• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مجتمعنا والقرآن الكريم

العلامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله

مجتمعنا والقرآن الكريم

للقرآن في حياتنا قيمة القاعدة الفكرية والروحية التي ترتكز عليها عقيدتنا - كمسلمين -، والمنطلق الذي تنطلق فيه آفاقنا في الميدان الاجتماعي والحضاري، والمنهج الذي ينظم حياتنا على أساس متين من العدالة والاستقامة وهو - قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء - كتاب الله الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فما يقرره ويحكم به، يعتبر حقيقة نهائية في نظرنا إذا أحسنا فهم ما يقرره وما يحكم به.

وبهذا كان مقياساً نحاكم على أساس أيّة فكرة وأيّة عقيدة ونحدد قيمتها من حيث صحّتها أو أصالتها في الإسلام أو فسادها وبعدها عنه.

وعلى ضوء هذا نستطيع أن نقرر أنّ الابتعاد عن القرآن لا يعطي إلّا نتيجة واحدة - هي الابتعاد عن الإسلام عقيدة ووعياً وحياة. فلا يمكن لأي إنسان أن يفهم الدين الإسلامي إذا لم يحمل في فكره وفي روحه - ثقافة قرآنية واعية، تضع أمامها قبل كلّ شيء.. أنّ القرآن أنزل من قبل الله ليكون منطلقاً للسموّ الروحي والفكري والاجتماعي، والخلقي، لا ليكون كتاباً يقرأ للتبرك أو للاستمتاع بأسلوبه وتعابيره الأدبية، أو للحفظ على الحسد ونحو ذلك، ولذا فإنّ فهم الإسلام مرتبط بفهمه لأن يعطي الرأي الصحيح للإسلام في مشاكل الحياة ووقائعها.. وينظم العقيدة على أساس متين.

لم نقصد من حديثنا هذا.. أن ندرس عظمة القرآن وقيمته فذلك بحث له مجاله الواسع، ومداه الطويل.. وإنّما نقصد أن نشير وننبه إلى عمق الهوة التي تفصل بين قيمة وأثره في مركزنا وتقدمنا الحياتي، وكيف ينبغي أن تكون، وبين الواقع الذي نحياه للقرآن في أضاعنا التي ندرج عليها الآن.

فقد كان القرآن عند المسلمين الأقدمين يثير فيهم الحركة والحياة والتطلّع إلى المستقبل الذي يحتضن عزة الإسلام وشرفه، ومكانته في العالم ليبعث النور والهداية في أرجاء المعمورة.

أمّا نحن فقد تجمّد في نفوسنا.. حتى لم تعد تلمح فينا إلّا الانكماش والتضاؤل والخوف والقلق والانهزامية وغير ذلك من أسباب الفشل وبوادره.

ومرّ ذلك فيما نفهمه - إلّا أنّهم كانوا يحيون القرآن - فيما يوحي وفيما يوجه فكرة وإيماناً وارتفاعاً بالنفس الإنسانية إلى أبعد مجال.

أمّا نحن فنعيش القرآن ألفاظاً وتعاويذ وغير ذلك دون أن نلتفت إلى أغراضه وأهدافه.. ومن هنا فقد القرآن عند الكثيرين منا احترامه اللائق به - عملياً - وإن كنا نعظمه عندما يفسح لنا مجال الكلام.

ولنضرب مثلاً على ذلك نستمده من حياتنا الاجتماعية التي نعيشها اليوم.. فقد أصبح من المتعارف في الاحتفالات التي نعقدها لمناسبات خاصّة أو عامّة وفي الفواتح التي تقام لقراءة الفاتحة عن روح الميت وتعزية ذويه قبل كلّ شيء؛ أن يُتلى القرآن فيها فيقتصر على فترة خاصّة له في الحفلات ويستمر في تلاوته طيلة الوقت في الفواتح.

وإلى هنا، والقضية لا تلفت النظر ولا تبعث على الدهشة بل الأمر طبيعي لأنّ مثل هذه الاجتماعات مجال طيّب لبعث الدعوة إلى الله وإلى دينه القويم فإنّها لا تتيسر في كلّ وقت، وليس كالقرآن حديث يدعى به إلى الله لأنّه كلام الله ووحيه وهكذا كان القرآن هو عنوان هذه الاجتماعات بالإضافة إلى قيمته الروحية وقدسيته التي قد تنفع الميت فيما إذا قرأ عنه وأهدي ثوابه إليه.

ولكن الذي يلفت النظر. هو هذه الضوضاء وهذا الصخب الذي يدور في المجلس أثناء قراءة القرآن دون التفات عملي - ولو بسيط - إلى أنّ هناك قرآناً يُقرأ أو إلى أنّ هذه الآيات التي تتلى هي التي أطلقت صيحة الهدى وأرسلت أشعة الحضارة في العالم أجمع وهي التي دفعت عجلة الحياة إلى الأمام وهزت عروش الظالمين والكافرين ومزّقتهم شر ممزق.

هذا والقارىء يقرأ الآية الكريمة (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف/ 204)، والنزاع يشتد ويحتدم فيما بيننا في أنّ الأمر هنا للوجوب أو للاستحباب وينتهي عن نتيجة أو لا نتيجة والعاملون في المجلس يدورون في جنباته ليقوموا بتوزيع ما أوكل إليهم توزيعه من قهوة أو شاي أو سجاير أو ماء ونحوه ويرتفع الدخان حتى ليكاد يأخذ بأنفاسك.. وهنا قد يحلو لك أن تتطلّع إلى القارىء وهو ينفث الدخان من فمه بين آونة وأخرى أو يتحدث إلى مَن حوله أو ينبه المجلس إلى قدوم شخصية محترمة حتى لا تحسّ بأي لون من ألوان الهدوء التي يتطلبها الاستماع إلى القرآن. والقارىء يقرأ. والمجلس مشغول بصخبه وضجيجه. وهنا يهدأ الضجيج ويسود الصمت حتى لا تكاد تحسّ إلّا بتصاعد الأنفاس ويصمت القارىء فينقطع عن تلاوته ويمتنع العاملون في المجلس عن توزيع ما اعتادوا توزيعه.. ويتجه الجميع إلى حيث المنبر فإذا بالخطيب أو الشاعر أو الناثر يلقي كلمته الرائعة أو الخالدة ما شئت عبر - وتتعالى أصوات الاستحسان ولا سيما إذا اتجه إلى الناحية الإصلاحية وتحدث عن أسباب تأخر المسلمين وانحطاطهم دون أن يلتفت إلى أنّ من أسباب التأخر وهذا الانحطاط هو هذا الابتعاد عن القرآن حتى أنّهم يهتمون بمعرفة كلام الخطيب والاستماع إليه أكثر بمراحل مما يعطونه من الاهتمام للاستماع إلى آي الذكر الحكيم فضلاً عن محاولة تفهمه ووعيه.

وأذكر أنّ بعض الفضلاء أو الذين يعون دقة المرحلة التي نمر بها ويقدرون قيمة القرآن وقدسيته عملياً قام خطيباً في بعض هذه الاجتماعات مندداً بهذا الوضع الشاذ الذي يولي الاحترام لكلمة أو قصيدة - ربما تكون سخيفة - أكثر ما يوليه لأي من الذكر الحكيم فلم يكن من الكثيرين إلّا أن قابلوا هذا الحديث ببسمات السخرية والاستهزاء - وربّما نسبه المعتدلون إلى البساطة والسذاجة.

وهذا يدلنا - بكلّ أسف - على أنّ القضية قد وصلت إلى الحد الذي أصبحت فيه (مرضاً مزمناً) لابدّ من معالجته.

هذه إحدى المظاهر التي تعطينا فكرة عن سلوكنا العملي نحو القرآن - وهو مظهر عام تشترك فيه الطبقات كافة في بعض البلدان الإسلامية.

وهناك مظاهر أخرى نعرض عن ذكرها مكتفين بتقديم هذا النموذج لأنّه يكفل لنا تصوير الواقع السيِّئ الذي نعيشه بوضوح.

ونريد في ختام هذا الحديث أن ننبه إلى خطر هذه الظاهرة في حياتنا.. وإلى خطر التهوين من شأنها لأنّ مثل هذا السلوك يؤثر على قيمة القرآن بشكل لا إرادي في نفوس أبنائنا وجيلنا الذي أصبح الكثيرون من أفراده لا يرون في القرآن إلّا ما تراه عجائزنا من أنّه لا يصلح إلّا للحفظ عن العين أو للتبرك وطلب الرزق ونحوه وليس ذلك إلّا لأنّهم درسوا هذه الفكرة عملياً - على أساس السلوك الاجتماعي العام.

وأخيراً، إنّ من الضروري لنا في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها الأُمّة الإسلامية أن نفتح أعيننا على أخطائنا وعاداتنا لنناقشها الحساب على أساس المنهج الإسلامي السليم في السلوك والتربية.. وإلّا فقد يأتي الوقت الذي تقضي فيه هذه الأخطاء إن استمرت على كرامة الإسلام وقدسيته - لا سمح الله لأنّها تسيء إلى روحه وتشوّه جماله.

 

المصدر: كتاب قضايانا على ضوء الإسلام

ارسال التعليق

Top