• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

شخصية المرأة في حركة الحياة ودورها الفاعل

العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله

شخصية المرأة في حركة الحياة ودورها الفاعل
لا يزال موضوع "المرأة في الإسلام" موضع حديث المفكرين الإسلاميين الذين يعملون على تحديد شخصية المرأة ودورها، في الفكر الإسلامي والشريعة الإسلامية، من أجل إعطاء الصورة المشرقة التي تتمثل في نظرة الإسلام إلى إنسانيتها الأصيلة، من حيث القيم الروحية والإنسانية في عالمي الدنيا والآخرة. والحديث، في هذا الموضوع، يتفرع إلى مسائل عديدة، منها: شخصية المرأة وطبيعتها وإيمانها ودورها الفاعل في النشاط الديني وخط الدعوة، أو الحركة الجهادية، في ساحة الصراع، والانفتاح العلمي وحركة الثقافة، ونحو ذلك... ويتم هذا الحديث من خلال بعض الكلمات المأثورة، ومن خلال النظرة الفقهية السائدة لدى الفقهاء.   السبيل الأفضل للوصول إلى نتائج متوازنة: وقبل الدخول، في هذا الحديث، لابدّ من إثارة سؤال يتناول طريقة بحث بعض هذه المسائل. والسؤال هو: هل السبيل إلى اكتشاف شخصية المرأة وعقلها وإيمانها إلخ... يتمثل في النصوص الدينية أو في دراسة عناصر شخصية المرأة الذاتية من خلال حركة وجودها في الواقع الحي، وفي مستوى إنفتاحها على الآفاق العلمية، من حيث عمق الفكر وسعته، وفي طبيعة رؤيتها للأشياء من حولها، من حيث سلامة الرأي وصدق النظرة إلى الأمور، وفي نوعية التزامها الداخلي بالعقيدة في خط الارتباط بالإيمان بالله ورسله وكتبه وشرائعه، والتزامها الخارجي في خطّ العمل والمعاناة والمراقبة لله في دائرة التقوى الروحية والفكرية في ذلك كله... وفي قدرتها على مواجهة التحديات في الصراع الفكري في ساحة الدعوة، أو في مواجهة المشاكل الواقعية في ساحة الجهاد. إننا نعتقد أنّ الدراسة التي تتم على مستوى الاستغراق في الواقع الإنساني للمرأة، كما هو الواقع الإنساني للرجل هي السبيل الأفضل للوصول إلى النتائج المتوازنة. ننجز ذلك، ثمّ ندخل إلى فهم النصوص، وعلى أساس ذلك نتعرف إلى طبيعة الظروف التي تحركت النصوص فيها، والنظرة التي انطلقت منها، فلعلنا نجد بعض القرائن التي تصرف النص عن ظاهره ليكون له تفسير آخر لا يختلف عن الواقع الخارجي أو لنكشف عدم سلامة الحديث بسبب مخالفته للأصول الثابتة للعقيدة، الأمر الذي يجعله مخالفاً للضرورة الدينية المستقاة من الكتاب والسنة، ونحو ذلك.   نماذج متعددة لتفوق المرأة: وفي ضوء ما سبق نلاحظ، في المقارنة بين الرجل والمرأة اللذين يعيشان في ظروف ثقافية واجتماعية وسياسية متشابهة، انّه من الصعب التمييز بينهما، إذ ليس من الضروري أن يكون وعي الرجل للمسألة الثقافية والاجتماعية والسياسية أكثر من وعي المرأة لها، بل قد نجد نماذج متعددة لتفوق المرأة على الرجل في سعة النظرة، ودقة الفكر، وعمق الوعي، ووضوح الرؤية، وذلك من خلال ملاحظة بعض العناصر الداخلية أو الخارجية المميزة لها بشكل خاص، وهذا ما نلاحظه في بعض التجارب التأريخية التي عاشت فيها بعض النساء في ظروف متوازنة من خلال الظروف الملائمة لنشأتها العقلية والثقافية والاجتماعية فقد استطاعت أن تؤكد موقعها الفاعل ومواقفها الثابتة المرتكزة إلى قاعدة الفكر والإيمان. وهذا ما حدثنا الله عنه في شخصية مريم، وامرأة فرعون، وما حدثنا التأريخ عنه في شخصية خديجة الكبرى أم المؤمنين – رضي الله عنها – وفاطمة الزهراء (ع) والسيدة زينب ابنة علي (ع). إنّ المواقف التي تمثلت، في حياة هؤلاء النسوة العظيمات تؤكِّد الوعي الكامل المنفتح على القضايا الكبرى التي ملأت حياتهنّ على مستوى حركة القوة في الوعي والمسؤولية والمواجهة للتحديات المحيطة بهنّ في الساحة العامة. وقد يملك الإنسان أن يفرق بأيّة ميزة عقلية، أو إيمانية في القضايا المشتركة بينهنّ وبين الرجال الذين عاشوا في مرحلتهنّ. وإذا كان بعض الناس يتحدث عن بعض الخصوصيات غير العادية في شخصيات هؤلاء النساء، فإننا لا نجد هناك خصوصية إلا الظروف الطبيعية[1] التي كفلت لهنّ إمكانات النمو الروحي والعقلي والالتزام العملي بالمستوى الذي تتوازن فيه عناصر الشخصية بشكل طبيعي في مسألة النمو الذاتي. ولا نستطيع إطلاق الحديث المسؤول القائل بوجود عناصر غيبية مميزة تخرجهنّ عن مستوى المرأة العادي، لأنّ ذلك لا يخضع لأي إثبات قطعي، مع ملاحظة أنّ الله سبحانه وتعالى تحدث عن اصطفاء إحدى النساء، وهي مريم (ع)، من خلال الروحانية التي تميزها والسلوك المستقيم في طاعتها لله. وهذا واضح في ما قصّه الله من ملامح شخصيتها، عندما كفلها زكريا، وعندما واجهت الموقف الصعب في حملها لعيسى (ع)، وفي ولادتها له. وإذا كان الله قد وجهها من خلال الروح الذي أرسله إليها فإنّ ذلك لا يمثل حالة غيبيّة[2] في الذات بل يمثل لطفاً[3] إلهياً في التوجيه العملي والتثبيت الروحي، على أساس ممارستها الطبيعي للموقف في هذا الخط من خلال عناصر الشخصية الإنسانية التي كانت تعاني من نقاط الضعف الإنساني في داخلها، تماماً كما هي المسألة في الرجل في الحالات المماثلة.. وهذا يعني أنّنا لا نجد فرقاً بين الرجل والمرأة عند تعرض أي منهما للتجربة القاسية في الموقف الذي يرفضه المجتمع من دون أن يملك فيه أي عذر معقول، الأمر الذي يخرج فيه الموقف عن القائمة المتمثلة فيه من حيث القيمة الاجتماعية السلبية في دائرة الانحراف الأخلاقي.   ملكة سبأ نموذج من القصص القرآني: وعندما ندرس التاريخ في القصص القرآني، وفي جانب آخر غير الجانب الإيماني، فإننا نجد شخصية ملكة سبأ في ما قصّه القرآن الكريم علينا من أمرها، وفي حوارها مع قومها عند وصول رسالة سليمان إليها، فقد جمعت قومها لتستشيرهم في الموقف الذي يجب أن تتخذه من تهديد سليمان لها ولقومها ونوعية الرد الذي ترد به على الرسالة، ولعل هذا اللجوء إلى الاستشارة يوحي بوجود عقل راجح تتميز به شخصيتها، وهو ما يجعلها لا تعطي الرأي الذي تملك إقراره من موقعها كملكة، إلا بعد استشارة أهل الرأي من قومها فيه. وهذا ما حدّثنا الله عنه، في سورة النمل: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ) (النمل/ 29-32)، وهكذا أرادت من رجال قومها أن يقدّموا الفتوى السياسية التي تعينها على استيضاح الموقف الذي ينبغي لها أن تتخذه في المسألة الخطيرة، ولكنهم ارجعوا إليها الأمر، لترى رأيها، وذلك ثقة منهم برجاحة عقلها وصواب رأيها. ولهذا جعلوها صاحبة القرار الأوّل والأخير.. أما دورهم فانحصر في تنفيذ أوامرها في ما يملكونه من القوة والبأس الشديد في مواجهة كل التحديات التي يطلقها الملوك الآخرون ضد سلطانها ومواقع الحرية في حياتهم. (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (النمل/ 33-35)، وكان رأيها عاقلاً متزناً يرتكز إلى حسابات دقيقة توصل إلى الحل الأفضل للمشكلة التي لا تكون القوة السبيل الأمثل لمعالجتها. فلابدّ، كما رأت الملكة، من دراسة شخصية سليمان والإجابة عن الأسئلة التالية: هل هو ملك يهدف إلى السيطرة الغاشمة التي تلغي وجود الآخرين وحرِّيتهم في اتخاذ قرارهم وتفسد عليهم حياتهم، وتفرض عليهم الذل في واقعهم المعاش كبقية الملوك الذين يتميزون بهذه الخصائص الشريرة؟ وفي هذه الحالة لابدّ من دراسة المسألة من حيث إمكانات الحل السلمي، وتقدير جم قوته، وهل تستطيع مواجهته أم لا؟ وهل هو داعية حق ورسول هدى يمكن الدخول في حوار معه في القضايا التي يدعو إليها؟. واستقر رأيها على أن ترسل إليه هدية لترى الجوانب في مضمونه السلمي أو الحربي، القوي أو الضعيف، فلو كان ملكاً لأمكن للهدية أن تجتذبه إذا كان حجمها كبيراً، أو تثيره إذا كانت أهدافه كبيرة في غير هذا المستوى، وإذا كان داعية حق فلا يتنازل تحت تأثير أي شيء مادّي مهما كان كبيراً. وهكذا فعلت في قرارها الحاسم الذي اتخذته، وهو قرار يدلّ على شخصية عاقلة متزنة تحسب للأمور حساباتها الدقيقة، قبل أن تتخذ أي قرار، وتعمل على أساس استنطاق عقلها بدلاً من استشارة عاطفتها وانفعالاتها، لا سيما إذا كانت تملك الوسائل التي تمنح هذا الانفعال القاسي فاعليته في القضية التي تهدد عرشها، من خلال قوّة قومها وبأسهم الشديد. إنّ القرآن يقدم لنا المرأة، في صورة ملكة سبأ، إنسانة تملك عقلها، ولا تخضع لعاطفتها، لأنّ مسؤوليتها استطاعت إنضاج تجربتها وتقوية عقلها حتى أصبحت في مستوى يمكنها من أن تحكم الرجال الذين رأوا فيها الشخصية القوية العاقلة القادرة على إدارة شؤونهم العامة. ويدلّ استنطاق هذه الصورة على إمكانية انتصار المرأة على عوامل الضعف الأنثوي الذي قد يؤثر تأثيراً سلبياً على طريقتها في التفكير، وعلى إتخاذها المواقف وإدارتها للأمور، الأمر الذي يوحي بأنّ الضعف ليس قدرها الذي لا تستطيع التخلص منه. وهكذا كانت نهاية المطاف أن دخلت في الإسلام مع سليمان، بعد أن أقتنعت بذلك من خلال المعجزة التي نقلت عرشها إلى موقعه، أو من خلال الحوار الذي دار بينها وبينه، الأمر الذي يضيف دليلاً جديداً إلى فكرتنا عن المرأة القائلة بأنها قادرة على أن تقرر وتلتزم وتنتمي من خلال الفكر الخاضع للحسابات الدقيقة التي قد لا يملكها الكثيرون من الرجال.   امرأة فرعون نموذج آخر: ولابد من التوقف عند شخصية امرأة فرعون التي كانت تعيش في القمة من الجاه والنعيم. ولكنها تمرّدت على ذلك كله، لأنها لم تنفتح – من خلال إيمانها – على هذه الحياة المستكبرة اللاهية الطاغية التي تعيش، من ناحية أولى، الأثرة والأنانية والطغيان في ما تتلهى به من آلام المستضعفين وجوع الجائعين، وتعيش، من ناحية ثانية، التمرد على الله والبعد عن مواقع الخير في حياة الناس... كانت امرأة فرعون تحب أن تعيش إيمانها في إنسانيتها، ولكنها لا تجد أيّة فرصة للقيام بذلك، لأنّ زوجها كان يملأ الحياة من حولها بكل ما هو غير إنساني في اضطهاده للمستضعفين هناك... وهكذا انطلقت صرختها إلى الله لتعبّر عن رفضها الروحي والعقلي لكل ما حولها، وتطلب من الله أن يقويها في موقعها العملي، ليكون التحدي في موقفها أكبر ليبني لها بيتاً في الجنة تتطلع إليه في أحلامها الإيمانية، كلما زحفت إلى مشاعرها نقاط الضعف التي قد تعمل على أن تزلزل مواقعها ومواقفها... ولينجيها من فرعون وعمله لأنها لا تطيق شخصيته المشوهة وعمله الاستكباري، ولينجيها من القوم الظالمين الذين يحيطون به، ليتزلفوا إليه ويدعموا ظلمه ويتحركوا – في ساحته – من أجل أن يكون الظالمون الصغار في خدمة الظالم الكبير. وهكذا ضرب الله قصتها مثلاً للمؤمنين والمؤمنات، لتكون القدوة لهم والأنموذج الأمثل للقوة الإيمانية الإنسانية المتمردة على سلطان الظلم بكل إغراءاته وملذاته. كما ضرب الله مريم – من بعدها – لهم مثلاً في الصفة الأخلاقية في مستوى القيمة، كما كانت الأنموذج الأمثل في التصديق بكلمات ربها وكتبه، وفي القنوت الخاشع لله في حياتها كلها حتى كانت حياتها صلاة كلها... وهذا ما جاء في قول الله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم/ 11-12).   الهامش:
[1]- المقصود بذلك بما يختص بالسيدة فاطمة الزهراء (ع) هو أجواء البيت الرسالي الذي كان النبيّ محمد (ص) يرعاها وينميها فيه بأخلاقه الرسولية وروحيته الصافية النقية في آفاق السمو الروحي المنفتح على الوحي الذي اختزنته في عقلها وقلبها وروحها فكانت الإنسانية المسلمة التي عاشت الإسلام كله في ينابيعه المتفجرة من روح أبيها (ص) فكراً وعاطفةً وسلوكاً. [2]- المقصود من الكلمة انها كانت تتحرك في روحيتها من موقع إرادتها واختيارها وعصمتها المنفتحة على اللطف الإلهي لا من موقع الغيب الذي يحركها بغير اختيار.

[3]- إشارة إلى العصمة التي يمنحها الله لأوليائه من خلال لطفه.

       المصدر: كتاب تأمُّلات إسلامية

ارسال التعليق

Top