• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رؤية تحليلية نقدية للبيروقراطية

د. محمد سعيد الحلبي

رؤية تحليلية نقدية للبيروقراطية

مدخل البحث:

يرجع شيوع مصطلح "البيروقراطية" إلى قرنين أو أكثر من الزمن. إذ تشير الوثائق التاريخية إلى أنّها استخدمت عام 1764 من قبل الفيلسوف الفرنسي البارون دي جريم ليصف بها النظام الحكومي الفرنسي. وقد أدخلت في قاموس الأكاديمية الفرنسية لتعني القوة والنفوذ التي تتمتع بها قادة ورؤساء الحكومات والهيئات التنفيذية في الدولة. ومنه انتقلت إلى القواميس والموسوعات الأخرى. أما ظهورها الفعلي التطبيقي فقديم جدّاً لأنها اقترنت بالنظم الحاكمة في الحضارات القديمة. إنّ المتتبع لما كتب عن مضمون البيروقراطية المتمثل بقوة الدولة ونظامها فيمكن البدء من أفلاطون الذي اعتبر العدالة الهدف الأوّل للحياة الفاضلة ومن واجب الدولة أن تثبت أركان العدالة. ويتم ذلك حين يمارس كل شخص وظيفته التي تمارس قدراته ومواهبه فاقترح الطبقات المهنية الثلاثة التي تحتاجها الدولة وهي حسب هرمه التنظيمي: الصناع والمحاربون والحكام ليكونوا عماد مدينته الفاضلة. ومع أنّ العديد من الفلاسفة وعلماء السياسة وعلماء الاجتماع هم الذين ساهموا في بلورة الفكر التنظيمي والسياسي للدولة إلا أنّ الذين كتبوا عن البيروقراطية ووقفوا عندها هم ماركس وموسكاو روبرت مشيلز. وقد جاءت نظرية ماكس فيبر تتويجاً للجهود الفكرية التي تناولت البيروقراطية بالدراسة والتحليل. وقد يتعذر هنا الخوض في تفاصيل المسيرة الفكرية للبيروقراطية، وما نشر عنها أو نقل عن فلاسفة الفكر السياسي والاجتماعي، إلا أننا إذا ما تجاوزنا إسهامات الفلاسفة اليونانيين الكبار، فإنّ الفيلسوف الألماني هيجل (1770-1831) يأتي في مقدمة الفلاسفة المنظرين للبيروقراطية في إطار تناوله للدولة. ففي كتابة فلسفة الحق عد هيجل الموظفين والأعوان الذين يساعدون الملك في أداء مهامه بأنهم أداة عقلانية وضرورية لاستمرار واستقرار الحكم، وإن توجهاتهم وميولهم تعكس عقائدية الطبقة الحاكمة التي تخدمها، لذا فإنّ البيروقراطية تعد كالجسر الذي يربط القاعدة بالقمة. أما كارل ماركس (1818-1883) فقد قبل في صباه آراء هيجل القائلة بأن البيروقراطيين يخدمون عامة الناس، ويمثلون المصلحة العامة لكنه انقلب فيما بعد على موقفه وأوصلته تحليلاته للقول بأن مصلحة الحكام ومصالحهم تصبح بديلة أو متقدمة على مصلحة الدولة والمجتمع. وأن مواقفهم السلطوية ستجعلهم قادرين على استغلال نفوذهم وتثبيت امتيازاتهم، وبالتالي تدفعهم إلى معادة التغيير أو الثورة على النظام والسلطة. وهم بذلك يخدمون أنفسهم والسلطة الحاكمة ويعيقون الديمقراطية. فالبيروقراطية عند ماركس شأنها شأن أي طبقة تاريخية تمر بالضرورة بمرحلتين: - مرحلة يبرز فيها طابعها التقدمي الثوري الدافع لقوى الإنتاج. - مرحلة يتأكد فيها طابعها المحافظ الرجعي حين يصبح وجودها عقبة أمام تطور القوى المنتجة. ويتم ذلك حين تستجمع البيروقراطية من المكاسب والمغانم أكثر مما تحتاجه أو تستطيع احتواؤه فتصبح منتفعة ومستغلة لغيرها.   - تعريف البيروقراطية: عرف موسكا البيروقراطية عام 1859 في كتابه علم السياسة بأنها نظام معقد يضم عدداً من الموظفين الحكوميين. وكان موسكا قد فرق بين نوعين من الحكومات: الإقطاعية والبيرقراطية. فالدولة البيروقراطية هي التي تتميز بالتخصص وبالمركزية. وتعددت التعريفات المعطاة للبيروقراطية. فالأكاديميون والعلماء المختصون ظلوا يتعاملون معها على أنّها أحد نماذج التنظيم التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار والكفاءة الإدارية والدقة والسرعة في الإنجاز. لكنهم بدأوا يتعرضون لقصورها وللانحرافات التي قد تنجم عنها. أما المواطنون العاديون فقد بدؤوا يتعاملون معها وكأنّها ظاهرة سلبية أو نمط تنظيمي يؤكد حكم الموظفين واستعلاءهم. وقد تأثر بعض علماء السياسة والاجتماع بهذه النظرة السلبية للبيروقراطية، ومن هؤلاء هارولد لاسكي الذي عرفها في دائرة المعارف للعلوم الاجتماعية بأنّها: "النظام الحكومي الذي يشرف على إدارته عدد من الموظفين ممن لهم قدر من القوة تمكنهم من التحكم بحريات المواطنين المدنيين". وهذه التعريفات العلمية والعامية لا تلغي التعريف اللغوي للكلمة التي تعني باللغة اللاتينية الإدارة من وراء المكتب. ولا تطمس التعريف المحايد الذي تستخدم فيه حالياً من قبل أغلب المؤلفين والكتاب حين يطلقونها على النظام الإداري الحكومي. وهم موظفو الدولة سواء أكانوا متطورين أو متخلفين. فاللفظة بذلك تعني النظام الإداري للدولة ولا تعكس أي صفة إيجابية أو سلبية.   - الانتقادات الموجهة للبيروقراطية: يشتد النقد الموجه للبيروقراطية خلال عقد الستينات، ويعد بنس من أشهر المتصدين لها حيث تنبأ بتراجعها ثمّ اندحارها نهائياً قبل نهاية القرن العشرين لتظهر أنماط تنظيمية جديدة تلائم روح العصر وتواكب تطوراته. وقد شخص عيوب البيروقراطية ومساوؤها بما يلي: 1- تعيق النمو والنضج الشخصي للعاملين وربما تدفعهم إلى التراجع والخمول. 2- لا تحسب للمشاكل الطارئة والمواقف غير المتوقعة حساباً. 3- تستلزم نظاماً رقابياً متشدداً يمنع الإبداع وينشر الرعب. 4- لا تسمح باستيعاب التكنولوجيا المستجدة ولا الفنيين المتعاملين معها. 5- تتسبب في الاغتراب والعزلة وتدهور الأخلاق وضعف المعنويات. وينتهي بنس إلى القول بأنّ البيروقراطية التقليدية بخصائصها ومشاكلها لا يمكن أن تعايش ظروف المستقبل الذي سيشهد تغييراً جذرياً في التكنولوجيا وأنماط القيم والعلاقات وسبل التفكير والعيش والتعامل، وستواجه البشرية مشكلات إنسانية معقدة لن تقوى المنظمات البيروقراطية على حلها. وبعد أن يسهب في تشخيص ملامح المستقبل ويستعرض تطوراته المتوقعة يتحول إلى تصوير المنظمات التي يمكنها أن تعايشه، ويحدد الملامح التي يتوجب أن تتصف بها. وأول سمة يذكرها هي قدرتها الفائقة على التحول والتغيير وقابليتها السريعة على التكيف مع الظروف ستكون مؤقتة في أغلب الأحوال. ولعجز السلم الهرمي والعلاقات الرئاسية عن تحقيق ذلك سيكون لمنظمات المستقبل فرق ومجموعات عمل تضم أفراداً غرباء عن بعضهم لكونهم يمثلون إدارات ومهناً مختلفة يتم تشكيلها بصفة مؤقتة لمعالجة موقف مؤقت، وإنّ العلاقة بين هؤلاء ستكون مرنة ومستجيبة للحاجات والخصائص الفردية لأعضاء المجموعة. ولابدّ عندها من إعادة النظر بوظائف المديرين الذين سيقتصر دورهم على التنسيق بين هذه المجموعات المختلفة في مهامها. وهكذا الحال بالنسبة للقيم التنظيمية التي ستتغير هي الأخرى. فالعلاقات التنافسية والاحتكارية تتحول إلى علاقات تعاونية والأهداف الفردية الخاصة تصبح جماعية ومترابطة، والاستقلالية الشخصية تصبح فرقية واعتمادية، والاهتمام بظروف العمل يتحول إلى اهتمام بالحياة الكاملة. ويعترف بنس بالغموض والاضطراب وعدم الاستقرار الذي سيواجه منظمات المستقبل وأفرادها، وبتسارع معدلات دوران العمل وتغيير العلاقات وأنماط السلوك المستمر مما يضطر على الاعتراف بالميول والاتجاهات المتناقصة، وتقبل الصراع والتناقض والاعتراف بالفشل عندما تعجز أساليب التفاوض والمساومة والحوار عن حل المشاكل ومجابهة المواقف الحرجة. كما نشر بلاو كتابه الأوّل عام 1953 وأسماه "ديناميكية البيروقراطية" ونشر كتابه الثاني عام 1956 وأسماه "البيروقراطية في المجتمع الحديث" وفي الكتابين نقد البيروقراطية المثالية. وشكك ببعض فرضياتها وأوضح بعض الآثار السلبية الناجمة عنها فالإجراءات والقواعد النمطية الرسمية التي تضعها المنظمة لا يمكن أن تسمح باستيعاب الحاجات الكامنة أو غير المتوقعة سواء للأفراد أو للمنظمة. وإن إمكانية قيام المنظمة البيروقراطية أو نجاحها في بعض المجتمعات لا يضمن نجاحها في بيئة أخرى. كما إن تغير القيم والمفاهيم الحضارية يفرض على المنظمات تجديد وسائل وأساليبها. ومن الأفكار التي يطرحها بلاو لتطوير البيروقراطية وتعديلها مصطلح التكيف adaptation وقد شرحه بتفصيل مميزاً بين التكيف التلقائي والتكيف المخطط، ويطرح فكرة الرقابة الذاتية بديلاً للرقابة والإشراف المباشر، ويشير بوعي إلى تقوية روابط الولاء والانتماء للمنظمات. وفي كتابه الثاني تساءل عن آثار شيوع المنظمات البيروقراطية في المجتمعات الحديثة على المؤسسات الديمقراطية. وأوضح كيف أنّ البيروقراطيات الجامدة والمثالية تشكل خطراً على الحريات الديمقراطية، غير أنّه أكد بنفس الوقت أهميتها لبناء المجتمع الديمقراطي. فالأهداف الديمقراطية مستحيلة التحقق دون مشاركة المنظمات البيروقراطية المترجمة لها. أما الخطر البيروقراطي فيتمثل في خلقها للتفاوت بين الصلاحيات المعطاة عبر سلمها الهرمي، إذ تمنح قلة من الأفراد جل الصلاحيات، وتحرم الغالبية منهم من التمتع بها. وانتهى بلاو إلى القول: إنّ البيروقراطية تعدُ تحدياً للديمقراطية وليست بديلاً لها. ولابدّ من إيجاد الوسائل الديمقراطية للسيطرة عليها قبل أن تصيرنا عبيداً لها. كما أن نظرية الدكتور ميشيل كروزير – حول الحلقة الجهنمية للبيروقراطية –، في كتابه "الظاهرة البيروقراطية" الذي نشره في الستينات ليوجز فيه نتائج دراساته الميدانية لعدد من المؤسسات العامة في فرنسا، وقد دعمه بالبيانات والأدلة التي تعكس الآثار التي يتركها التنظيم البيروقراطي على أداء العاملين وعلى معنوياتهم ونمط سلوكهم. وهو يعترف بصحة التعريف الشعبي للبيروقراطية الذي يقرنها بالروتين والتعقيد والجمود بسبب التزامها بالإجراءات والقواعد الشكلية في تعاملها مع الزبائن ومع المنظمات الأخرى. ويؤكد من خلال دراسته عدم تحقق المزايا التي يفترضها النموذج المثالي للبيروقراطية في المنظمات التي أخضعها للتحليل والمشاهدة على خلاف ذلك فقد أثبت تحقق عدد من الظواهر السلوكية المدانة التي نجمت عن تطبيقها ونوجز هنا بعضاً منها: 1- انعزال الأفراد عن بعضهم، وشيوع المنافسة المقيتة بينهم وضعف العلاقات الجماعية والتعاونية وغيبة الأمن الوظيفي لديهم. 2- المركزية الشديدة وحصرها للصلاحيات في قمة الهرم وحرمان مستويات التنفيذ التي تمتلك المعلومات الهامة بسبب تعاملها مع الجمهور من المشاركة في إتخاذ القرارات. 3- ضعف الانتماء والولاء للمنظمات معاً، مما يتسبب في تجاهل مستويات التنفيذ لأهداف المنظمة وأحياناً تعمدهم في إفشالها وعدم الاكتراث بمصالحها وممتلكاتها. 4- تعقد الإجراءات بسبب تأثير جماعات العمل التي تجعل منها عُرفاً تفرضه على الموظفين الجدد ولتعدد المستويات الإدارية وفقدان الثقة بينها. ويخلص كروزير إلى أن مقاومة الأفراد للتعقيد والروتين وللهرمية يؤدي إلى ردود فعل لهذه المقاومة تنجم عنها بيروقراطية أشد وأعقد. وهذه هي الحلقة الجهنمية للبيروقراطية كما يسميها. وكذلك الحال بالنسبة للمركزية ولبقية الظواهر السلبية الأخرى فكل منها تولد مقاومة من جانب ورد فعل معاكساً من جانب آخر، مما يزيد جمود المنظمة وتمسكها بالروتين الأشد تعقيداً، وهذا يعني باختصار أن سلبيات البيروقراطية ومساوئها تؤدي بذاتها إلى المزيد من البيروقراطية لحماية نفسها ومصالح المنتفعين منها. ويعد فير المناوئ الأكثر تطرفاً للبيروقراطية خلال عقد السبعينات. فقد أثار كتابه "نهاية التنافس ونهاية الهرمية" زوبعة قوية وهو يشبه علاقة الرئيس بالمرؤوس بأنها علاقة بين سيد ومسود أو حر وعبد. فالهرمية وتسلسلها الرئاسي كما يرى، نظام لا إنساني وعن آثاره السلبية قد وضحت وثبتت في المنظمات السياسية والإدارية ومن بينها الاغتراب والانفصام ومحاصرة الأفراد في الزوايا. وإذلالهم بالقمع والتخويف وتوجيه الأوامر التعسفية التي لا تراعي المشاعر والعواطف، ولا تحسب للمتغيرات النفسية والمعنوية حساباً. وإنّ التعامل مع المرؤوسين عبر القنوات الرسمية والمدرّجات الهرمية ووضع اللوائح التفصيلية المقيدة لسلوكهم من شأنه أن يجردهم من كل حول وقوة. ويحولهم إلى أجراء يعملون من أجل لقمة العيش لا غير. وهذه فرضية تجاوزها الزمن ولم يعد بالإمكان الدفاع عنها في عصرنا هذا مهما كانت المسوغات. ولذلك يدعو ثير إلى القضاء النهائي على البيروقراطية الهرمية وليس مجرد تعديلها وإصلاحها كما يرى الكتاب الآخرون من أمثال بنس، وبيرو، ووايت وشبرد ومارج وسايمون ممن شخصوا مساوئها وحللوا آثارها. أما البديل الذي يطرحه ليحل محل المنظمة البيروقراطية فيتمثل في قيام منظمات بلا مستويات وبلا جدران أو موانع ترتب الموظفين وتصنفهم وفقاً لألقابهم أو سنوات خدمتهم أو رواتبهم. فهم جميعاً بشر يسهمون كل من موقعه في إنجاز ما يوكل إليهم من أعمال وصولاً للهدف العام للمنظمة. فأهميتهم جميعاً تتساوى طالما أنهم أدوا ما عليهم من واجبات وأخلصوا في أدائهم وتوظيف طاقاتهم. إنّهم كفريق كرة القدم وكفرقة العزف الموسيقية وكطاقم الطائرة وكمؤسسة ناسا Nasa الأمريكية لإدارة الفضاء والملاحة الجوية وكمطعم ماكدونالد للهامبرغر. والمنظمتان الأخيرتان قد أخذتا فعلاً بالتنظيم الفرقي والمصفوفي بالعمل الجماعي والتعاوني بعيداً عن السلم الهرمي، وعن المستويات وخطوط السلطة الرسمية. وقد حققنا نجاحاً كبيراً على مستوى الأفراد.   - النقد السياسي للبيروقراطية: وإذا كان علماء الاجتماع قد نقدوا النظرية البيروقراطية بسبب آثارها ومساوئها الاجتماعية فإن عدداً من أساتذة السياسة قد تصدوا للبيروقراطية التقليدية، وشخصوا قصورها الناجم عن تعاملها مع المتغيرات الداخلية. وتجاهلها للبيئة الخارجية وما فيها من متغيرات سياسية لا يمكن لأية منظمة بيروقراطية أن تعمل بمعزل عنها. ويُعد ديفد إيستن من الروّاد الأوائل المنادين بالمنظمة المفتوحة كبديل للبيروقراطية المغلقة من خلال نظرته الكلية الشاملة للنظام العام وما يتفرع عنها من نظم وأنساق فرعية تتفاعل مع بعضها من خلال المدخلات والمخرجات المتداخلة والتنفيذية العكسية التي تربط بين الأنساق والبيئة. ثمّ أسهم الموند في توظيف المتغيرات السياسية وفكرة تحليل النظم عند إيستن بمزجها بفكرة الحضارة والوظيفة والهيكل والفعل ليكون منها جميعاً إطاراً نظرياً للتحليل الوظيفي المقارن للنظم يمكن من خلاله إجراء البحوث الدراسية المقارنة بين مختلف النظم السياسية الإدارية في المجتمعات في إطار منهجي وموضوعي يختبر الفرضيات المطروحة. ثمّ طور عمله بمشاركة زميله فيبر ونشرا كتابهما المشهور "الثقافة المدنية". ويكمل ليفي هذا التوجه التحليلي للمنظمات متسائلاً عما ينبغي للمنظمات أن تفعله للنظام العام لتحافظ على بقائها؟ وللحفاظ على الاستقرار في محيطها الخارجي؟ وينتهي بحد أدنى من الوظائف وحد أدنى من الهياكل التي تعد بمثابة المستلزمات الأساسية لنظام، وينبه إلى دور الموارد المتاحة ودرجات التخصص للمنظمات، وقدرة النظام على تحقيق التعادل Equilibrium بين مختلف الأنشطة والهياكل الفرعية في إطار الشكل المنتظم.   - نقد الفكر التقليدي للبيروقراطية: أوجز ففز وبرسذس أهم الانتقادات الموجهة للبيروقراطية في كتابهما الإدارة العامة بما يلي: 1- عدم تجاوبها أو استجابتها الفاعلة مع المطالب الجماهيرية. 2- ميل البيروقراط ونزوعهم للقوة. 3- محاولتها اغتصاب السلطات التشريعية والتنفيذية أو إعاقتها لسلطاتهم. 4- إنها خطر يهدد حريات المواطنين السياسية والمدنية. وقد دافع المؤلفان عن هذه التهم، وأوضحا أن أغلبها يعود لمتغيرات سياسية وبيئية تفرض على البيروقراطية من خارجها، وأنّ النزوع للسلطة مع أنها سمة عامة لجميع البشر إلا أنّ البيروقراط لن يجدوا الطريق سهلاً في اغتصاب السلطة من البرلمانيين أو من رئيس الدولة ما لم تكن هناك عوامل أخرى تدلل على الخلل والضعف في السلطتين المذكورتين. ومع ذلك فهما يطالبان بإخضاع البيروقراط للمزيد من الرقابة التشريعية والقضائية والشعبية للحد من آثارها السلبية طالما أن وجودها لا مناص منه. أما الانتقادات الأخرى حول النظرية البيروقراطية أو ممارستها فيمكن إيجازها بما يلي: 1- إنها وليدة التأمل والتوقع وحصيلة للتحليل التصوري Speculative وليست ثماراً للتجارب أو لتحليلات مختبرية أو واقعية Empirical. 2- إنّها تتجاهل دور الإنسان الفرد وتأثيراته الشخصية وأهدافه الذاتية بما في ذلك ميوله واتجاهاته وقيمته في التشخيص والتحليل والممارسة. 3- إنها تغفل دور الجماعات والشلل والعلاقات اللارسمية والاتصالات الجانبية التلقائية بين العاملين، وبينهم وبين المتعاملين. 4- إنها تهمل العلاقات الجانبية والأفقية بين المنظمات Intro organizational وكذلك الصراع والتنافس والخلافات بينها. 5- إنها تتعامل مع المنظمات وكأنّها منمطة ومؤطرة وتسير في طرق معبدة، ولا تحتاج إلى خلق أو إبداع أو تجديد أو تكييف. 6- إنها تفترض أنّ الإنسان سهل الانقياد لأن أهدافه ودوافعه معروفة، وسلوكه يمكن السيطرة عليه، ولذلك تتجاهل المعرفة النفسية والاجتماعية المتجددة حوله وما تضيفه الدراسات السلوكية المعاصرة عنه. 7- إنها تعتبر المنظمة متغيّراً مستقلاً والإنسان المتغير المعتمد أو التابع، وتسعى إلى ملاءمة الفرد للمنظمة لأن أهدافه متطابقة ضمنياً مع أهداف المنظمات. 8- إنها تولي للأبعاد والمتغيرات المادية الأهمية البالغة، وتقلل من دور المعنويات والأبعاد النفسية والرغبات والطموحات في توجيه السلوك أو تحقيق الرضا والسعادة للفرد. 9- إنها اهتمت بالبناء الداخلي وبالعوامل التشغيلية والوظيفية وبالعمليات والإجراءات ضمن نطاق المنظمة، وتناست أو تجاهلت دور البيئة الخارجية وضغوطها وقواها وتأثيراتها على المنظمات.   - مستقبل البيروقراطية: بعد كل ما تقدم من نقد وتحليل للتنظيم البيروقراطي التقليدي بوجه عام، يمكن أن نستنتج ما يلي: 1- إذا كانت البيروقراطية الكلاسيكية قد حققت بعض النجاح في ظروف نشأتها الأولى، فإنها لم تعد تنسجم وظروف العصر، ولن تستطيع استيعاب التقدم الحضاري والتكنولوجي إن بقيت في الإطار الذي رسمه لها مؤسسيها. 2- على الرغم من ظهور عدد من أوجه القصور والنقص في منطلقات الفكر التنظيمي التقليدي، فإنّ التنظيمات العصرية ستظل بحاجة إلى العديد من المبادئ والممارسات البيروقراطية ولفترة ليست قصيرة من الزمن. ريثما تظهر النماذج البديلة التي تفرض نفسها بصورة تدريجية في مختلف قطاعات الحياة. 3- إنّ التباين والاختلاف في وجهات النظر وظهور الصراع والتناقض بين الأفراد والتنظيمات ظاهرة حياتية تتطلبها طبيعة التغيير والتحول وتفسرها التفاعلات الديالكتيكية بين القوى المؤثرة والمتأثرة على حد سواء، وكلما زادت معدلات التغير في المجتمعات ينبغي للمنظمات أن تواكبها وتسهم في إعادة التوازن بين القديم والجديد من مظاهرها. 4- وبدلاً من أن تكثف الجهود للمزيد من النقد للفكر التقليدي، فإنّ البشرية اليوم بحاجة عاجلة إلى طرح الجديد من البدائل والأطر والنماذج التنظيمية المخففة من غلواء المثالية والنمطية والهرمية والرسمية في التنظيمات المعاصرة مع الإبقاء على قدر معقول من كل منها ليكون بمثابة الحد الأدنى الذي يضمن التحول الديناميكي المنسجم مع التحول الفكري والثقافي والحضاري. ولتلافي التحولات الانفعالية التي تشيع الفوضى وتحدث الارتباك وتقلب المنظمات رأساً على عقب. 5- وليس غريباً من وجهة نظر المؤيدين للبيروقراطية أن يظل العالم متمسكاً بالتنظيم البيروقراطي، أو أن تظل الحاجة إليها متزايدة مع استمرار النقد الموجه لها. وهذا ما أعلنه الكاتب الألماني جاكوبي Jacoby في كتابه الذي أصدر بالألمانية عام 1969 وعنوانه "اتجاه العالم نحو البيروقراطية". الذي تنبأ فيه عن تحول الإدارات الحكومية المعاصرة نحو القوة والسلطة والتعسف في تطبيقها لضمان استقلاليتها ولرفع كفاءتها، مع اعترافه بالتناقص الذي سينجم عن الحاجة الحتمية والضرورية للبيروقراطية من جهة وبين مخاطر سوء الاستعمال والتطبيق لها من جهة أخرى. 6- وعلى صعيد العديد من الأقطار النامية تكيفت النظم البيروقراطية للظروف البيئية والدولية مستغلة الفراغ السياسي وغيبة الأحزاب من جهة، وتنامي دور الجماهير وعامة الناس في الأمور العامة، كما تحالفت البيروقراطيات المدنية مع البيروقراطية العسكرية واستطاعت قلب بعض النظم الحاكمة وإقامة نظم بديلة. فالبيروقراطية إذا لم تعد مجرد خصائص تنظيمية مثالية كما طرحها ماكس فيبر بل أصبحت نظماً مؤسسة راسخة على غرار النظم السياسية والنظم الاقتصادية. 7- والبيروقراطية أيضاً يمكن أن تظل موضع اهتمام العديد من الباحثين والدارسين لتعتمد منهجاً وإطاراً لإجراء الدراسات الميدانية والنظرية المقارنة لمعرفة الأثر الذي يتركه تباين النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية على تطبيقاتها وسلوكياتها. وتحليل الأثر العكسي للبيروقراطية على هذه النظم الفرعية.   ·       باحث سوري في التخطيط والتنمية الاقتصادية والاجتماعية   المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 495 لسنة 2004م

ارسال التعليق

Top