فؤاد عبدالكريم
يعد مفهوم الحرية من المفاهيم والمصطلحات الواسعة التي تعدد فيها الرؤى. وقد كان هناك مفهوم سائد في الممالك الوثنية إبان هيمنة الكنيسة على العقلية الأوروبية؛ حيث كانوا يزعمون أنّهم أبناء الحرة؛ ولذلك فهم يقتلون كلّ من يعارضهم، حتى وإن كان من أتباع الكنيسة، ومثال ذلك واضح في محاكم التفتيش، فلا رأي، ولا تفكير، ولا تعبير، ولا نشر إلا بإذن الكنيسة، فهي وحدها وصفوة الملوك والنبلاء، أقدر الناس على الوصول إلى الرأي الصائب ومعرفة الحقيقة. ثمّ جاءت فلسفة الحرية المطلقة كنقيض للفلسفة التسلطية، فقالت بالحرية المطلقة، وهي: الخلوص من كلِّ قيد، والقدرة على الفعل مطلقاً.
ولقد أدرك الفلاسفة في المجتمعات الغربية فساد الحرية الفوضوية، التي تزعم: انّ الحرية هي نقيض الالتزام، فظهرت فلسفة الحرية الاجتماعية، وانبثقت منها نظرية الحرية والمسؤولية الاجتماعية. وقد انقسم المفكرون والفلاسفة في عصر النهضة، في تعريف الحرية إلى مدرستين:
المدرسة الأولى: ترى أنّ الحرية هي: "قدرة الإنسان، أو سلطته في التصرف".
وهذه المدرسة ترى أنّ الحرية إرادة، ولهذا تعرفها بأنها: "قدرة الإنسان أو سلطته في أن يفعل، أو أن يقدم على أن يفعل أي تصرف".
أما المدرسة الثانية فترى أنّ الحرية: "حكم العقل".
وهذه المدرسة ترى أنّ الحرية إرادة خاضعة للعقل، أو هي: "حكومة العقل والضمير".
وقد أشار معجم (المصطلحات القانونية) إلى أنّ الحرية تعني: "الخير الأسمى، بالنسبة للفرد أو للشعب؛ بهدف العيش بعيداً عن أي استعباد، أو استغلال، أو اضطهاد، أو هيمنة داخلية أو خارجية".
وهناك من عرّف الحرية بأنّها: "حالة الفرد الذي لا ترد عليه أيّة قيود، ويتصرف حسب إرادته وطبيعته".
علاقة الحرية بقضية المرأة:
لم تحظ المرأة في تاريخ الحضارات القديمة بأيِّ نظرة إنسانية كريمة، وإنما كانت عند الرومان، واليونان، وفي شريعة حمورابي، وعند الهنود، وفي شريعة اليهود المحرفة، وشريعة النصارى المحرفة وغيرهم، كانت محتقرة، وملعونة؛ لأنّهم يرون أنها أغوت آدم (ع)، ورجساً من عمل الشيطان، بل هي أحياناً تعد في عداد الماشية المملوكة.
وأما الحضارة المصرية، القديمة فيرى بعضهم أنها أعطت المرأة حقوقاً أشبه بحقوق الرجل، ولكنها أدنى من منزلة الرجل.
وأما عند الغرب في الجاهلية، فكانت المرأة تئن من ظلم المجتمع لها، فلا حقّ لها في الإرث، وليس لها حقّ على زوجها، وكانت تورث كرهاً، وكان الآباء يتشاءمون من ولادة الأنثى، كما أنّ بعض القبائل كانت تئد البنات خشية الفقر والعار.
ولما نهض فلاسفة أوروبا ومفكروها في القرن الثامن عشر الميلادي، رفعوا شعار حماية حقوق الفرد في المجتمع، وطالبوا بالحرية الفردية، كان بين أيديهم ذلك النظام التمدني الفاسد، الذي كان قد تولد بتفاعل الاتحاد الثلاثي من نظم الأخلاق، وفلسفة الحياة المسيحيتين، ونظام الإقطاعية، وقيّد الروح البشرية بقيود مثقلة غير طبيعية، وسد في وجهها جميع سبل الرقي والازدهار، فالنظريات التي قدمها أساطين أوروبا الجديدة، وأقطاب التفكير الجديد فيها؛ للقضاء على ذلك النظام الفاسد، واستبدال نظام جديد به، أسفرت عن ثورة فرنسا الشهيرة.
وكلّ ما فعلوه في بدء هذا العهد الجديد لإنهاض المرأة من كبوتها كان له أثر محمود نسبياً في الحياة الاجتماعية، وإن كان لا يخلو من قصور واضطراب؛ ولكن النظريات التي تولدت من بطنها هذه الحركة كانت تتسم من أول أيامها بالنزوع إلى الإفراط، والميلان عن القصد، ثمّ نما هذا النزوع، واشتد في القرن التاسع عشر الميلادي، وما كان يبتدئ القرن العشرون، حتى بلغ نظام الاجتماعي الغربي نهاية الإفراط، والتباعد عن القصد، وهذه النظريات التي أسس عليها بنيان الاجتماعي الغربي الحديث يمكن حصرها في ثلاثة جوانب، هي:
الجانب الأوّل: المساواة بين الرجال والنساء:
فبالنسبة للمساواة، لم يكتفوا أن يكون الرجل والمرأة متساويين في الحقوق البشرية والمنزلة الخلقية فحسب، كما دعا إلى ذلك – مثلاً – الفيلسوف المفكر الإنجليزي (جون ستيوارت ميل)، حيث قال: "إنّ مبدأ الحرية يقضي بأن يكون الفرد حر التصرف، يفعل كما يشاء في شؤونه الخاصة، ولكنه لا يجيز البتة أن يكون الفرد حر التصرف – يفعل كما يشاء – في شؤون غيره، بحجة أنّ شؤون هذا الغير هي عين شؤونه الخاصة. وإذا كان يتحتم على الحكومة أن تحترم حرية الفرد في شؤونه الذاتية، فمن واجبها أن تراقب – بعين يقظى – كيفية استعماله ما تخوله من النفوذ على غيره. ولكن من العجب أنّ هذا الواجب المتحتم يكاد يهمل إهمالاً تامّاً في مسألة العلاقات العائلية، التي ترجح – لخطورة شأنها وتأثيرها المباشر في سعادة الإنسانية – بغيرها من المسائل قاطبة. ومما يتناقض مع هذه الفكرة ما يقع بين الأزواج من تسلط الزوج على الزوجة، إذ يبلغ مبلغ الاستبداد، وهذا الأمر يحتاج إلى الإسهاب في تقبيحه للسببين الآتيين:
أوّلاً: لأنّ استئصال شأفة هذا الشر لا تقتضي إلا تسوية المرأة بالرجل فيما يخول من الحقوق، وفيما يتمتع به من حماية القانون.
ثانياً: لأنّ الذين يناضلون عن هذا الضرب من الظلم، لا يفعلون ذلك بحجة الحرية، بل يصرحون – جهارا – بأنّ حجتهم في هذا النضال هي القوة".
بل إنّ هؤلاء الفلاسفة والمفكرين دعوا إلى أن تؤدي المرأة في الحياة المدنية ما يؤديه الرجل من الأعمال، في جميع المجالات: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية، والإدارية، وغيرها من مجالات الحياة، وأن يرخى لها من عنان القيود الخلقية مثل ما أرخي للرجل من ذي قبل.
وهذه الفكرة الخاطئة للمساواة جعلت المرأة غافلة بل منحرفة عن أداء واجباتها الفطرية ووظائفها الطبيعية التي يتوقف على أدائها بقاء المدينة، بل بقاء الجنس البشري بأسره، واستهوتها الأعمال والحركات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
وهكذا فهمت المرأة الغربية الحرية فهماً معكوساً، وفي ظل هذه الحرية الزائفة تحررت المرأة من الآداب، والأخلاق، وداست على شرفها وواجباتها أُمّاً، وزوجة، وربة منزل، فتهدم المجتمع بأكمله.
الجانب الثاني: استقلال النساء بمعايشهنّ:
وبالنسبة لاستقلال النساء بمعايشهنّ، فإنّ هذا الأمر جعل المرأة في غنى عن الرجل، فأدى إلى تعدي الرجال عليها؛ لأنّها خسرت الرجل الذي يحميها سواء كان أخاً أو زوجا.
وهذا الاستقلال في المعيشة أجبر المرأة على كسب عيشها بكد يمينها؛ مما أدى إلى استغلالها، إذ صارت تقبل أن تعمل أي عمل تجده، مهما كان ضئيل المردود، وتقبل بأيِّ عمل مهما كانت مجهداً أو مصحوباً بالتنازلات الشرفية وخاصة عندما يصيبها المرض.
كما فقدت المرأة الهدوء في حياتها، والاستقرار في بيت خاص بها. فهي في كلِّ ليلة في بيت صاحب لها، أو طالب لها، أو عشيقها؛ لقضاء شهوته معها، ثمّ ترجع آخر الليل إلى غرفتها وحيدة خائفة؛ وذلك لأنّها لم تلزم نفسها بزوج يحميها ويرعاها، ويؤويها في كنفه، ويشبع غريزتها الجنسية، كما أنّها حرمت من نعمة الأطفال؛ لأنّها لم تتزوج كغيرها والابن غير الشرعي معلوم مصيره. وهكذا خسرت الأمان والعطف، والراحة والاستقرار والأنس، بل فقدت السعادة كلّها.
الجانب الثالث: الاختلاط المطلق بين الرجال والنساء:
لقد استحث الاختلاط المطلق بين الرجال والنساء غريزة التبرج والعري في النساء، فالجاذبية بين الجنسين موجودة لا تنكر، وتزداد قوة واشتداداً باختلاط الجنسين، ومن شأن هذا المجتمع المختلط أن تنشأ غريزة جديدة في الجنسين، وهي الظهور بأبهى مظاهر الزينة وأشدها جذباً للجنس الآخر. ولما لم تعد الاستزادة من أسباب الزينة والتجمل شيئاً ينكر ويعاب – بسبب نظرية الحرية الشخصية –، بل يستحسن التبرج السافر، والأخذ بكلِّ أسباب الفتنة والاستهواء، فلا يقف هذا الافتتان بإبداء الزينة والجمال عند حد، بل يتجاوز الحدود كلها، حتى ينتهي أمره إلى آخر غايات العري المشين، وهذا ما وصلت إليه الحال في المدنية الغربية، فقد ازدادت – ولا تزال تزداد – في المرأة الغربية غريزة التجمّل، وحب الظهور بالمظاهر الجذابة، بل وصل الأمر إلى ظهورها عارية، واعتبار هذا الأمر من الحرية الشخصية، التي لا يجوز لأحد التدخل فيها.
إنّ التصور المتطرف للحرية هو الذي حدثت بفعله الثورة الفرنسية، فأخذت تبطل كثير من النظريات الخلقية، وتهدم القواعد المدنية والدينية. ولما تحقق عند أصحاب الثورة أنّ سقوطها وانهدامها – أي هذه النظريات – هو سبيل الرقي ومبعث الحرية،استنتجوا منه وقرروا أنّ كلّ نظرية وكلّ طريق عملي وصل إليهم من أسلافهم، عقبة معترضة في طريق الرقي والازدهار، ولا يمكن التقدم إلى الأمان بدون إزاحتها عنه.
وقد أكّد هذا الأمر الأدباء المشهورون في كتاباتهم ورواياتهم، فقد جاء في إحدى الروايات الأدبية الفرنسية – تأكيداً لحرية المرأة في أن ترتمي في حضن من تشاء بدون رباط النكاح المقدس: "لم أبدل رأيي، ولم أصالح المجتمع، وإنّ النكاح في رأيي لأفظع الطرق الاجتماعية، وأكثرها همجية.. وإن كتب للجيل الإنسان أن يتقدم حقاً في طريق العقل والعدل، فليأتين عليه حين من الدهر يلغي النكاح، ويستبدل به طريقة أخرى لا تقل عنه قداسة وطهرا، ثمّ تكون أدنى منه إلى التهذب والإنسانية.. حينئذ سيتألف الجيل الإنساني من رجال ونساء متسامحين، لن يحجر أحد منهم على حرية الآخر. أما الآن فقد بلغ من أثرة الرجال وانحراف النساء ألا يطالب أحد منهم بقانون أكرم، وطريقة أمثل من هذا القانون – أي النكاح – .. وما دام القوم على هذه الحال من فقد الصلاح وضعف الضمير..، فليرسفوا في هذه القيود الفادحة، ولا أبالي..".
ثمّ أتت طائفة أخرى من رجال الأدب وعلماء الأخلاق وكتّاب المسرحيات، استفرغوا جهودهم؛ لإشاعة الفكرة القائلة بأنّ الحرية والتمتع بلذات الحياة في ذاته حقّ فطري للإنسان، ومن عدوان المجتمع على الفرد أن يقيد حقه هذا بسلاسل الأخلاق والتمدن.
حرية المرأة في الإسلام:
إنّ الإسلام ألزم الرجل والمرأة العبودية لله الواحد الأحد – في صورة الخضوع لمنهجه ودينه – وهذه العبودية هي أعظم مراتب الحرية، فالمسلم – من خلال توجهه لله وعبادته له – يتحرر من كلِّ سلطان، فلا يوجه قلبه ولا يطأطئ رأسه إلا لخالق السماوات والأرض، فالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، الشجر، والدواب، كلّها مخلوقات عابدة لله، خلقها الله لمنفعتنا لا لنعبدها.
والإنسان في الإسلام يتحرر حتى من سيطرة الهوى وسلطان الشهوة، فالذي يسيطر على ضميره ودخيلته إنما هو سلطان الشرع، وهو يطرد سلطان الهوى إذا عارض سلطان الشرع، قال سبحانه وتعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41).
إذن هي حرية في صورة العبودية، ولا يمكن للبشرية أن تتحرر إلا بهذه العبودية. إنّ الحرية لدى غير المسلمين تصبح حرية جوفاء لا معنى لها، بل هي العبودية المذلة المهينة – وإن بدت في صورة الحرية.
ولأجل هذا، فإنّ الإسلام لا يعتبر المرأة جرثومة خبيثة – كما اعتبرتها اليهودية والنصرانية المحرفتين – بل يقرر الحقيقة التي تزيل الهوان الذي وصمتها به الأديان المحرفة.
فالمرأة في ميزان الإسلام كالرجل، فرض الله عليها القيام بالتكاليف الشرعية، وهي تحمد إذا استجابت لأمر الله، وتذم إن تنكبت الصراط السوي، كما قال – عزّ وجلّ –: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) (غافر/ 40).
وهكذا فهمت المرأة الغربية الحرية فهماً معكوساً، وفي ظل هذه الحرية الزائفة تحررت المرأة من الآداب، والأخلاق، وداست على شرفها وواجباتها أُمّاً، وزوجة، وربة منزل، فتهدم المجتمع بأكمله.
إنّ الحرية – التي تطالب بها المرأة حقيقة – هي أن تعامل في المجتمع على أنها مكرّمة – كرمها الله تعالى كما كرّم الرجل، وألا يهضمها الرجل حقوقها التي منحها الشرع، وألا يتجاوزوها تحت شعار التسلط، أو القوامة – على خلاف ما أراد الله عزّ وجلّ لهذه القوامة – فالقوامة – بمفهومها الإسلامي – هي جزء من نظام متكامل – يحفظ للمرأة حقوقها وإنسانيتها، فهي ليست تسلطاً واستعلاءً.
إنّ من أعظم ما جاء به الإسلام اللمرأة، أن صان كرامتها الإنسانية، وأوضح لها شخصيتها المستقلة، وأعطاها حريتها السامية، في العمل والتعلم، والتملك، وإبداء الرأي، فجعلها مسؤولة عن أعمالها – كالرجل تماما –.
فالإسلام رفع عن المرأة لعنة الخطيئة الأبدية، ووصمة الجسم المرذول التي ألصقها بها رجال الدين السابقون، وجعل الإسلام المرأة كالرجل في الإنسانية، والمسؤولية، والواجبات الدينية.
وقد أوصى الإسلام بالمرأة خيرا، وحض على تربيتها تربية صالحة، وبشّر بمضاعفة الثواب في تربية البنات، عملا بحديث الرسول (ص): فعن النبيّ (ص) قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، واستوصوا بالنساء خيرا".
المصدر: مجلة الطاهرة/ العدد 194 لسنة 2008م
ارسال التعليق