم بكلمة إلا بعد أن يستنطق إيمانه، ليرى أن هذه الكلمة، هل تنسجم مع خطه الإيماني أو لا تنسجم؟ وهل أنها تتحرك في خط الحسن أو في خط القبح؟ وهل هي مما يضره أو مما ينفعه؟ وهل هي مما يؤدي إلى النتائج السلبية في حياة الناس من حوله أو إلى النتائج الإيجابية؟ لذلك فالمؤمن يستنطق عقله إذا أراد أن يتكلم بما يوحي إليه به عقله، "وإن قلب المنافق"، وهو الذي لا يملك قاعدة فكرية للإيمان تحدد له ما يفعله وما يتركه، ولذلك، فإنّه يتكلم على حسب هوى نفسه، "وإنّه قلب المنافق من وراء لسانه"، باعتبار أنّ المنافق يتكلم بما يوحي به هوى نفسه ثمّ يفكر.
والإمام (ع) هنا لا يتركنا نضيع في غموض الكلمات، فكيف يكون اللسان وراء القلب للمؤمن؟ وكيف يكون القلب وراء اللسان للمنافق؟! مع أننا إذا أردنا أن نتكلم عن الجانب الحسي، فلسان المؤمن ولسان المنافق في مكان واحد، ولا يوجد فرق بينهما، لكن الإمام أراد أن يعبِّر عن خلفية المسألة من ناحية الكناية عن الفكرة، يقول: "لأنّ المؤمن، إذا أراد أن يتكلم بكلام، تدبّره في نفسه" يفكر ويعرضه على عقله، "فإن كان خيراً" قال له العقل هذا الكلام خير، وهو كلام يمكن أن تتحمل مسؤوليته، ويمكن أن يرضى الله عنه وأن يثيبك عليه "فإن كان خيراً أبداه" أظهره "وإن كان شراً وراه"، يعني إذا أوحى له العقل بأن هذا كلام شر، وأنك لا تستطيع أن تتحمل مسؤوليته، ولا تستطيع أن تقابل به ربك، فإنّه يخفيه، "وإنّ المنافق يتكلم بما أتى على لسانه" يعني عندما تأتي الكلمة إلى اللسان من خلال شهوات نفسه، فإنّه يتكلم وهو لا يدري ماذا له وماذا عليه، لأنّ الكلمة لا تنطلق من خلال الفكر، ولكنها تنطلق من خلال هوى النفس.
وقد ورد في الحديث عن الرسول (ص): "سلامة الإنسان في حفظ اللسان"، لأنّ الإنسان إذا حفظ لسانه فإنّه يصون نفسه من كثير من العثرات التي تؤدي به إلى المهالك. وقد ورد أيضاً: "لا يسلم أحد من الذنوب حتى يخزن لسانه"، لأنّه إذا خزن لسانه، فإنّه يستطيع أن يوجهه إلى ما فيه سلامته في الدنيا والآخرة. وورد أيضاً عن الإمام علي (ع): "زلة اللسان تأتي على الإنسان"، وورد عنه: "المرء يعثر برجله فيبرأ"، لأنّ الإنسان عندما يعثر برجله يداويها فيبرأ، "ويعثر بلسانه فيقطع رأسه"، ربّما يتكلم بكلمة تؤدي به إلى القتل.
وقد ورد في بعض كلام الشعراء:
يصاب الفتى من عثرةٍ بلسانه **** وليس يصاب المرء من عثرة الرِّجل

المصدر: كتاب الندوة/ السلسلة (15)

ارسال التعليق

Top