• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التوازن في التوجه إلى الدنيا والآخرة

أ. د. الشيخ محمد رضا رضوان طلب

التوازن في التوجه إلى الدنيا والآخرة

يقول القرآن الكريم في هذا المجال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77)، ونقرأ في رواية: يقول لقمان لولده: "يا بني لا تدخل في الدنيا دخولاً يغير بآخرتك ولا تتركها تركاً تكون كلاً على الناس"1.
روى عن النبي (ص) قال: "أعظم الناس همّاً المؤمن يهتمّ بأمر دنياه وآخرته"2.

- التوازن في الرجاء إلى الله:
يقول الله سبحانه وتعالى في التوازن بين الخوف والرجاء: (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه) (الزمر/9) ونقرأ في رواية: "خير الأعمال اعتدال الرجاء والخوف"3 ويقول لقمان (ع) لولده: "يا بني كن ذا قلبين، قلب يخاف الله خوفاً لا يخالطه تفريط وقلب ترجو به رجاءً لا يخالطه تغرير"4.

- التوازن في العبادة:
يقول سبحانه وتعالى: (لا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً) (الإسراء/110) يقول النبي (ص): "ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليعقد"5.
جاء في رواية أخرى: "دع الطواف وأنت تشتهيه"6 وفي الفقه الإسلامي فُتح باب تحت عنوان "عدم جواز الافراط في إطالة صلاة الجماعة" حيث يوصي أئمة الجماعات، اختيار منهج الوسطية مستدلاً بروايات أئمة الدين المختلفة.

- التوازن في الكلام:
يقول الله عزّ جلّ: (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا) (النساء/ 5)، وجاء في رواية أخرى: "الاكثار يزلّ الحكيم ويملّ الحليم فلا تكثر فتضجر وتفرط فتهنّ"7 وجاء في كلام آخر: "الكلام كالدواء قليله ينفع وكثيره قاتل"8.
رغم انّ الشعراء يكرّمون في الثقافة الإسلامية لكنّا نجد في الكتب الفقهية باباً تحت عنوان: "كراهية الإفراط في إنشاء الشعر" حيث يُوصى بالاعتدال في خلق الأثر الفني والأدبي.

- التوازن في الوعظ:
يوصى الوعّاظ ومرشدو الأخلاق برعاية الاعتدال في وعظهم. يقول النبي (ص): "ادعوا الناس وبشّروا ولا تنفروا ويسّروا ولا تعسروا"9، ويقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) في حديث آخر: "الفقيه كل الفقيه من لم يقنّط الناس من رحمة الله ولم يؤيسهم من روح الله ولم يؤمنهم من مكر الله"10.
عدم تعيين كمّية الانتقاد أو التضحية من منظار علم النفس ينتجُ اللجاجة والنفرة ويؤدي إلى ردّ فعل سيّئ من قبل المخاطب.
جاء في رواية: "الافراط في الملامة يشب ميزان اللجاجة"11.

- التوازن في الصرامة واللين:
إنّ مجموع الأصول التي يقدّمها الإسلام كمناهج إدارية تستطيع أن تكون أسوةً ونموذجاً للإدارة الناجحة. منها رعاية الاعتدال والوسطية في الصرامة ومرافقة الموظفين حيث عُبّر عنه بـ"حزماً في لين". روي عن النبي (ص):" انّ المؤمن تراه، قوة في دين وحزماً في لين"12. جاء نفس المضمون بلسان المناجاة والدعاء: "اللّهمّ إني اسألك حزما في لين".

- التوازن في الخصام والتصالح:
يقول القرآن الكريم: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة/ 229)، وجاء في رواية عن الإمام علي بن أبي طالب (ع): "احبب حبيبك هوناً ما... وابغض بغيضك هوناً ما"13.

- التوازن في النفقات والإنفاق:
يقول القرآن الكريم: (لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29)، وفي آية أخرى جاء حول كيفية دفع نفقات الزوجات: (عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة/ 233)، وقال النبي (ص): "الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة"14.
التوازن في الإناقة والسذاجة: فإنّ النبي (ص) نهى ان يلبس الثياب الحسنة التي ينظر إليه فيها أو الدنية أو الرثة التي يُنظر إليه فيها وقال أمراً بين الأمرين وخير الأمور أوسطها"15.

- التوازن في تربية الأولاد:
جاء في رواية حول الإدارة التربوية للأولاد: "شر الآباء من دعاه البر إلى الإفراط وشر الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق"16.

- التوازن في التعامل مع الزوجة:
القرآن الكريم يدعو الجميع إلى رعاية التوازن في التصرفات مع الزوجة وذلك باستعمال كلمة "المعروف" في الآيات المختلفة: (عاشروهنّ بالمعروف) (النساء/19) (ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف) (البقرة/228).
يؤكد القرآن الكريم على رعاية الإعتدال في العيش المشترك وفي دفع المهر وتوفير الأغذية والحوائج اليومية وتنظيم منهج الحياة.

- التوازن في المزاح:
لاشكّ انّ الفرح والمزاح يعتبران من عوامل الإفادة والإستغلال في العمل وبالمقابل المزاج البارد يؤدي إلى الانكماش والتباطؤ في العمل ولكن وُضع حدّ له في النظام التربوي الإسلامي.
يقول محي الدين النووي في هذا المجال: "المزاج بحق ولكن لا يكثر منه فإنّ الإفراط فيه والاكثار منه مذمومان"17.
يعتقد الفقهاء الإسلاميون "تردّ شهادة من افرط في المزاح والحكايات المضحكة"18.
التوازن في الزهد والتقوى:
بعض الناس يتجهون نحو الدنيا بالتحمس والحب ولا يعرفون إلا الشهوة واللذة والرفاهية في المتع الدنيوية والبعض يختارون العزلة والتبتّل.
إنّ الإسلام نظم توجهاً متوازناً في هذا المجال ويستنكر حالتي (الافراط والتفريط).
يقول سبحانه وتعالى للنبي (ص): (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) (التحريم/1) ويقول النبي (ص):"أما والله اني اتقاكم لله واخشاكم له لكن أصوم افطر واصلّي وارقد واتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"19.
قال الإمام علي (ع) لعاصم بن زياد الذي اختار العزلة والجلوس في الصومعة تاركاً المتع الدنيوية:"أ ترى أحل الله لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها"20.
النتيجة:
إن التوازن رمز للتكامل والسعادة فيجميع شؤون الحياة والطريق الوحيد لتوفير الوحدة الإسلامية ورفع مكانة الأمة الإسلامية والحفاظ على تضامن الأمة هو تنظيم منهج التوازن واحتواء الافراط وطرد التوجهات المتطرفة في القضايا النظرية والعملية.
وهذا ليس بمعنى العدول عن مواضيع الحق أو إهمال القيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الهوامش:
1- بحار الأنوار، 73/124.
2- كنز العمال 1/144.
3- عيون الحكم والمواعظ ص240.
4- تنبيه الخواطر ص 41.
5- كنز العمال/ 3/37.
6- الحدائق الناظرة، 16/255.
7- غرر الحكم رواية 2009.
8- غرر الحكم.
9- كنزل العمال، 3/29.
10- نهج البلاغة، حكمة 90.
11- عيون الحكم والمواعظ ص 22.
12- مناقب خديجة الكبرى، ص 40.
13- نهج البلاغة، حكمة 268.
14- مجمع الزوائد، 1/160.
15- السنن الكبرى للبيهقي، 3/273.
16- تاريخ يعقوبي، 2/320.
17- المجموع، 4/653.
18- كشف اللثام، 2/374.
19- كنزل العمال، 3/30.
20- نهج البلاغة، خطبة 209.

المصدر: مجلة رسالة التقريب/ العدد 72 لسنة 2009

ارسال التعليق

Top