- عناصر العمل الأخلاقي:
تستبطن فلسفة الأخلاق في القرآن عناصر أساسية من الضروري دراستها وتحليلها. من هذه العناصر: الإلزام، المسؤولية، الجزاء، النيّة، والجهد.
1- الإلزام:
إنّ القيمة الأخلاقية تستبطن دائماً عنصراً إلزامياً، لأنّ النفس الإنسانية جُبلت على الإحساس بالخير والشرّ. والقانون الذي يصيغه الإنسان لتنظيم أمرٍ حياتي معيّن قد يُرغِم الناس على الالتزام به، ولكنه لا يستطيع أن يلزمهم إلزاماً أخلاقياً، ومتى ما يصبح الإلزام قهراً فإنّه يفقد بذلك صفته الأخلاقية.
إنّ القرآن يقف بحزم أمام عدوّين من أعداء النفس الإنسانية الخيّرة، هما: هوى النفس، والانقياد الأعمى الذي لا يهدي الإنسان إلى الحقّ. وإنّ الإنسان لا يرتكب ذنباً إذا أخطأ لسهوٍ أو نسيان، ولكن الذنب يسجل على الإنسان عندما ينشئ تصميماً لارتكاب الذنب والمعصية.
والقرآن يردُّ جميع مصادر الشرع إلى الله سبحانه، فالمولى هو مصدر الإلزام في الدرجة الأولى، فلا أحد يستطيع أن يعلم جوهر النفس الإنسانية غير خالقها وبارئها وهو الله.
وقد أكّد القرآن على أنّ الأحكام الشرعية الصادرة من المولى عزّوجلّ، مرتبطة أساساً بالقيمة الأخلاقية، كقانون الحياء الذي يطلب من الرجال والنساء غضّ البصر، وحفظ الفروج، والأمر بإيفاء الكيل، والوزن بالقسطاس المستقيم، والصبر والتقوى، وعفّة الإنسان الذي لا يقدر على تكاليف الزواج، وكتابة الدين وغيرها.
ومع أنّ الإسلام رسالة موجّهة إلى الإنسانية عموماً، إلّا أنّ الأهم أن يُطبِّقها الإنسان على نفسه أوّلاً، ثمّ يبدأ بتطبيقها جماعة مع الآخرين. ومع أنّ القرآن شدد في أحكامه الشرعية على الإلزام الأخلاقي وبيَّن إمكانية المولى عزّوجلّ في إنزال العذاب والهلاك بالناس جميعاً، إلّا أنّه أراد بهذه الأحكام الشرعية رحمة الناس وتيسير الحياة لهم.
إنّ القرآن حاول توضيح الفكرة القائلة بتطابق الواجب كأمر إلزامي مع مفهوم الخير، وهي فكرة تسعى إلى تشكيل أُسس التكامل في الإنسان، فالحرمان في شهر رمضان له قيمة أخلاقية متطابقة مع مفهوم الخير، وكذلك العفو والإنفاق، والدفاع عن النفس ضدّ الظلم حقّ واجب، ولكن التحمل على الأذى والمغفرة أرجى عند الله. ومن حقّ الدائن أن يطالب المدين، ولكن إذا كان المدين مُعدَماً فالأفضل وضع الدَين عن المعسر والتصدُّق به.
وقد أوجدت الشريعة أبواباً كثيرة للتخفيف عن حالات استثنائية أرهقتها صرامة الحُكم الشرعي في العجز والحرج والمرض والسفر وغيرها، فاستثنيت من التكليف استثناءً مؤقتاً أو دائمياً. فقد عفا الله عن العاجزين من ذوي العاهة من فريضة الجهاد، وخفَّف الصلاة أثناء السفر، وأباح للمريض تأجيل صيام شهر رمضان إلى وقت آخر، وأباح التيمم عند تعذُّر الحصول على الماء، وأباح أكل الميتة في المجاعة القاتلة، وغيرها من الحالات.
2- المسؤولية:
وهي الاستعداد الفطري والقدرة بأن يلزم المرء نفسه أوّلاً، وأن يفي بالتزامه ثانياً، فعندما يؤدّي الإنسان عملاً ما لابدّ أن يقدِّم ملفّه وحساباته لصاحب العمل، ليجازيه على عمله وهذه فكرة الجزاء.
إنّ الله سبحانه يُحدِّد المسؤولية العامة للإنسانية، من خلال تحديد الأمانة التي عرضها على الإنسان، وهي الولاية الإلهية، فأبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، لعدم اشتمالها على صلاحية التكليف، فحملها الإنسان.
وتنقسم المسؤولية إلى ثلاثة أقسام: مسؤولية أمام الله وهي المسؤولية الدينية، ومسؤولية أمام النفس وهي المسؤولية الأخلاقية، ومسؤولية أمام الناس وهي المسؤولية الاجتماعية. وطالما أنّ الله هو مصدر الإلزام فهو في نفس الوقت مصدر المسؤولية والجزاء.
وقد مَثَّل القرآن عمل الإنسان بالطوق أو القلادة التي يُعلَّقُ على رقبته، فجعل عمله ملازماً له لا يفارقه إلى يوم القيامة. ومعنى الملازمة أنّ الله قضى أن يقوم كلّ عمل بعامله ويعود إليه خيره وشرّه ونفعه وضرّه من غير أن يُفارقه إلى غيره.
ويُحدِّد القرآن أنّ مسؤولية الإنسان أمام الله مسؤولية فردية لا يتحمّل وزرها إنسان آخر، ولكن هذه المسؤولية شاملة لكلّ أعماله الدنيوية. ومسؤولية الانحراف عن الشريعة، لا يتحمّلها الشخص المنحرف فحسب، بل الشخص الآخر الذي يدعو إلى الانحراف أيضاً.
وهناك تفصيل آخر لفكرة المسؤولية، وهو أنّ الإنسان لن يُحاسَب على فعل ارتكبه، ما لم يكن على علم مسبق بالأحكام الشرعية الصادرة من المولى عزّوجلّ تجاه ذلك الفعل. وقد أوجب الله على نفسه إشعار الناس بأحكام الشرع الحنيف قبل أن يحملهم المسؤولية.
ويُشجِّع القرآن الإنسان على تحمّل المسؤولية الأخلاقية تحمّلاً كاملاً، فيقرر أن خلف الوعد مثلاً عملية غير مقبولة أخلاقياً وشرعياً، ويقرر أنّ جميع الوسائل الموجودة في حياتنا الدنيا لا تستطيع أن تمارس إكراهاً حقيقياً على إرادتنا.
3- الجزاء:
الأصل في المنطق البشري أن يُثاب الإنسان على عمل الخير، ويُعاقب على عمل الشر. والهدف من عبادة الإنسان لله سبحانه وتعالى هو الطهارة والنقاء، والاتصال بالمنبع الشامل لجميع الكمالات، فالله سبحانه لا يريد أن يجعل الإنسان في موقع حرج، بل يُريدُ له من تطبيق الشريعة أن يكون طاهراً زكياً.
ويقسم الجزاء الشرعي إلى: (الحدود)، وهي العقوبات المحددة تحديداً دقيقاً في القرآن، و(التعزيرات) وهي العقوبات المتروكة لتقدير الحاكم الشرعي المتجهد. فالسرقة تحتِّم قطع يد السارق، والسعي في الأرض فساداً بقتل النفس البريئة وسلب المال وقطع الطريق جزاؤه القتل أو الصلب أو قطع الأرجل والأيدي، أو النفي خارج البلد، والزنا جزاؤه الجلد أو الرجم بتفصيل معيّن، والقذف وهو الافتراء كذباً على الآخرين جزاؤه الجلد أيضاً.
أمّا الجزاء الإلهي، فيتلخص بقاعدة تقول: إنّ الباري عزّوجلّ ألزمنا بالطاعة والعمل الصالح وألزم نفسه بالجزاء. وقد يكون الجزاء في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، وقد يكون في كليهما. ومع أنّ الجزاء الأكبر للمؤمنين يوم القيامة هو رضى الله مع نعيم لا يوصف، إلّا أنّ الحياة الدنيا لا تخلو من جزاء نسبي للمؤمنين، بل إنّ الله يدافع عن المؤمنين الذين يدافعون عن دينه، ويجعلهم يوماً المستخلفين على هذه الأرض لقيادة البشرية وتوجيهها نحو طريق الصلاح والرشاد، ويضمن لهم استمرار الهداية الربّانية، ويرشدهم إلى طريق الحقّ، ويمنحهم القوّة على التمييز بين الحقّ والباطل، ويزيدهم هدىً وطمأنينة في إيمانهم.
أمّا جزاء العاصين في الدنيا، فهم هدف لبأسه، ولا يقتصر على عدم هدياتهم، بل إنّه يزيدهم ضلالاً وضياعاً، ويختمُ على قلوبهم ويجعلها قاسية ويصمّهم ويعميهم، ويزيدهم مرضاً، وينسيهم أنفسهم بما نسوا الله خالقهم، ويطيل وقت ضلالهم ويصيب قلوبهم بالنفاق ويتركهم للشيطان.
أمّا الجزاء الأخروي للمؤمنين، فيتلخص بأنّ الله سيغمرهم بالأمن والطمأنينة وعدم الحزن، وعدم الخزي والمغفرة الواسعة، وتكفير السيِّئات، والرحمة الإلهية، والأخوّة الإيمانية فيما بينهم، والحبّ المتبادل والحبور والاستبشار والنور المنتشر بينهم، وحين يصلون إلى الجنّة تستقبلهم الملائكة بقول جميل، وكذلك يضمن لهم الراحة وعدم التعب وعدم اللغو، بل هو السلام المتبادل وتسبيح المولى عزّوجلّ.
أمّا مستقرّهم، فهو في الجنّة التي هي مقام الأبرار، فيها طقس معتدل لا يفسده البرد أو الحرّ، وتخترقها الأنهار وتتفجّر فيها العيون، وهي عيون ذات روائح عطرة فوّاحة. جماعة المؤمنين جماعة ملتئمة من الرجال والنساء والأولاد، أقارب وأحباب، لكلّ منهم زينته وحليته، وقد استندوا في مقاعدهم يتحادثون في سرور، ويستدعون ذكرياتهم البعيدة وهم مستغرقون في سعادتهم، وليس عليهم إلّا أن يأمروا بما يشاؤون، فإنّ في طاعتهم غلماناً يطوفون عليهم يحملون في أيديهم صُحافاً من ذهب وفضّة.
أمّا الجزاء الأخروي للمجرمين، فإنّهم سيحشرون يوم القيامة، وقد حرمهم الله من السمع والبصر والنطق، وحرمهم من النور، وحرمهم من المغفرة والرحمة، وحرمهم من كلّ ما يشتهون، وليس لهم مدافعٌ يدافعُ عنهم، ولن تفتَّح لهم أبواب السماء، بل لن يقبل الله دفاعهم حتى عن أنفسهم. وفي ذلك اليوم، يقف المجرمون ناكسي رؤوسهم، وجوههم مسودة، عابسة، يعلوها الظلام والغبار، وتشهد عليهم أجسامهم وأبدانهم بما كانوا يفعلون، ويجللهم الخزي والعار، ويعرضون أمام الله فيشار لهم شارة الذل، ويأخذون كتابهم بيسارهم، ويظهرون الندامة على ما افتروا في حياتهم، وليس لهم اليوم إلّا أن يعظوا الأنامل أسىً وحسرة.
ويحشر المجرمون يوم القيامة، جياعاً عطاشى، لا يجدون ما يملأ بطونهم أو يروي ظمأهم إلّا الزقوم والماء الحميم، ويصبُّ عليهم من هذا الماء ويشربون منه فيقطّع أمعاءهم، ولا يواجهون إلّا ريحاً محرقة، وظلّ من دخان خادع، وهم موثقون بالقيود في الأعناق والأيدي والأقدام، ومربوطون بالسلسل، يسحبون على وجوههم فيطرحون في النار، لأنّهم وقود جهنّم ليذوقوا عذاباً لا مثيل له، فاللهيب يلفحُ وجوههم ويسلخ جلودهم ويحرقُ لحومهم، وكلّما احترقت جلودهم خلق الله لهم جلوداً أخرى، والملائكة لهم بالمرصاد، يضربونهم بهراوات حديدية..
إنّ الجزاء الإلهي في الآخرة، وإن كان مادّياً جسمياً، إلّا أنّ العذاب الأخلاقي في النار أكثر إيلاماً وأشدُّ وجعاً، فالهدف ليس النار بحد ذاتها، بقدر ما هو الخزي والفضيحة. وكذلك النعيم للمؤمنين، فإنّ رضى الله سبحانه والقرب منه، هو أفضل من حياة الفردوس المادية، فالنعيم الحقيقي هو القرب منه ومرضاته تعالى.
4- النيّة والدوافع:
النيّة هي الحركة التي تدفعها الإرادة لتحقيق أمرٍ أو هدف معين. وللنيّة أهميّتها في العبادات، حتى يقرر القرآن وجوب نيّة القربة إلى الله تعالى في جميع الأعمال التعبُّدية كالصلاة والزكاة والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا عبادة بلا نيّة التقرُّب إلى الله.
ويطلب منّا القرآن أن يكون حضور الذهن موجوداً وقت الصلاة حتى نعلم ما نفعل، ويطلب منّا أن نتعبّد وقلبنا راضٍ ومسرور بالعبادة، لا أن نتعامل مع الصلاة والجهاد تعامل الجمود والكسل، ولا تعامل النفاق وعدم الاقتناع.
إنّ الله لا يرتضي من الإنسان عملاً خارجياً، ما لم يكن هناك عمل باطني فيه إرادة وعزم لتحقيق العمل الخارجي. ويعتبر القلب مركز الإيمان ومصدر النيّة، وقد أبرز القرآن عمل القلب باعتباره عملاً حسناً نابعاً من أعماق النفس.
وأكّد القرآن أنّ الإحسان وعمل الخير يثبت النفس، ويطهرها، وأنّ الله يجازي الإنسان على قدر جهده ومقدار نيّته. وقد يكون أجر العاجز ذي النيّة الخيِّرة نفس أجر العامل النشط.
إنّ خضوع النفس وخشوعها لأمر الله يجب أن يكون نابعاً من الإخلاص والتوجُّه الكامل له، ولا يتمُّ هذا التوجُّه والإخلاص إلّا بالسيطرة على هوى النفس وحبّ الذات أوّلاً، والتحرُّر من التأثير الخارجي وخشية الناس ثانياً، والنتيجة أنّ الله هو الذي يتقبَّل هذا العمل الخالص، بحيث أنّ القرآن صوَّر لنا جانباً مشرقاً عن أخذ الصدقات مثلاً، فالذي يأخذ الصدقات هو الله سبحانه وليس الفقير.
هناك منهجان بخصوص النيّة: منهج النيّة الفاسدة وثمرتها الرياء والنفاق وفساد القلب، وهذا المنهج يهاجمه القرآن مهاجمة شديدة فيعلن أنّ أعمال المرائي أعمال باطلة لا قيمة لها، فالذين يقاتلون من أجل الشجاعة أو من أجل الحمية القبلية والعصبية يبقون دائماً على الهامش، لأنّهم لا يستطيعون أن يعيشوا عمق النظرية الأخلاقية في الإسلام، فهم ليسوا بمجاهدين، وإذا قُتِلُوا فهم ليسوا بشهداء، لأنّ جهادهم لم يكن موجَّهاً لمرضاة الله. أمّا المنهج الثاني فهو منهج النيّة الطيِّبة، والضمير المؤمن، والعمل الصالح، منهج الخوف والرجاء، الخوف من عقاب الله ورجاء رحمته الواسعة، والله يرفع العمل الصالح ولا يضيع أجر المحسنين.
5- الجهد:
الجهد هو استثمار طاقة الإنسان في تحقيق العمل الأخلاقي، فالمعصية لا يمكن تجنُّبها ما لم يُبذَل جهدٌ خاص داخل النفس الإنسانية لردعها عن ذلك الفعل، ولا يمكن أداء التكاليف الشرعية ما لم يُبذَلْ جهد خارجي خاص بذلك.
وقد زوَّد الله الإنسان بملكات قادرة على إعانته بتحقيق الخير، وصاغَ للإنسان نفسه واستودعها فكرتي الخير والشر، وقد حدَّد القرآن صفة إيمان الإنسان بالجهد المبذول من قبله.
والجهد الداخلي، وهو الجهد الذي يبذله الإنسان للسيطرة على هوى النفس، يعتبر جهاداً عظيماً، وقد وعد الله الذين يقهرون شهواتهم بأعظم المنازل في الحياة الدنيا.
أمّا الجهد الخارجي، فهو الجهد البدني الذي يقوم به الإنسان لإنجاز التكاليف الشرعية، أو طلباً للرزق أو سعياً عاماً في الحياة.
وفضَّل الله الجهاد تفضيلاً عظيماً لأنّه عمل مقرون بمرضاته، ولأنّ الجهاد هو الجود بأعزِّ الأشياء لدى الإنسان وهو المال والنفس. وأبرز الجهود المفروض بذلها في العبادات كأداء الصلاة والصيام وإيتاء الزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد المسلح في سبيل الله، والصبر وتحمل الأذى في سبيل الله، ولكنه في نفس الوقت أرادها أن لا تكون عبئاً لا يستطيع الإنسان حمله.
المصدر: كتاب الأخلاق القرآنية/ ج2
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق