• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رمضان المبارك.. موسم لطاعة الرحمن

الشيخ جاد الحق علي

رمضان المبارك.. موسم لطاعة الرحمن
  ◄1-الصوم قبل الإسلام: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). بهذا كان فرض الصوم ليس جديداً على المسلمين، وإنما هو فريضة قديمة تقررت من الله في أديان أخرى، فلم يخل دين سماوي من هذه الفريضة، وإن اختلفت أشكاله باختلاف الأُمم والشرائع، وتعددت أنواعه بتعدد الأسباب الداعية إليه، فقد كان تارة بترك الطعام والشراب والعمل والكلام، بل وترك الاتصال بالنساء. ولقد حكى القرآن أنواعاً من الصيام في آيات أخرى، كالذي كان مقرراً في اليهودية من الامتناع عن الكلام، وصوماً حكاه القرآن في قول الله – سبحانه – على لسان عيسى وهو في المهد لأمه مريم.. (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (مريم/ 26). وبهذا يكون صوم مريم الإمساك عن الكلام، وبعض المذاهب المسيحية ما تزال تعتبر الصوم عن الكلام فرضاً على رجال الدين في بعض الأقوال ومستحبّاً لغيرهم. ولقد عرف العرب قبل الإسلام الصوم عن الكلام ومارسوه. ويعتبر صيام داود (ع) ذروة صيام النفل؛ فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهذا هو ما ارتضاه رسول الله (ص) لأمته إذا تنفلت صوماً. وقد كان هناك صوم الصمت الذي تحدث عنه القرآن عن زكريا (ع) حين بشرته الملائكة بنسل من زوجه العقيم، فقد طلب (ع) إلى ربه آية يعرف بها الحمل، فقال الله له: (آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ) (آل عمران/ 41). وكان الصوم بالكف عن العمل أياماً محددة أسبوعياً أو في مواسم محددة وإلى ذلك أشار القرآن في قول الله سبحانه: (وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء/ 154). هذا وقد أبطل الإسلام الصمت بمعنى الصوم عن الكلام يوماً أو أكثر، يدل لذلك أن رسول الله (ص) كان يخطب يوم الجمعة وهو على منبره ورأي رجلاً "هو أبو إسرائيل يسير الأنصاري" قائماً والناس جميعا جلوس فسأل – عليه الصلاة والسلام – عن سبب قيامه فأجيب: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس فلا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال (ص): مروه فليتكلم، وليقعد، وليستظل وليتمَّ صومه[1]. فأبطل رسول الله (ص) منذوراته التي لم يشرعها الإسلام جميعاً إلا الصوم الوارد بشريعة الإسلام فقد أقره عليه. وليس هذا إبطالاً للصمت من حيث هو ضرب من السلوك الاجتماعي يحفظ الإنسان من الزلل والخطيئة والحديث فيما لا يفيد وقد يبيد. فهذا النوع من الصمت قد حث الإسلام على الدعوة إليه والترغيب فيه استدامة للمحبة بين الناس، وصوناً لأعراضهم، وحرصاً على نشر الكلمة الطيبة فيهم، فهو من الآداب العامة يدل لذلك قول الرسول (ص): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"[2]. ومن هذا القبيل ما قال النووي في باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان في كتاب رياض الصالحين: إنّه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه؛ لأنّه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه. فالصوم الذي كان مشروعاً لمن كانوا قبل الإسلام، أو اتخذوه هم شرعة لهم يختلف عما شرعه الإسلام، بل وقد نقض الإسلام كثيراً من أشكال الصوم وأنواعه مما كان مشروعاً أو معتاداً لدى من سبق من الأمم أو مازال المعاصرون من اليهود والنصارى وغيرهم من الديانات يمارسونه. والحديث موصول فيما أبطله الإسلام من صوم السابقين، وفيما شرعه الإسلام صوماً للرحمن.   2-الصوم في شريعة القرآن: لقد صام الرسول (ص)، وصام معه المسلمون من قبل أن ينزل الله فرض الصوم في شهر رمضان، ولا خلاف في هذا بين الفقهاء ولا في تحديد هذا الصيام بنوعيه: صيام عاشوراء، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر. ولقد ذهب بعض فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن صوم عاشوراء كان فرضاً قبل رمضان، وقد استدل العلامة ابن حجر في (فتح الباري) على هذه الفرضية بما يلي: أمر النبي (ص) هند بن أسماء بن حارثة (رض) وهو من أصحاب المدينة أن يذهب إلى قومه "أسلم" بقرية قريبة من المدينة فيؤذن فيهم يوم عاشوراء "أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم فإنّ اليوم يوم عاشوراء" وقالت الربيع بنت معوذ: أرسل النبي (ص) غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار "من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصمه" فكنا نصومه ونصوِّم صبياننا وهم صغار فإذا سألوا عن الطعام أعطيناهم اللعبة من العهن نلهيهم بها حتى يتموا صومهم. ولقد قال العلامة ابن حجر إنّه يؤخذ من مجموع الأحاديث أن صوم عاشوراء كان واجباً لثبوت الأمر بصومه ثمّ تأكد هذا الأمر بذلك، ثمّ زاد التوكيد بالنداء العام، وبالأمر الموجه إلى من أكل بالإمساك بقية اليوم، ثمّ زيادته بأنّ الأُمّهات يصوِّمن أولادهنّ. والثابت في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنّه لما فرض رمضان ترك عاشوراء. وقد دل هذا على أنّ المتروك هو وجوب صوم عاشوراء لا استحبابه. من هذا ما ورد أن رسول الله (ص) قال عام وفاته: "لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر"[3]. هذا: والخلاف بين الفقهاء والمفسرين واقع في أن صوماً فرض على المسلمين غير صوم رمضان. ولكن الواقع أن صوم المسلمين – عامة عاشوراء – وصومهم عامة ثلاثة أيام من كل شهر لم يستمر طويلاً إنما كان لفترة الأشهر الستة الأولى من السنة الثانية من الهجرة حيث نزل فرض صوم رمضان في شهر شعبان من هذه السنة، واستمرت السنة شاهدة على صوم يوم عاشوراء بل التاسع قبله. ذلك الصوم، قد كتبه على المسلمين من قبل بالآية التي تقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وآيات بعدها (184-185-187 من سورة البقرة). وهذه الآيات الأربع قد ساقت تشريعاً مغايراً لما سبق من تشريعات في هذه العبادة فلم تكتف بإعلان فرض الصوم، وتركت للرسول (ص) تفصيل أمره، كما كان الشأن في فرض الصلاة والزكاة، وغيرهما، بل عنيت بالتفصيل إحكاماً للأحكام فماذا قررت هذه الآيات؟   3-فرض صوم رمضان: كانت آيات الصوم الأربع في سورة البقرة تنزيلاً من حكيم حميد، أعلنت المسلمين بالكف عن الملذات الثلاث: المأكل، والشرب، والمخالطة الزوجية. لكي يقيموا عبادة متفردة بين العبادات، إذ فيها من كمال العبادة كل الكمالات، فهي عبادة تسلك بالمؤمن طريقاً لا يسير فيه إلا كل صبار شكور، مخلص طائع، يزداد بسلوكه هذا برّاً ورحمة وينال به ثواباً ورفعة، يكسب العبادات الأخرى التي يؤديها الصائم ثواباً وجزاءً من الله لا تناله وهي منفردة، إذ الصوم يفيض على غيره من العبادات إخلاصاً كاملاً، وصفاء ونقاء لا تكتسبه في غير الصوم. وإذا نتأمل الآية الأولى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وآيات بعدها نجد أنها على إيجازها تمهد نفوس المسلمين لإحتمال الصوم، إذ ليسوا بدعاً، في ذلك، فقد كان مكتوباً على أمم سابقة، بشر مثلهم، مارسوه في رحاب الله، فاحتملوه ولم يضيقوا به، فليس لأحد أن يدعي أنّ في الصوم مشقة فوق طاقته. لقد كان فرض الصوم بهذه الآيات في مجتمع غض النشأة الدينية، وقد انضوى تحت لواء هذه النشأة فريقان: الأوّل: فئة آمنت إيماناً ملك عليها كل ما فيها من حواس ومشاعر يقدم على تنفيذ الأوامر بكل قوة وإخلاص، ينصاع للأمر في خشوع وطواعية، وممارسة بالرضا والإيمان. الثاني: كان ومازال يدرج في مراحل الإيمان، وهذا الفريق يؤتلف حتى يتمكن الإسلام من قلبه ويغزو روحه فيزداد في الله يقينه ويشتد انصياعه لأوامر الله. ومن ثمّ كان أمر الصيام في البداية مراعياً استعداد الفريقين فكان هذا الفرض مشوباً بلون من التخير الملزم، وكان على المسلم أن يختار واحداً من أمرين: أ‌-     أن يصوم نحو 23 ساعة تبدأ من صلاته فرض العشاء أو نومه بعد المغرب مستمرّاً إلى غروب شمس اليوم التالي. ب‌- وإما إطعام مسكين كل يوم بدلاً من صيامه: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (البقرة/ 184)، أي إذا أرادوا الإفطار وتركوا الصوم. ولقد استمر هذا التخيير الملزم لواحدة من الاثنتين قائماً حتى جاء قوله – تعالى – فيها بعد تلك الآيات: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185).. عندئذ كان هذا القول الفصل في إنهاء التخيير، ولزم الصوم الجميع ودخل رمضان طوراً جديداً ليس فيه استبدال الإطعام بالصوم ولقد استمر مع هذا الإلزام بالصوم اليوم كله عدا فترة ضئيلة هي ما بين المغرب والعشاء أو النوم حتى نزل قول الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) (البقرة/ 187)، إلى أن قال الله في ذات الآية: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة/ 187).. وبذلك صارت فترة الصوم من طلوع الفجر حتى غروب الشمس وفي لفظ الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ) (البقرة/ 187).. مما يفيد أن ما أبيح وأحل كان محرماً ومحظوراً من قبل نزولها. وهكذا جرت سنة الله في التخفيف ورفع الحرج والمشقة، وكان تحديد الصوم بشهر رمضان، فلا يزيد ولا ينقص حتى حرمت الشريعة صيام يوم الشك من شعبان ويوم العيد من شوال، وتحددت فترة الصيام اليومي من الفجر إلى الليل وأوله غروب الشمس. تلك آيات الله البينات قد حددت لنا الصوم اليوم بدءاً ونهاية، ومدته شهر رمضان فصار لزاماً على المسلمين الالتزام بما تقرر، تلك حدود الله فلا تعتدوها. والحديث موصول لبيان أنّ الصوم وسيلة للتقوى..   4-الصوم وسيلة التقوى: حين قال الله في مستهل آيات الصوم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) . أراد – سبحانه – أن يوجهنا إلى أن إصلاح النفس الإنسانية إنما يكون من داخلها طواعية دون إكراه. والصوم بمعناه اللغوي والشرعي مؤدٍ إلى إعداد النفس الإنسانية وامدادها بما يعينها على تقوى الله ودوام مراقبته، وتربية إرادة الصائم ليقوى بذلك على ترك المحرمات وكبح الشهوات ومن قبل ذلك على أداء المأمورات. والصوم باسمه ورسمه في الإسلام مؤدٍ إلى التقوى بمعنى الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل، ذلك ما تشير إليه ختمام الآية المتلوة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). إذ في هذا بيان وتعليل لفرض الصوم وإبراز للغاية من فرضه، وتحريض على الإقدام على أدائه في نطاق ما أمر به الله ورسوله (ص) حتى يعد المسلم الصائم نفسه لتقوى الله، ورضوانه وترك المباح من الرغائب الميسورة امتثالاً لأمر الله واحتساباً للأجر عنده، إذا درب المسلم النفس وكفها عن المباحات ملك زمامها وحال بينها وبين المحرمات، تربت لديه ملكة الصبر عن كل مرغوب على ما يشير إليه قول الرسول (ص) "الصيام نصف الصبر"[4]. و(لعل) في تلك الآية للترجي، والرجاء إنما يكون فيما وقعت أسبابه وموضعه هنا المؤمنون المخاطبون بهذه الفريضة. ومن ثمّ كان من لم يصم بالنية وقصد التقرب إلى الله بعيداً عن أن تتربى عنده ملكة ترك المحرمات، ولم ترج له ومنه التقوى، فلم يشرع الصوم في الإسلام تعذيباً للنفس وإنما لتربيتها وتزكيتها. ونواصل الحديث في أنواع أخر من الصوم في الإسلام.   5-الصوم في غير شهر رمضان: وإذا كان صيام شهر رمضان فرضاً عامّاً يجري على كل المسلمين المكلفين بوصفه طاعة عامة لا يستعاض عنها، ولا يستبدل بها غيرها إذ لا مقابل لها من قربات مماثلة، فهو لازم مدى الدهر لا يحل تركه بدون الرخصة التي أبانها القرآن الكريم في آيات الصوم. إذا كان هذا فإنّ الإسلام – احتفاء بالصوم – قد شرعه في فصول أخرى أو واقعات أخر دون أن يكون عامّاً شاملاً لكل الأُمّة، فأوجبه في ظروف خاصة على بعض المسلمين مع قسيم له في الجوب وعلى سبيل التخيير من الإلزام بواحد منها. وهذا الصوم يستوعب شؤوناً دينية وأخرى اجتماعية يتعرض لها المسلم. ففي الشؤون الدينية شرع الله صيام التمتع في الحج عند عدم القدرة على الهدي، ذلك قول الله سبحانه: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) (البقرة/ 196).. فأوجبت الآية على المتمتع الهدي، فمن لم يجد فالصيام بهذا التوزيع الوارد في الآية ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد انقضاء أيامه وإتمامه وبعد العودة إلى موطنه، وقد وجبت هذه الأيام جميعها غير متتابعة بل يجوز أن تكون متتابعة أو متفرقة. ثمّ صيام الفدية التي تجب على الحاج إذا فعل شيئاً مما حرم عليه أثناء الإحرام بالحج ولم يكن مما يفسد به حجه كأن يتعطر أو يحلق شعره، إذ إن فعل هذا وأمثاله محظور على المحرم بالحج، فإذا فعله لم يفسد حجه ووجبت عليه الفدية مخيراً فيها بين أنواع ثلاثة: صيام ثلاثة أيام، أو صدقة قوامها إطعام ستة مساكين مرتين لكل مسكين، أو نسك وهو ذبح شاة أو أعلى منها من الأنعام، ذلك قول الله – سبحانه – في سورة البقرة: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (البقرة/ 196).. وقد بين رسول الله (ص) هذا أيضاً في واقعة كعب بن عجرة حيث حلق رأسه في العمرة مع الرسول في العام السادس حين قال له (ص): "انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام"[5]. فنسك كعب شاة. ولما كان الله قد جعل الكعبة وحرمها وما حولها حراماً، ولم يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً أو يجعل منها ميدان قتال، ومن ثمّ فقد حرم فيها القتال، كما حرم الصيد فيها ذلك قول الله – تعالى – في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (المائدة/ 95).. وبهذا عرف جزاء قتل الصيد في الأرض الحرام أو أثناء الإحرام فهو شراء حيوان مقابل – في الجملة – للحيوان الممنوع صيده الذي أتلفه الجاني يُذبح في منى أو في مكة، ثم يعطى إلى المساكين، أو يقوَّم الصيد بمقابله من الصيام، ويوزع على المساكين أو صيام الجاني مقابل ما أوجب من طعام على الوجه المفصل في موضعه في الفقه، والجاني مخير بين هذه الثلاث. وإذا كانت الجنايات السابقة في أمور تعبدية وكان من أنواع الجزاء فيها الصوم، فإنّ الأمور الاجتماعية لها كذلك جزاء متعدد من بينه الصوم باعتبار ما وقع عليه جناية اجتماعية، وأنّ المطلوب إصلاح اجتماعي ومن ثمّ كانت الكفارة تحرير الرقيق معادلاً للصيام. وقد شرع هذا في كفارة القتل الخطأ؛ حيث ختمت الآية 92 من سورة النساء بقوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا). وصيام الظهار حيث قضى الله على المظاهر من زوجته بواحد من أجزية متتالية في الترتيب على الوجه الذي جاء في قول الله في سورة المجادلة: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا...) (المجادلة/ 3-4). ثمّ صيام اليمين المنعقدة وهي التي فرض الله فيها التحلة من الإثم بكفارة جعلها الله سبحانه أنواعاً إذا عجز الحالف عن الثلاثة الأوّل منها كانت الكفارة صوم ثلاثة أيام لا يلزم فيها التتابع حسبما جاء في قول الله في سورة المائدة في آخر الآية 89: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ). ثمّ صيام النذر ألزم المسلم نفسه به طاعة لله امتثالاً لقول الله: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (الحج/ 29)، ثمّ صوم التطوع الذي شرع فيه في غير الأيام التي حرم فيها الصوم. أرأيت أيها المسلم وأيتها المسلمة مكانة الصوم في الإسلام، وكيف فرض الله صوم شهر رمضان كل عام وأوجب صوم أيام أخر إما كفارات دينية أو اجتماعية وغير هذا مما سبق الإشارة إليه؟ نعم؛ لقد صدق الله حين اختتم الآية الأولى من آيات الصوم بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، والآية الثالثة: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وفي الآية الأخيرة من آيات الصوم: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). الهوامش:
[1]- رواه مالك والبخاري وأبو داود وغيرهم بلفظ، "مروه فليتكلم ويستظل وليقعد".. [2]- رواه البخاري ومسلم. [3]- رواه البخاري ومسلم. [4]- سنن ابن ماجه.

[5]- رواه البخاري.

    المصدر: كتاب (منهج الإسلام في التربية والإصلاح)

ارسال التعليق

Top