قال أبو رفاعة: انتهيت إلى النبيّ (ص) وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه. قال: فأقبل عليّ رسول الله (ص) وترك خطبته حتى انتهى إليّ، فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً. قال: فقعد عليه رسول الله (ص) وجعل يعلمني مما علمه الله، ثمّ أتى خطبته فأتم آخرها. رواه مسلم.
هذا هو رسول الله (ص) يقود المصلحين المسلمين إلى أنجح الطرق وأقومها؛ للوصول إلى غايتهم في الإعلام بأحكام الإسلام وإصلاح المجتمعات الإسلامية، فقد اهتم الإسلام بتربية الإنسان منذ ولادته، وتعهده بالإرشاد والتوجيه إلى أفضل الخصال في فترات حياته المتعاقبة؛ لأنّ الإنسان دائماً في حاجة إلى تهذيب وتربية – كما قيل – من المهد إلى اللحد.
والإسلام في تربيته للمسلمين إنما يتبع طريق التربية الدائمة المستقرة، المبسطة التي لا تكلف فيها أو تعمق وقد جاءت تعاليمه بالدواء المناسب لكلِّ داء.
وهذا الحديث الشريف يدلنا – كما قال النووي (رحمه الله) – على تواضع رسول الله (ص) ورفقه بالمسلمين، وشفقته عليهم ومبادرته إلى جواب المستفتي حتى يعلم ويتعلم ما يجهله من أمور دينه، وذلك ما يجب على علماء المسلمين أن يبادروا إليه اقتداء برسول الله (ص)، فقد ترك خطبته ومكانه ونزل إلى حيث قعد هذا المستفتي وما زال به حتى علمه، ما سأل عن من أمور الإسلام.
وقدوتنا رسول الله (ص) في طريقة تعليم الجاهل وإرشاده بالرحمة واللين، دون قسوة أو إساءة نرى ذلك واضحاً حين بال أعرابي في المسجد، فانتهره الناس، فنهاهم رسول الله (ص) وقال: اتركوه. حتى إذا ما انتهى الرجل من بوله دعاه، وقال له برفق: "إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا القذر، إنما بنيت للصلاة والذكر والدعاء".
وقال للناس: "إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل له راحلة انفلتت منه، فذهب الناس في طلبها شرعاً من كلِّ جانب فلم يزدها ذلك إلا نفوراً، فقال صاحبها للناس: دعوني وراحلتي فلم يزل يناديها ويأخذ من نبات الأرض ليعطيها فلم يزل كذلك حتى أخذ بزمامها". رواه مسلم.
ومن طرق التربية الفاضلة والتوجيه الرشيد الذي سلكه رسول الله (ص) أنّه ما كان يذكر من أخطأ وإنما ينهى عما فعل وارتكب من إثم بقوله للناس: "ما بال أقوام يفعلون كذا.. وكذا" ونستفيد في سلوكنا ومعاملتنا أمرين من هذا الصنيع: أوّلهما: أنّ من اخطأ يعرف خطأه فيرجع عنه دون أن نشهر به بين الناس وعلى ملأ من الأشهاد، فيتحرج، وربما دفعه هذا إلى الاستمرار في هذا الفعل السيئ الذي ارتكبه. الأمر الآخر: إظهار الحكم الشرعي للجميع في ذلك الأمر، وهو المقصود أصلاً إذ لابدّ أن يعرف الحكم كلّ فرد من الحاضرين على نحو قول الرسول (ص) في مثل هذا: "ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله" وقوله: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأكثرهم لله خشية" متفق عليهما.
ومن هذا القبيل أيضاً ما روي أنّ واحداً من عمال جمع الصدقات جاء، فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي. فقام رسول الله (ص) وصعد المنبر وحمد الله، وقال: "أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت إليّ. أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه، إلا لقي الله – تعالى – يحمله يوم القيامة" متفق عليه.
وهذا الحديث موجه إلى المسلمين موجه إلى المسلمين عامة وليس حكماً خاصّاً، وهو يقول لولاة الأمر والقائمين على أموال المسلمين أو ما نسميه بالمال العام: إنّ هذه الأموال ليست حقّاً لمن يجمعها، كما أنها ليست حقّاً خالصاً لولي الأمر لكي يتسامح فيها، وإنما هي للمسلمين جميعاً، ومن ثمّ وقف رسول الله (ص) موقفاً حازماً ليرتدع المخطئ عن خطئه، وليكون عبرة لغيره من العاملين المسؤولين، فلا يعمد أحد إلى الانتفاع بموقعه في العمل واستغلال وظيفته باستهداء الناس والمتعاملين معه، أرأيتم كيف تنوعت تربية الرسول للناس وإصلاحه لأخطائهم؟
نعم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (الأحزاب/ 21).
المصدر: كتاب منهج الإسلام في التربية والإصلاح
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق