• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

سبيلنا إلى حياة إسلامية

محمّد أبو المجد

سبيلنا إلى حياة إسلامية

◄(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف/ 108).

الإسلام رسالة تستوعب دنيا الإنسان وتلبي كلّ حاجاته وتنفتح على كلّ ما يمس واقعه من بعيد أو قريب بهذا اللون من العمق تؤلف عملية انقلابية ثورية ترفض بعنف وبحزم كلّ مرتكز ذهني وكلّ سلوك وكلّ تفاعل يجري في دنيا الإنسان وهو على منأى من منهج الله تعالى ثم هو بعد ذلك حركة تأريخية كبرى تتخطى أبعاد كلّ زمان ومكان ولا يقبل المساومة ولا الوسطية ولا أنصاف الحلول ولا أن يقبل أيّة صيغة تفاهمية مع الواقع الاجتماعي وقواه الضالعة في ركاب المناهج الوضعية وإنما هو مد ثوري هائل يفرض وجوده ويجسد أطروحته في الحياة بشكل يحقق فيه كلّ تطلّعات الإنسان ويلبي كلّ أشواقه وميوله الفطرية متجاوزاً بذلك كلّ السمات السلبية والتناقضية التي ترسبت خلال عهود الإنحراف عن المنهج الإلهي، لكن مسألة تجسيد الإسلام الحنيف لأطروحته الحياتية هذه في دنيا الإنسان لا تتحقق - من وجهة نظره - بصفة ميكانيكية عفوية وإنما هي ثمرة بذل جهد وحصيلة عرق ووقت - هذا الإنسان - محوره ومجاله وأُفقه ومادته وقوامه، الإنسان - سّيما إنسان هذه المنطقة - هو المسؤول والمكلف بجعل الرسالة الإسلامية بأبعادها التغييرية الكبرى التي تمتلك الفعالية الضخمة لتحقيق تطلّعات الإنسان وأشواقه العليا، والمنطق والتاريخ يؤكدان بصرامة متناهية هذه الحقيقة فالشقاء والسعادة والتأخر أو التقدم هي مسائل من صنع الإنسان ذاته ولم تعدّ ذات صيغة قانونية مفروضة على الإنسان من الأعلى كما كان يعتقد في عصور أوربا الوسطى، فصانع التاريخ ودافع عجلته إلى الأمام هو الإنسان دون سواه على الإطلاق وهو مالك زمام أمره في إطار القوى التي أسبغت عليه كما هو مالك زمام واقعه وليس بمقدور قوى الأرض الأخرى أن تغير من هذا المقياس السليم، ومن خلال هذا المنطلق الحيوي الأصيل وضع الإسلام ثقته الكاملة بالإنسان وحباه قابلية صنع تاريخه: مجده وعزته أو خنوعه ومسكنته طبقاً للإطار والمضمون الفكري الذي يحمله رسالة ومنهج حياة.

إلّا إنّ الجهد الإنساني المبذول لتحقيق العمل التغييري في المجتمع ليس ذا وجهة واحدة لا يتخطاها وإنما تتحدد طبيعة العمل وأبعاده وشدة الجهد المبذول ووطأته طبقاً لمكانة الرسالة في الكيان الاجتماعي فهذه المسألة - مسألة مكانة الرسالة في دنيا الإنسان - هي التي تملك حقّ تحديد حجم الطاقات المبذولة لخدمة الرسالة ذاتها قوّة وضعفاً، فتارة تكون الرسالة قد ضربت جذورها في أغوار المجتمع واصطبغت بها روحه ونفسيته فعاد مؤمناً بها حاملاً لسمتها إلّا أنّ لوناً من ألوان التلاعب على بعض الأُطر التشريعية أو الفكرية قد برز على بعض واجهات المجتمع كسياسة الدولة الاقتصادية أو تعاطي الخمر من لدن فريق من الناس ونحو ذلك، وتارة تكون الرسالة قد تعرضت لعوامل التذويب على الصعيد الاجتماعي والفكري ونحوه بوسائل تربوية أو إعلامية أو تشريعية كما يتعرّض إنسان الرسالة هو الآخر إلى عملية مسح ذهني وفكري وسلوكي واسع وفقاً لخطط مبرمجة ومدروسة، وفي مثل هذه الحالة تكون الرسالة قد فقدت مركز القيادة في الأُمّة ولم تمتلك زمام المبادرة في التوجيه الاجتماعي لأتباعها كما سبق، كما أنّ اتباعها قد حملوا بديلاً لها [شارة الضياع] واللا انتماء، وهكذا فإن كانت الأرضية الرسالية محفوظة في الحالة الأولى وإنما طرأ الشذوذ فحسب على البناء الفوقي للرسالة في وقت لم تنل القوالب الفكرية والتشريعية الأساسية عوامل التشويه فإنّ الأرضية الرسالية في الحالة الثانية هي التي أصبحت محور الهجوم التصفوي لكلّ أُطرها ومفاهيمها وآرادها في الكون والحياة والإنسان، ومن هنا فمن الطبيعي أن تكون الجهود البشرية المبذولة في الحالة الثانية لإعادة السيادة للأُطر الرسالية الأصيلة في حياة الفرد والجماعة تفوق حجم الجهود المبذولة في الحالة الأولى فلئن كان علاج الوضعية الثانية يتطلب عملاً تعبوياً مركزاً لتجسيد العملية التغييرية الكبرى في الكيان الاجتماعي وفقاً لمقتضيات الرسالة ومتطلباتها وطبقاً لمخطط عملي واسع النطاق يستوعب جهود العاملين لمدى من الزمن قد يطول، وعلى ضوء هذه المرتكزات الأساسية ينبغي أن نعي أبعاد المسؤولية الملقاة على إنسان الإسلام لأجل أن يعيد للأُمّة فتوتها وشبابها وأصالتها من جديد، لكن أبعاد هذه المسألة كما يبدو ليس بمقدورنا أن نستوعبها بمجرد النظرة السطحية التي تتسم بالطابع العاطفي والغيرة الدينية وإنما لابدّ أن نحدد جوابنا بصيغة علمية واعية وصارمة مستوعبة لواقع الأُمّة ومكانة الرسالة لديها وهذه مسألة ذات صفة تدينية قبل أن تكون اجتماعية وسياسية ذلك لأنّ الرسالة الإسلامية من جانبها قد رسمت قوالب متعددة لعلاج أدواء الانحراف التي تلعب أدواراً خطرة في صرف مسيرة الأُمّة الإسلامية عن أهدافها العليا فهناك قاعدة الوعظ والإرشاد ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنهج التبشير والتبليغ وأسلوب الجهاد وغير ذلك من الصيغ العملية التي ألزمت الرسالة الإسلامية إنسانها بالتزام كلّ منها ولكن في الظروف والملابسات والمناخ الطبيعي المعد لكلّ منها دون سواها ـ ومادامت قضيتنا بهذا اللون من العمق والأصالة فلابدّ أن نلقي نظرة ولو إجمالية على واقعنا المعاشي ومدى علاقته بالإسلام كرسالة ومنهج حياة لنتبيّن بوضوح الأسلوب الأمثل الذي ينبغي أن تسلكه الأُمّة اليوم في معركتها من أجل الحياة ومن أجل أن تحمل من جديد المشعل المتفجر بالنور والخير الخصب والنماء.

انفتح جيل الأُمّة الإسلامية المعاصر على متناقض في لحمته وسداه فقد استقرت في ذهنه فكرة مشوهة عن مبدئه الإسلامي العظيم لا تقوى على حمله على الصمود في الصراع المستقطب بينه وبين الحضارة الأوربية الوضعية وقوتها العاتية، فلم يستقر في ذهن هذا الجيل من رسالته سوى إطارات ضيّقة من الإسلام وصل عن طريقها إلى حدود القناعة بأنّ رسالته قد استنفذت أغراضها وليس في مقدورها بعد أن تنظم حياة الفرد وحاجات المجتمع في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مما أوحى له بجواز التماس تشريعات وأُطر فكرية حديثة لعلاج مضلاته في الحياة، وهذه سمة تكاد أن تغلب على كافة قطاعات الأُمّة المتعلمة منها وغير المتعلمة مما أعطى لحملة الحضارة الأوربية مزيداً من الفرص للنفوذ في صفوف الأُمّة الإسلامية وتمرير مؤامراتهم الهوجاء على الرسالة الإسلامية على شتى المستويات وقد دشنوا مخططهم المحكم الصنع بعمل عسكري استهدف القضاء على الكيان الدولي للأُمّة المتمثل بآخر دولة تستند على القاعدة الفكرية للإسلام كقاعدة للتقنين ومصدر للتشريع لمختلف النشاطات الاجتماعية والسياسية - هي الدولة العثمانية - وكان لهم ما أرادوا إذ سقطت الدولة العثمانية صريعة أمام الطوفان كنتيجة طبيعية للخواء الروحي الذي ألم بمجموع الأُمّة ونتيجة كذلك لعدم إدراكها لمدى مسؤولياتها الجسيمة في الحيلولة دون الانهزام حضارياً أمام أعدائها التقليديين وبسقوط هذا الكيان الذي لا يمثل التركيب الأصيل للدولة الإسلامية وإنّما هو مظهر يبرز الوجود الدولي للإسلام كرسالة للمسلمين كافة بين أُمّم الأرض بغض النظر عن العامل الانحرافي الذي برز بشكل مفضوح على سلوك القائمين برعايته، بسقوط هذا الكيان السياسي وقعت الأُمّة على عتبة تاريخ جديد من حياتها تاريخ ينضح بالتبعية والميوعة والضياع والتخلف، وقد آن الأوان ليحتفظ الغزاة بمكسبهم الجديد وفق مخطط مدروس وهكذا بدأت حملة تربوية دعائية عريضة لتحقيق بنود هذا المخطط خطوة خطوة لقلب ركائز المجتمع الإسلامي المبتنى على أساس الإسلام، وافتتحت المدارس أبوابها لتتلقى شباب الأُمّة جيلاً بعد جيل بعد أن صمم لهم منهج تربوي خاص يضمن تخرجهم على ضوئه رجالاً لا يحملون من رسالتهم الغراء غير صورة قائمة مشوهة المعالم على أحسن تقدير!! وهذا أمر من البداهة بمكان سيّما وأنّ الطالب يتلقى في مراحل الدراسة المعدة له لونين من المواد الدراسية  فإمّا دراسات لا تمت إلى الإسلام بصلة كدروس الاقتصاد والاجتماع ونحوها، وأمّا دراسات ذات علاقة بتراث الإسلام كمناهج التاريخ والدين وأنّ حمل اسم الإسلام إلّا أنّه لا يحمل في طياته إلّا طقوساً عبادية أو نصوصاً أخلاقية ليس غير، بشكل جاف فاقد للروح الأصيلة للمنهج الإسلامي وليس بمقدورها صناعة الشخصية الإسلامية التي يهدف الإسلام لخلقها لتكون قوّة فاعلة مغيرة في دنيا الإنسان، وأمّا منهج التاريخ المقرر فإنّه وإن يتناول حياة بعض القادة الإسلاميين أو بعض أحداث التاريخ في العصور الإسلامية إلّا إنّه يعمل على تجريد الأحداث من روحها وجوهرها، فحين يتناول المنهج حياة الرسول (ص) فإنّما يتناولها بالأسلوب الذي يتناول فيه حياة كسرى وقيصر ونابليون متناسياً الدور الرسالي والعملية التغييرية الكبرى التي اضطلع الرسول (ص) بمهامها على ظهر هذا الكوكب، وعلى هذا النمط تجري دراسة كافة أحداث التاريخ الإسلامي فمعركة بدر الكبرى التي تمخضت عن انتصار مؤزر لصالح الإسلام ومعسكره الفتي على حساب القوى الضالة في ركاب الواقع الجاهلي المتفسخ مع ضعف الإمكانات المادّية التي حظي بها المعسكر الإسلامي وقتئذٍ، هذه المعركة الفاصلة في تاريخ الأُمّة ورسالتها تجردها مناهج التاريخ المقرر من محتواها ومدلولاتها التي عكست حتمية النصر، فبدلاً من أن تترجم محتواها العقائدي القائم في وعد الله القاطع بالنصر ووقوف الملائكة إلى صف المعسكر الرسالي، تعكس المسألة فحسب على شكل معركة دخل عامل الصدفة أو الصمود أو غير ذلك فيها ليعطي محمّداً (ص) وأصحابه فرصة كسب الموقف العسكري، وهكذا تبدو مسألة التاريخ الإسلامي وقضاياه كلّها بهذا الشكل المادّي من خلال مناهج التاريخ التي يعول على دراستها في الجو المدرسي، هذا على الصعيد التربوي لأجيال الأُمّة الناشئة.

أما على مستوى قطاعات الأُمّة الأخرى بمجموعها فقد تعرّضت هذه لعملية مسح فكري وسلوكي عنيد نهضت بأعبائه مؤسسات اجتماعية وتربوية من نمط آخر.. فهي كلّها أدوات تحت تصرف النفوذ الاستعماري وقوى العمالة السائرة على خطهِ، وتتابعث أدوار المسرحية فكان إقصاء الإسلام كقاعدة للتقنين عن دنيا الإنسان المسلم تماماً، وعلى شتى المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسيايسة، وقد تمت تلك وفق عملية منهجية كان آخرها إلغاء لنظام الأسرة الذي كان مساوقاً لتعاليم الرسالة الإسلامية واستبداله بقانون الأحوال الشخصية الجديد الذي استعير من النظم الغربية وهذا ما جرى أو يجري فعلاً في كثير من بقاع الوطن الإسلامي الكبير، ومن الطبيعي جدّاً أن يعمل النفوذ الاستعماري على خلق غطاء لحماية هذه العمليات ونتاجها المر، وهكذا انبثقت فكرة إنشاء الأحزاب والحركات السياسية على المستوى الإقليمي والقومي ليكون أبناء الأُمّة الذين انشئوا إنشاءً روحياً وفكرياً في إطار التربية الغربية بمثابة الناطق الرسمي بلسان الحضارة الغازية وليكونوا كذلك قدوة لغيرهم في احتضان الأيديولوجية الجديدة الوافدة ثم ليتولوا دور الحارس الأمين لمطالب [رسالة الرجل الأبيض] والحامل المخلص لتعاليمها وخطوطها ومفاهيمها، وهكذا أُنيطت مسؤولية إدارة شؤون الأُمّة في كلّ أصقاع الوطن الإسلامي فيما بعد بتلك القوى الجديدة الحاملة لحضارة أوروبا أو القائمة على تفث سمومها في هذه الأرض الغريبة عنها.

واضطرمت نار الحرب العالمية الثانية فتعرضت مصالح المعسكر الغربي وعلى رأسه بريطانيا لخطورة بالغة وكادت النازية الهتلرية أن تبتلع المصالح البريطانية وحلفائها مما حمل الغرب على الاستنجاد بالمعسكر الاشتراكي الناشئ لقاء إعطائه مزيداً من الفرص لإسناد الحركة الشيوعية في المستعمرات البريطانية وغيرها، وهكذا برز على صعيد وطننا الإسلامي فصل جديد من المسرحية الأوربية تمثلت بالخطر الماركسي الإلحادي الذي بات يهدد عقيدة الأُمّة ورسالتها وتراثها بالدمار.

هذه بعض الركائز التي ساهمت في حرف الأُمّة عن مسيرتها وكادت أن تقطع الصلة بينها وبين رسالتها الكبرى في الحياة وحولتها إلى أُمّة ضائعة مهزومة خائرة القوى تتوزعها الشعارات وتقتسمها الأهواء.

وهكذا فإنّ الاستقراء المنطقي الواعي والتحليل العلمي الصحيح لواقع أُمّتنا اليوم يكشف عن مدى الانحراف عن الخط الرسالي على الصعيد العملي والفكري الذي تقبع فيه الأُمّة منذ مطلع هذا القرن وإنّ أي فهم سوى هذا الفهم لواقع أُمّتنا يعتبر فهماً هزيلاً فاقداً للصفة العلمية والموضوعية، ومن هنا فإنّ الصيغة النهائية لمشكلتنا التي عرضنا نماذج منها تقودنا للاهتداء من خلالها لإستراتيجية عمل مثمر وبنّاء لاستعادة وجودنا الحضاري لنبوأ مقعدنا الطبيعي بين أُمّم الأرض كخير أُمّة أُخرجت للناس وهنا يضع العاملون أيديهم على رأس الخيط الذي يقودهم إلى وعي صارم محدد لطبيعة العمل من أجل الرسالة الإسلامية التي يبدو انحسارها جلياً عن دنيا الإنسان اليوم، كما يصبح بمقدور العاملين في الخط الإسلامي كذلك أن يدركوا حجم الطاقات التي تناط مسؤولية النهوض بها بإنسان المنطقة - الإنسان المسلم - في الوقت الحاضر ليأتي العمل والجهد هادفاً بناء يوازي في حجمه وأبعاده وفاعليته حجم التروي وأبعاد الميوعة وفاعلية الضياع الذي يكتنف حاضر هذه الأُمّة المجيدة.

وهكذا فإنّ الطابع التغييري الذي يتسم بالرفض الصارم العنيد للواقع الإيدولوجي والعمل الذي تتبع فيه الأُمّة اليوم هو الإطار الطبيعي للعمل الإسلامي على طول الوطن الإسلامي الكبير، وإنّ أيّ تلكؤ أو تغاضٍ عن هذه الحقيقة يعتبر إلهاء للأُمّة في معارك جانبية وصرفاً لها عن واقع معركتها الحقيقية وتبديداً بطاقاتها وجهودها في عمل هامشي لا يمس واقعها بالصميم، ولابدّ إذن أن يكون الإطار الطبيعي الذي تتحرّك فيه الأُمّة على خط العمل الإسلامي هو التبشير بالمحتوى الفكري والتشريعي للرسالة الإسلامية على صعيد الفرد والجماعة والعمل كلّما من شأنه على إنشاء الشخصية الإسلامية الأصيلة إنشاءً روحياً وفكرياً وعملياً فإنّ تبديل المحتوى الداخلي لإنسان المنطقة وفقاً لمقتضيات المنهج الإسلامي الكريم يعتبر المنطلق الحيوي لصناعة المجتمع الذي تصبوا إليه الرسالة الإسلامية (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).

أما الجوانب الفوقية - لواقع الأُمّة - فإنّ العمل على مستواها ينبغي أن يصدر بعد استكمال شروطه الأساسية فممارسة منع تعاطي الخمر في بلد ما يجب أن يتم بعد أن يتهيأ المجتمع هناك نفسياً وروحياً لتقبل تلك العملية وهذا أمر يصدق على سائر الأعمال الفوقية الأخرى من ربا وميسر وغير ذلك، ونحن لا يهمنا بعد ذلك البعد الزمني الذي تستغرقه العملية الاجتماعية هذه بقدر ما يهمنا إنّنا نسلك الخط الطبيعي للعمل الاجتماعي وإنّ جهدنا المبذول على مستوى هذا الخط يخدم قضيتنا الكبرى بالصميم وإنّه لا ينحرف بحال من الأحوال عن مسار حركة الأُمّة التأريخية الصاعدة نحو الخير والعطاء، إلّا إنّ التزامنا بواقعية العمل الاجتماعي ليس هو الضمان الوحيد لانطلاقتنا التأريخية المنتظرة فحسب فلإنسان الإسلام على صعيد العمل الاجتماعي ضمانات ثرة تلهمه روح الصمود على جبهات العمل الشاق الطويل وتمنحه فاعلية ضخمة على تخطي عقبات الطريق برباطة جأش وشجاعة قلب وثقة بالنفس لا تتزعزع بشكل لا يتسنى لإنسان أية رسالة أخرى:

أوّلها: الروح التقديسية التي يشيعها الإسلام في نفوس تابعيه والتي يجري بمقتضاها الإيمان المطلق من أنّ التصوّرات والمفاهيم والتلقينات الإسلامية برمتها إنّما هي صادرة من خالق هذا الوجود سبحانه هذا الذي يتخطى كماله المطلق كلّ اجتهاد وظن وتخمين، مما يلهم إنسان الإسلام على ضوء هذا المنطلق أنّ رسالته التي يعمل على استعادة وجودها إلى دنيا الإنسان ترتفع في صواب منطقها وصلاحياتها على كلّ منهج واجتهاد ورأي لأنّ سائر المناهج الاجتماعية لا تعدو أن تكون نتاجاً لعقول وتجارب بشرية لا يمكن أن تبلغ ما يبلغه الإسلام الحنيف في نفوس مريديه في كونه المنهاج الإلهي الفريد الذي اصطفاه الله سبحانه لعباده وابتعث به النبيّ محمّداً (ص) رحمة للعالمين.

ثانيها: تجنيد كافة الدوافع الذاتية لدى الإنسان لخدمة الرسالة في الميدان العملي وهذه مسالة تصدق على المنهج الإسلامي دون سائر المناهج الاجتماعيه أيضاً فالإسلام يدفع اتباعه للعمل في خضم ميدان الصراع المستقطب بينه وبين المناهج الوضعية في الأرض ليتحقق الانعطاف التاريخي لصالحه وإن كان ذلك على حساب الإنسان المسلم ذاته، والإنسان المسلم يندفع بدوره بحرارة شابة تواقة لبلوغ الأهداف العليا التي تستهدفها رسالته الغراء، وكثيراً بما يحسر ماله وجهده واستقراره وفي أحايين أخرى يخسر ذاته، ولكنّه موعود من لدن الرسالة ذاتها بالتعويض المضاعف لما فقد، حين يفد إلى ربه في دار الخلود الرضوان بعد موته المحتوم (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة/ 120-121). وهذا المبدأ الحي يعتبر علامة فارقة بين الرسالة السماوية وغيرها من مناهج الأرض، فإن كان الإسلام يضمن بجدارة تعويض الخسارة التي يمنى بها مريدوه في حالة الكفاح من أجله  في عالم الخلود اللامحدود فإنّ أي رسالة أو أي منهج اجتماعي آخر لا يملك مثل هذه الفاعلية على الإطلاق فالجهد الذي يبذله أنصار المناهج الوضعية في صراعهم في الميدان العملي لا يوفر لهم مكسباً ولا ربحاً ذاتياً سيَّما في الحالة التي يفقدون معها حياتهم في ميدان الصراع من أجل مبادئهم المؤمنين بها، وهكذا فأنّ الرسالة الإسلامية وحدها جديرة بتعويض اتباعها كلّ ما يستهلكونه في معركتهم من أجل الرسالة واستعادة وجودها في دنيا الإنسان.

ثالثها: الوعد القاطع بالنصر: والمسلم في الميدان العملي في سبيل رسالته لا توكل نتيجة عمله للظروف والملابسات وإن كانت هذه ذات دور لا يمكن أن يغض النظر عنه، إنما يوهب إنسان الإسلام ثقة كاملة بالنصر والفوز في نضاله الذي يشنه من أجل رسالته إذ يتلقّى وعوداً إلهية صارمة بالنصر المؤزر في مهمته تتخطى في قوتها وأبعادها حدود الحتمية ولكنّها وعود مشروطة بالإيمان العميق وبالعمل الجاد المخلص من لدن إنسان الإسلام ذاته دون هوادة ولا تردد في إطار الفرد وفي إطار المجتمع ليأتي الانتصار حصيلة طبيعية لعناصره المعنوية والمادّية وأبلغ نص يشير إلى هذه الحقيقة على ما يبدو قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 55).

وهذه المسألة هي الأخرى تعتبر واحدة من أبرز خصائص العمل الاجتماعي على الخطّ الإسلامي التي لا تحظى بها رسالة اجتماعية أخرى نظراً إلى أنّ الإسلام الحنيف يبث في نفوس اتباعه روحاً إيمانية بالله سبحانه لا يبلغ مداها إيمان آخر وهذه الروح العقائدية ذات الأُفق الرحيب تلهم إنسان الإسلام بدورها حتمية قيام وعد الله الصادق واقعاً حيّاً في دنيا الإنسان أن سلك هو من جانبه الخطّ الطبيعي للعمل التغييري في الكيان الاجتماعي، وقد كان لهذا المبدأ مصاديقه المروية في حياة الرعيل الأوّل من هذه الأُمّة يوم كانت تلك الطلائع تعمل وتناضل وتكافح من أجل رسالتها الحياتية وهي واثقة بالنصر الأكيد على أعدائها فتجد وعد الله لها مجتمعاً ودولة يقفان تحت راية الله سبحانه امتلكا ببضع سنين مركز الثقل على الصعيد السياسي والدولي بين أُمّم الأرض  كافة.

وهكذا تبدو مسألة العمل الاجتماعي في الخطّ الإسلامي ذات خصائص وضمانات كبرى تنبع من الرسالة ذاتها فتجند طاقات الإنسان برمتها من أجل تقرير مصير الرسالة في المعترك الحياتي مما لا يتسنى نظيره لمنهج اجتماعي آخر على الإطلاق - كما تجلى من خلال هذه الدراسة الموجزة -.

ونختم حديثنا هذا بالتأكيد على ضرورة رفض الواقع المعاشي الذي تحياه أُمّتنا اليوم والتحرّك في إطار الخطّ الإسلامي وفقاً لإستراتيجية عمل تغييري شامل على التبشير بالمحتوى الأيديولوجي للرسالة الإسلامية الغراء ويستوعب في أبعاده حدود الفرد والمجتمع.►

 

المصدر: كتاب الإسلام ورسالته الخالدة

ارسال التعليق

Top