◄اهتمت كل المذاهب الاجتماعية على اختلاف ألوانها واتجاهاتها بمسألة تربية الإنسان وصياغة أفكاره وتحديد أنماط سلوكه وانتخاب الأساليب الملائمة لتشكيل شخصيته باتجاه معيّن وفق الصورة التي تؤمن بها.
وقد عالج القرآن الكريم المسائل التربوية بكثير من الاهتمام والوضوح، وركّز على بناء الشخصية الإسلامية المتكاملة التي تتفاعل فيها عوامل التيقن والتدبر والتقوى. وكذلك السعي للوصول بالإنسان إلى مراحل النضج والكمال ليخوض تجربته في الحياة بجدارة واقتدار، باعتبار انّ صياغة المحتوى الداخلي للإنسان هي الأساس لعملية التغيير الاجتماعي، والقاعدة التي تستند عليها كل المظاهر الخارجية والأبنية العلوية، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).
أما إذا كانت عملية التربية تستهدف المظاهر والقشور الخارجية ولا تنفذ إلى القلب وأعماق الروح، فإنّها ستتحول إلى مجرد تصورات وكلمات وألفاظ جوفاء بلا مضمون أو محتوى. قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة/ 204-205).
وتستهدف عملية التربية في المفهوم القرآني بناء الجانب الخيّر في الإنسان، وحذف مظاهر السلبية والانحراف والفساد من حياته، وتوجيه طاقاته نحو الخير والبناء والإعمار، بعد تعريف الإنسان بربه الكريم تعريفاً يقوم على أساس من الفهم والمنطق السليم، وتوضيح طبيعة وكنه هذا العالم الهائل المترامي الأطراف وتفسير جوهر الحياة الدنيا والغايات الكامنة وراءها، من أجل أن يدرك دوره على هذه الأرض وواجباته المستحقة عليه وحقوقه المترتبة له.
تستهدف عملية التربية في المفهوم القرآني بناء الجانب الخيّر في الإنسان، وحذف مظاهر السلبية والإنحراف والفساد من حياته، وتوجيه طاقاته نحو الخير والبناء والإعمار. بعد تعريف الإنسان بربِّه الكريم تعريفاً يقوم على أساس من الفهم والمنطق السليم.
وينطلق منهج التربية في القرآن الكريم من حقيقة انّ كلّ إنسان يولد على الفطرة، وانّه يمتلك في نفسه الأرضية الصالحة التي تعينه على فعل الخيرات واجتناب المعاصي والآثام (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30).
لذلك فقد عمل الإسلام على إبقاء فطرة الإنسان نقية سليمة، وتوفير الأجواء المناسبة من أجل أن يختار سبيل الصلاح والرشاد، لأنّ الإنسان على خلاف كل المخلوقات الأخرى يملك قوة واعية مدركة قادرة على التشخيص والاختيار، وهو مسؤول عن هذا الاختيار ويجازى عليه ويحاسب عليه، وهو يستطيع أن يستخدم هذه القوة لتنمية استعدادات الخير في نفسه، كما انّ له الحرية أيضاً في الإنسياق وراء الشر والإلتحاق بجموع الضلال، والسقوط في هاوية الشذوذ والإنحراف.
قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10)، (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَجْدَين) (البلد/ 4-10)، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41)، (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة/ 14-15).
فقد رفع الله من قيمة الإنسان حين جعله أهلاً لإحتمال تبعة أعماله، ووضعه في المكان الذي يليق به كمخلوق نفخ فيه من روحه، وفضّله على العالمين. قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70).
لذا فإن مسألة التربية تتعلق في جزء كبير منها بالإنسان نفسه، فقد فاز من نجح في ترويض ذاته وإصلاحها وإبعادها عن مواطن المعصية والجريمة، فيما خسر كل من تركها عرضة لإهواء الشيطان وإغراءاته ووساوسه يقودها كيفما أراد، وأنى رغب أو شاء.
وبما انّ الإنسان مسؤول عن نفسه، وعن تهذيبها وتخليصها مما قد يعلق بها من شوائب وأدران، فإنّه لابدّ أن يحتاج إلى دليل عمل وثقافة ومعرفة تعينه على الثبات والإستقامة، ومواصلة الطريق الصعب رغم كل المزالق والعقبات، وهذا الدليل هو القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، وفيه تبيان لكل شيء وهو هدى ورحمة وبشرى للمسلمين. قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء/ 9)، (يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل/ 89)، (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم/ 1). وعلى ذلك فإن ثقافة القرآن هي العامل الأساسي في تربية الإنسان المسلم، فهي ليست مجرد معارف يحصل عليها الإنسان من أجل الترف الفكري، انما جملة من الأمور والخطوط العامة التي تمكّن الإنسان من استيعاب الحياة وكيفية العيش فيها، والتي تشذب سلوكه وترسم له معالم الصراط المستقيم. ولم تقتصر المفاهيم القرآنية التربوية على المسائل النظرية والتوضيح والتوجيه فحسب، وانما طلبت من الإنسان استقراء الحوادث التاريخية، والإستفادة من تجارب الآخرين والتعلم من أخطائهم وعثراتهم، ودعا القرآن الكريم الإنسان إلى التأمل في المصائر التي آلت إليها الأقوام السابقة من الذين مضت فيهم سنة الأوّلين لإستخلاص النتائج والعبر ومن ثمّ مواصلة المسيرة على هدى وبصيرة. قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمد/ 10)، (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 45-46).
بما انّ الأسرة هي وحدة بناء المجتمع البشري وخليته الأساسية، فقد اعتنى القرآن بتربية أفرادها وإشاعة الأجواء الصحية في أرجائها، وعهد إلى ربّ الأسرة بمسؤولية تربية الأبناء وبشكل خاص في مرحلة الطفولة.
وبيّن القرآن الكريم للإنسان المسلم المثل الأعلى الذي عليه أن يتشبه به ويقترب منه، وذلك لأنّ الإشارة إلى النموذج والقدوة يمنح المفهوم مثلاً حسياً ملموساً وقوة حركية تجسّد الأفكار على صعيد الواقع والعمل، وتتمثل القدوة بالرسول الأكرم محمد (ص) الذي هو مثال للشخصية الإنسانية المتكاملة التي تتصف بكل الخصائص النبيلة السامية كالصدق والشجاعة والثبات والروح الحانية الحلوة الكريمة. قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21).
وبما انّ الأسرة هي وحدة بناء المجتمع البشري وخليته الأساسية، فقد اعتنى القرآن بتربية أفرادها وإشاعة الأجواء الصحية في أرجائها، وعهد إلى ربّ الأسرة بمسؤولية تربية الأبناء وبشكل خاص في مرحلة الطفولة. فالإنسان لم يخلق للعذاب والشقاء، وانما للسعادة والنعيم ولن يكون ذلك إلا بمعرفة الله سبحانه والسير على نهجه القويم، لذا أكّد القرآن على أنّ تربية الأبناء مهمة خطيرة على الأب أن يضطلع بها، وانّ إهمال مثل هذه القضية الحيوية والتغافل عنها، قد يجره وأهله إلى هاوية الخزي والنار. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم/ 6).
وقد تكون التربية مسؤولية جماعية حيث حرص القرآن الكريم على تحفيز العناصر الخيّرة في الأُمّة، إلى مهاجمة المنكر وإزالة آثاره من صفحة الوجود، وطلب من الطليعة المؤمنة أن تقف يقظة حذرة تجاه أيّة بدعة، وكل ما يخلّ بالنظام السليم للحياة الاجتماعية والاستمرار في نفس الوقت، بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والإحسان.
قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104)، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71).
ولعل أبرز ما يمتاز به منهج التربية في الإسلام هو اهتمامه بمختلف النواحي المادية والروحية فهو منهج شامل للجسم والروح وللعقل والعاطفة، يهدف إلى إنتاج أجيال سليمة من الناحيتين النفسية والبدنية، مع تربية الغرائز الإنسانية كغريزة الجنس والتملك والاجتماع، وحب العلم بإعطائها حقها المشروع وحمايتها من مظاهر الشذوذ والإنحراف والحرمان. قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77).
وقد ذمّ القرآن محاربة الجسد وحرمانه من الطعام والشراب وباقي المتع المحللة، كما فعل المترهبون والمتصوفة، ممن يعتقدون انّ محاربة الجسد وتعذيبه بالجوع والعطش يقوي الملكات الروحية والأخلاقية، حيث وصف القرآن الكريم النعم التي أخرجها الباري لعباده بالطيبات من الرزق، يتمتعون بها في الحياة الدنيا وهي خالصة للمؤمنين في الدار الآخرة. (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32).
كما يركز القرآن في نفس المسلم ضرورة البحث والتأمل في مختلف فروع الحياة حتى يواصل الإنسان مسيرته التصاعدية وكدحه المستمر إلى ربه وبارئه. قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 9)، (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية/ 13).
وهكذا يفتح الإسلام الآفاق الرحبة أمام الإنسان، ويوفر له كل مستلزمات السير في طريق النور والرشاد ويدعوه إلى الترقي في مدارج العلم والكمال، فيما يملك الإنسان بدوره الوسائل الكافية للتلقي والاستجابة ودرك الأشياء والحكم عليها، ومن ثمّ فإنّه يجتاز الابتلاء وفق ما يريد ويختار.
لعل أبرز ما يمتاز به منهج التربية في الإسلام هو اهتمامه بمختلف النواحي المادية والروحية فهو منهج شامل للجسم والروح وللعقل والعاطفة، يهدف إلى إنتاج أجيال سليمة من الناحيتين النفسية والبدنية، مع تربية الغرائز الإنسانية كغريزة الجنس والتملك والاجتماع، وحب العلم بإعطائها حقها المشروع وحمايتها من مظاهر الشذوذ والإنحراف والحرمان.
المصدر: مجلة الطاهرة/ العدد 192 لسنة 2008م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق