• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العطاء ومعادلة العبادة

العلامة الراحل السيِّد محمّدحسين فضل الله

العطاء ومعادلة العبادة

- روحية العطاء:

يريد الله تعالى للإنسان سواءً كان رجلاً أو إمرأة أن يعيش روحية العطاء، وذلك بما تمثّله كلمة الصدقة من مفهوم العطاء قربةً إلى الله تعالى، فيقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد/ 18)، يُحث الله الإنسان على أن يوظّف بعض القدرة المالية في أن ينفق الآن، لأنّه قد يملك الفرصة في أن يتصدّق على الفقراء والمحرومين، ويقول له، بأنّ الصدقة عبادة، فأنت إذا أعطيت إنساناً فقيراً محروماً قربةً إلى الله تعالى، فإنّ عطاءك هذا صلاةٌ تصلّيها، فكما أنّ الصلاة تكون بالأذكار والحركات من ركوع وسجود، فإنّها تكون بالصدقات. وهذا هو الذي جعل عليّاً (ع) يتصدّق بخاتمه وهو في حال الركوع، لأنّه (ع) كان لا يرى فرقاً بين الصدقة والصلاة، فهو عندما يركع ويسجد بين يدي الله، فإنّه في حالة صلاة، وعندما يتصدّق، فهو في حالة صلاةٍ أيضاً، فهناك صلاة الركوع، وصلاة الصدقة.

ثمّ إنّ الله تعالى يقول، لا تعتبر الصدقة عندما تتصدّق بها - أيها الرجل وأيتها المرأة - خسارةً، لأنّه سبحانه يعتبر صدقة المتصدّقين والمتصدّقات قرضاً حسناً في حساباته، والصدقة عندما تعطيها للفقير، فإنّها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، كما جاء في بعض الأحاديث، فالله يستقرض منك بالفائدة، والفائدة عند الله ليست كفوائدنا نحن، بل يعطيها مضاعفة، أي مئة بالمئة.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، هي دَيْنٌ في ذمّة الله، يوفيكه الله مُضاعفاً يوم القيامة (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88-89)، وليس هذا الدَيْن يُضاعف مئة بالمئة وحسب للإنسان، بل (وَلَهُم أَجْرٌ كَريمٌ)، أي هناك ما فوق المُضاعف. وهذا هو الذي يدفعنا لأن نفكّر دائماً بانتهاز فرصة إمكاناتنا حتى نُعين الناس الذين يحتاجون إلى معونتنا. وقد يعتبر الكثيرون منا حاجة الناس إليهم عبئاً عليهم، ولكن جاء في الحديث: "إنّ من نِعَم الله عليكم حاجة الناس إليكم" لأنّ الناس عندما يحتاجونك وتعطيهم مما أنعم الله به عليك، فإنّ ذلك يرفع درجتك عنده سبحانه. وقد ورد في الأحاديث عن بعض أئمة أهل البيت (ع) أنّهم إذا جاءهم سائلٌ أو صاحب حاجة، استعجلوا قضاءَ حاجته، ولذا ورد عن الإمام علي بن الحسين (ع): "أخاف أن يستغني عني قبل أن أقضي حاجته" وقد ورد أيضاً: "داووا مرضاكم بالصدقة" فمع ذهاب المريض إلى الطبيب، فليحاول أن يتصدّق، فلعلّ بركة هذه الصدقة تُسرع في شفائه. وفي الحديث عن عليٍّ (ع) أيضاً: "سوسوا إيمانكم بالصدقة" أي احفظوا إيمانكم بالصدقة، كيف؟ تسوس إيمانك بالصدقة كي لا يضعف وينحرف ويضلّ عن الخطِّ المستقيم. لذلك، فبذل الصدقة فرصةٌ، كلٌّ بحسب استطاعته، وإذا كان البذل إيثاراً، فهو فوق الفوق (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).

 

- النموذج الأمثل في العطاء:

وقد مدح الله تعالى أهل البيت (ع) عليّاً وفاطمة والحسن والحسين - سلام الله عليهم - حيث قال سبحانه: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) (الإنسان/ 8-10)، وماذا كانت النتيجة لعطائهم وصدقتهم (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) (الإنسان/ 11-12)، ولو لم يكن للصدقة دورٌ في قُرب الإنسان إلى الله لما تحدّث سبحانه عن هذه المكرمة لعليٍّ (ع) عندما أراد أن يكلّف الناس بولايته (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة/ 55) والمراد بالزكاة، الصدقة، حيث كان عليٌّ (ع) راكعاً في الصلاة وجاءه سائلٌ، فأخرج الإمام (ع) خاتمه من إصبعه وأعطاه إيّاه ثمّ أكمل صلاته، فنزلت الآية المباركة.

إذاً، (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) (الحديد/ 18-19)، هذه درجة المؤمنين عند الله، أن تؤمن بالله الواحد أنّه ربُّك ولا ربَّ لك غيره، وأن تؤمن برسول الله (ص)، وأنّ الله بعثه برسالته ليبلِّغها للناس، ليتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة بعد أن كانوا في ضلال مبين.. أن تؤمن بالله ورسوله إيماناً عميقاً جديّاً.. أن تؤمن بالكلمة تنطق بها، وبالعقل تفكّر به وتقتنع، وأن تؤمن بالقلب الذي ينفتح على الله ورسوله، وأن تؤمن بحركتك في جسدك، عندما تجسّد الإيمان عملاً، فتقوم بما أمرك الله، وتترك ما نهاك عنه، لأنّ الإيمان عقيدةٌ في العقل، وكلمةٌ في اللسان، وحركةٌ في الجسد، فليس الإيمان مجرّد كلمة من دون مضمون، أو إنّ الإيمان في القلب وحسب كما يقول بعض الناس.

والدعاوى إن لم تقيموا عليها **** بيّناتٍ أصحابها أدْعِياءُ

كُلٌّ يدّعي، وبعد ذلك تُعرف الحقيقة ويُكشف العمل.

تعصي الإله وأنت تُظهر حبّه **** هذا لعمرُك في الفعال بديعُ

لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَه **** إنّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ

فالمؤمنون (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2)، فليس إيمانهم إيمان الكلمة. وعلى هذا، فإنّنا نعرف عمق الإيمان من خلال مواقعه، في العقل واللسان وفي حركة الجسم، أي أن يكون عقلك عقلاً مؤمناً ولسانك لساناً مؤمناً، وجسدك جسداً مؤمناً، وجسدك جسداً مؤمناً يتحرّك كما يحبّ الله له أن يتحرّك، ويقف كما يريد الله له أن يقف.. وإذا كنت كذلك، فما هي صفتُك عند الله؟ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) (الحديد/ 19)، الصديق أكثر من الصادق، وهؤلاء صدقوا الله بعقولهم وألسنتهم وحركتهم في الحياة، فليست هناك كذبةٌ في خفقات القلب، ولا في فلتات اللسان، ولا في حركة الجسد (أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ) (الحديد/ 19)، الذين يجعلهم الله شهوداً على أُمّتهم. كلّما عظم إيمان الإنسان، كلما استقام طريقه وانفتح على ربِّه، وكان شاهداً عند الله على المجتمع الذي عاش فيه، لأنّه يُطلّ على مجتمعه من موقع استقامته في الخطّ (أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) (الحديد/ 19)، فالله يعطيهم أجرهم، ويحوِّل إيمانهم إلى نور في وجوههم يوم القيامة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الحديد/ 12)، وهؤلاء يطلبون من الله (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) (التحريم/ 8)، أكمله لنا، لأنّ النور قد يَنتقص بفعل بعض السيئات والمعاصي.

هؤلاء هم المؤمنون، وأمّا الكافرون والكاذبون، فما مصيرهم؟ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (الحديد/ 19). هكذا باختصار ومن دون تفاصيل.

 

- الدنيا الغرور:

والآن نعود إلى الدنيا، وما هي صفاتها (اعلَموا) اعلموا، تيقّنوا من خلال التفكير والدراسة وملاحقة الحياة في كلِّ أحداثها ومراحلها وطبيعتها، ما هي صورة الحياة الدنيا في العمق؟ (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) (الحديد/ 20)، وتتطوّر "الألعاب" حسب تطوّر العصر، فنرى بعضاً من الرجال تأنّث، وبعضاً تذكّر، ويظهر التفاخر بين الناس، هذا يدّعي بأنّه صاحب المجد الرفيع، وذاك يفخر بالنسب العظيم، وذلك يعلن اعتزازه بكثرة المال والأولاد (وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ) (الحديد/ 20)، يتفاخرون على طريقة "صاحب الجنتّين" (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف/ 34)، وكانت نتيجة افتخاره (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) (الكهف/ 42).

الدنيا في سطحها سائرة على هذا الأساس، والناس عادةً يهتمون بالسطح ويصرفون نظرهم عن العمق.. وما الدنيا فيما لو أردنا المقارنة؟ (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) (الحديد/ 20)، ليس المقصود بكلمة الكفّار، الجاحدين في مقابل المؤمنين، الكفار يعني الفلاحين، لأنّ الكفر لغوياً هو الستر، والفلاح يستر البذرة بأن يجعلها في عمق الأرض ويضع التراب فوقها. لذا، سُمّي الكافر كافراً لأنّه يستر الحقّ، مثلما يستر الفلاح البذرة. (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) (الحديد/ 20)، فأعجب الفلاحين (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) (الحديد/ 20)، فهذه الخضرة في النبات، وهذا التنوّع في الأشجار والأثمار، لا يبقى على حالة، يأتي الخريف فتتساقط وتصفّر (ثُمَّ يَكُونُ حُطامَاً). يتفتّت ويتحطّم على الأرض.. وحال النبات، حال الإنسان، يبدأ جنيناً ثمّ طفلاً وبعدها شاباً، ثمّ ينتقل إلى الكهولة والشيخوخة، فالموت.هذه هي الدنيا، وماذا في الآخرة (وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) (الحديد/ 20)، لمن كفر وانحرف عن خطِّ الله (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) (الحديد/ 20)، تستطيع أن تحصل على الرضوان، إذا كان لعبك ولهوك وزينتك حلالاً، وإذا كان فخرك بالحقّ، وتكاثرك بالعمل الصالح والخدمات والمشاريع العامّة، وهكذا تستطيع أن تحصل على الجنّة، أمّا إذا كان لهوك حراماً وزينتك حراماً وتفاخرك بالباطل، فإنّ العذاب الشديد بانتظارك (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد/ 20)، فهي متاع الخداع، لأنّه مَن هو الذي صفت له الحياة الدنيا، أو خلد فيها واستراح. ففي الحديث: "مَن كانت مطيّته الليل والنهار، فإنّه يُسار به وإن كان واقفاً".

وهكذا العمر يمشي وأنت واقف، لأنّ لكلّ شيءٍ حركته وللعمر حركته، ولذلك يجب على الشباب أن يستغلّوا الفرصة، فالشباب قوّة وحيويّة وعزيمة وصلابة، فليكن لديكم شباب العمل وشباب الطاعة وشباب الجنّة.

وتراكضوا خيلَ الشباب وبادروا **** أن تُسْتَردَّ فإنهنّ عواري

فالحياة كما أخذت آباءكم وأجدادكم ستأخذكم، فلا تغتروا بها، وانظروا إليها نظركم إلى رحلة تقطعونها لتهيّئوا لمرحلة جديدة، وعلى هذا (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (الحديد/ 21)، إنزلوا إلى ساحة السباق، وليس سباق الخيل، بل السباق نحو الهدف وهو رضى الله تعالى لتحصلوا على مغفرته (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) (الحديد/ 21)، وليس هنا العرض مقابل الطول، حتى يُقال: إذا كان عرضها عرض السماوات والأرض، فكم يبلغ طولها؟ المقصود بالعَرْض هنا، السَّعة، أي أنّ سَعة هذه الجنّة كسَعة السماوات والأرض (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) (الحديد/ 21)، لهؤلاء الذين آمنوا بعقولهم وألسنتهم وحركة أجسادهم، كما شرحنا ذلك في بداية البحث (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد/ 21)، فالمغفرة والجنّة فضلٌ من أفضال الله، يتفضّل به على مَن يشاء من عبادة الذين وفقّهم للإيمان والطاعة.

 

المصدر: كتاب من عرفان القرآن

ارسال التعليق

Top