• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حفظ النفس أول مصالح الخلق

سعيد بنسعيد العلوي

حفظ النفس أول مصالح الخلق

لاشك أنّ الشريعة أولت الحفاظ على النفس الأهمية الكبرى من اهتماماتها بالإنسان ويقرب علماء الأصول معنى المصلحة الحق (تمييزاً لها عن المصلحة "المتوهمة" أو الكاذبة) بمثال يتكرر في أكثر من كتاب من كتب أصول الفقه: ما الواجب عمله، التماساً للمصلحة، إذا فرضنا أنّ جماعة من الكفار احتلوا قلعة من قلاع المسلمين، وأسروا من كان في القلعة ثم جعلوا من الأسرى ترساً أو حاجزاً يتترسون به؟ هل تجب مهاجمة القلعة، دون اعتبار للأسرى فهم قلة؛ من المسلمين، أم إنّ الأفضل هو الامتناع عن الهجوم حفاظاً على أرواح الأبرياء الأسرى وإن كانوا قلة وكان في التضحية بهم إنقاذ أضعاف أضعافهم من المسلمين باستئصال شأفة الشر وقتل الكفار؟ ما الجواب الموافق لمقصد الشرع في حفظ النفس؟ وفي أي الموقفين الممكنين ننشد المصلحة الحق على نحو ما يريدها الشرع؟
يناقش أبو حامد الغزالي المسألة على النحو التالي في موازنة بين الحلين المحتملين: "فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً، وهذا لا عهد به في الشرع. ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسرى أيضا ً. فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال، فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنّنا نعلم قطعاً أنّ مقصود الشرع تقليل القتل" بيد أنّ الغزالي يجد أن هذا الجواب الأخير يقدم أفضل الأدلة الممكنة على حصول الخلط والتشوش في تقدير المصلحة التي يقصدها الشرع، أي تلك التي تأتي الكليات الخمس ("وحفظ النفس" إحداها) لمراعاتها والدفاع عنها بكل سبب وحيلة. هو خلط وتشوش لأنّ الفهم عن الله، متى استقام، فهو يفيد أن "تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق، وهو قتل من لم يذنب، غريب لم يشهد له أصل معين". وهو كذلك لأنّه "مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق مصلحة؛ غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف: أنّها ضرورة قطعية كلية". ذلك أنّه لا توجد مصلحة إلا إذا اجتمعت لها هذه الشروط الثلاثة (الضرورة، القطعية، الكلية أو الشملية)، فلا يقبل انتفاء أحد منها: يكون في الآخر ضرورة لا سبيل إلى دفعها والاستغناء عنها، وتكون المصلحة المرتقبة كلية (فلا يكون هناك استثناء في الاستفادة منها)، ثم أن تكون المصلحة يقينية الحصول لا ظنية أو محتملة فحسب. فالشروط ثقيلة في الواقع، بل إنّها تقرب من التعذر ولذلك كان الغزالي يميل إلى الانصراف عن القتال ومهاجمة البغاة إلى حين استكمال الشروط الثلاثة. وفي مزيد من التوضيح لمعنى المصلحة، تلك التي يقصد الشرع مراعاتها، يعزز صاحب المستصفى مثاله السابق بمثالين جديدين: أولهما، مثال قوم وجدوا في سفينة في عرض البحر تبين لهم أنّ السفينة مهددة بالغرق إلا أن يلقوا بأحد الركاب في البحر فينجو الباقون من الهلاك. وثانيهما، مثل رجل وجد في مخمصة شديدة وليس له خيار من أجل الإفلات من الهلاك جوعاً إلا أن يقتطع جزءاً من ذراعه أو فخذه فيأكله. والمثالان يكشفان، كل بطريقته، عن العيب والفساد في تقدير معنى المصلحة؛ إلا أن تتوافر لها الشروط الثلاثة المذكورة آنفاً. فأما في المثال الأول، فإنّ القوم ركاب السفينة لا يملكون، من أجل اختيار الضحية سوى سبيل القرعة، والقرعة "لا أصل لها" في تقدير الأحكام فهي طريق فاسدة. وأما العيب في المثال الثاني فهو انتفاء شرط القطعية، إذ ليس في اقتطاع جزء من الجسم وأكله ما يجعل "يقين الخلاص"؛ بل وربما كان القطع سبباً في إزهاق النفس لا حفظها.
لاشك أنّ في الحياة الاجتماعية للإنسان ما يستدعي استحضار هذه الأمثلة في أحوال الشدة والأزمات، ولاشك أن تقدير معنى المصلحة يثير جدلاً شديداً في مثل تلك الأحوال. وإذا ما اتجهنا بنظرنا اليوم إلى ما نسمع في بعض أنحاء العالم الإسلامي من أخبار الاغتيالات والقتل، بدعوى خدمة بعض الأغراض "السامية" ودعوى نصرة الدين وحفظ الإسلام، فلاشك أنّنا نجد إهداراً لدماء الأبرياء وتنكراً، بل ومخالفة صريحة، لمبدأ "حفظ النفس" في تقدير معنى المصلحة الحق. وفي تقدير من يدعو إلى تلك الاغتيالات، أو يقوم بتنفيذها، أن الهدف هو "تطبيق الشريعة" وجعل النصرة والقوة لأحكامها، ما دامت الإدانة بالردة والحكم بالتكفير يستوجبان إنزال حكم الشرع. ولو أنّنا خلينا جانباً كل الاعتبارات الحقيقية (= السياسية) التي تحمل على إصدار "فتوى التكفير"، وغضضنا الطرف عن الدوافع الفعلية (الجلية والمكشوفة) التي تحمل المنفذين على تنفيذ الأوامر، ثم لو نظرنا في الموقف من جهة الشرع فنحن نجابَه بما لا نفتأ نلعن خشيتنا من حصوله في أرض الإسلام: الجهل بأحكام الشرع من جهة أولى، والإساءة إلى الإسلام والمسلمين باللجوء إلى أساليب مماثلة في العمل السياسي من جهة ثانية.
على فرض صلاح النية وتفسير السلوك بالجهل بأحكام الشرع، فإنّ وجوه إدانة سلوك يستخف بأرواح العباد كثيرة وقوية، والسند في القول يستمد من القرآن (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ) (الأنعام/151)، ومن صحيح الحديث النبوي المدعم لآي القرآن.
وما أظن أنّ عاقلاً في حاجة إلى تفسير معنى "الحق" أو إلى إدراك معنى نقيضه وهو "الباطل" (= وجوب محاكمة المتهم، فكل امرئ بريء حتى تثبت إدانته في قول الشرع الإسلامي، محاكمة عادلة من قبل أولي الأمر، ثم إثبات الحجة الدامغة عليه ثانياً، فدعوته، بعد ثبوت الذنب قطعياً، إلى التوبة والرجوع عن أقواله ... وما إلى ذلك من الطرق الشرعية التي يعرفها العلماء وتقننها القوانين الشرعية ويقرها العقلاء ...).
ذاك الضرب (وليس الاغتيال أو القتل) في حال متهم بالسرقة، فما بالك بإهراق دم امرئ تظل تهمة "الكفر" أو "الردة" محتملة في حقه ولا تكون لها صفة القطع!؟ فربما انعدمت الأدلة القطعية ضد هذا المتهم (ولا أقول "المذنب")، وربما كان في حالة من الشبهات ما يدرأ الحدود. وأخيراً: فهل من مقاصد الشرع، في تقدير المصلحة، أن يقيم كل فرد في المدينة الإسلامية من نفسه قاضياً ومنفذاً ممضياً للحكم، بل ومشرعاً مجتهداً قبل ذلك؟ هل تقوم للإسلام قائمة بالارتكان إلى أسلوب مماثل؟ هل تراعى المصلحة الحق التي ما كانت الشريعة إلا من أجل مراعاتها وحفظها؟
ما نحسب أنّ عاقلاً، مستوفياً لشروط التكليف الشرعي، يقول بهذا القول أو يرضاه.

المصدر: الإسلام وأسئلة الحاضر

ارسال التعليق

Top