◄اليوم، ثمّة ضرورات عديدة للتفاهم والتواصل الحضاري بين الغرب والعالم الإسلامي. وذلك لأنّ وجود فجوات معرفية وسياسية واقتصادية بين الطرفين، لا يهددهما لوحدهما، وإنّما يهدد العالم بأسره.
لذلك هناك ضرورة شاخصة لانطلاق حوار حقيقي بين الغرب والعالم الإسلامي، يستهدف الفهم المتبادل وخلق المساحة المشتركة القادرة على إنجاز مفهوم التفاهم والتواصل الحضاري بين الطرفين. ووجود أزمات خانقة في العالم الإسلامي، اشترك الغرب في صنعها بشكل أو بآخر، لا يبرر استمرار حالة الجفاء وغياب أُطر الحوار والتفاهم بين الغرب والعالم الإسلامي. ووجود مآخذ حضارية عند كلّ طرف على الآخر، لا يسوّغ أيضاً غياب مؤسّسات الحوار والتفاهم بين الطرفين.
لا يشترط الحوار بين الثقافات، في كلّ مراحله وأطواره، وجود انطباق تام بوجهات النظر. بل على العكس من ذلك تماماً، حيث حينما تتعدّد المرجعيات المعرفية، وتتابن التصوّرات الثقافية، وتختلف المواقف السياسية والعملية، تتأكد الحاجة إلى الحوار الذي لا يستهدف بالدرجة الأُولى إقناع كلّ طرف بقناعات الآخر، وإنّما يستهدف الفهم والتفاهم، وخلق مساحة مشتركة للتعاون والتواصل.
وعليه فإنّ الشرط الأوّل لنجاح أي حوار وتفاهم بين الغرب والعالم الإسلامي، هو خروج الجميع من القراءات النمطية والمبسّطة في النظرة إلى الآخر. فلا يمكن اختزال العالم الإسلامي بجملة من المفردات والممارسات التي تُعارض في العالم الإسلامي أكثر ممّا تُعارض في الغرب. وفي المقابل أيضاً لا يمكن اختزال الغرب في بعض السياسات التي لا تنسجم وحقوقنا ومصالحنا في العالم الإسلامي. فالغرب أوسع من ذلك، وعلينا أن نتواصل ونتحاور مع كلّ مؤسّساته، حتى نتمكّن من التأثير فيه في قضايانا الإستراتيجية.
إنّ الخروج من الرؤية النمطية التي تختزل الإسلام والغرب في قوالب محدّدة وجاهزة ورتيبة سواء من قبل بعض المنابر والأقلام في العالم الإسلامي أم في الغرب، هو الشرط الضروري لخلق روافد للحوار بين العالمين الغربي والإسلامي، على أُسس من الاحترام المتبادل.
تثير النظرة الأُحادية والاختزالية، من الهواجس والمشاكل، أكثر ممّا تُعالج وتجيب عن نقاط الاختلاف والافتراق. والقراءة النمطية تعيد إنتاج مآزق التاريخ، أكثر ممّا تحاول الاستفادة من دروس التاريخ وعِبَره، وعليه فإنّنا نعتقد أنّ شروط الحوار والتفاهم بين العالمين الغربي والإسلامي هي الآتية:
1- الخروج من الرؤى والقراءات النمطية والاختزالية والأُحادية، والتفكير برؤية شاملة موضوعية في النظر إلى كلّ القضايا والأُمور المتعلّقة بالغرب تاريخاً أو حاضراً. وكذلك بالنسبة إلى الأُمور المتعلّقة بتاريخ العالم الإسلامي أو راهنه. فإنّ الحوار الحضاري المطلوب، هو الذي يتجاوز الرؤية النمطية، ويتحرر من النزعة الاختزالية، ويتعامل مع وقائع الحياة في كلا الجانبين بمنتهى درجات العلمية والموضوعية. وهنا من المهمّ أن نعترف أنّ الغرب لا يمكن أن ينخرط في حوار جدي مع العالم الإسلامي من دون التحرر من الرؤية النمطية والاختزالية السائدة لدى شعوب الغرب عن الإسلام والعالم الإسلامي. كما أنّ الشعوب الإسلامية لا يمكنها التفاعل الحضاري مع منجزات الغرب، والانخراط في مشروع الحوار والتواصل الحضاري معه، من دون الانعتاق من كلّ أشكال الرؤية النمطية والاختزالية التي يحملها تجاهها الغرب.
إذ لا يمكن أن يتحقّق الحوار الصحيح والسليم بين الغرب والعالم الإسلامي، من دون التحرر من كلّ الرؤى والأنماط التي تختزل الحياة والأُمم في صُوَر جامدة ومشوّهة.
من هنا فإنّ الحاجة ماسة اليوم لكي يتحرر كلّ طرف من أوهامه التي يحملها عن الآخر. ومن دون هذا التحرر والانعتاق، سيتحوّل كلّ حوار إلى حوار طرشان، وكلّ تواصل إلى مساجلات أيديولوجية وحضارية تزيد من اليباس والجمود، وتكرس الرؤى النمطية والاختزالية السائدة في مشهد العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي. ولا يمكن أن يتحقّق فعل الخروج والتحرر من الرؤى النمطية والاختزالية، إلّا بجهد معرفي – تفكيكي وحقيقي، يتّجه إلى مساءلة ونقد السائد على هذا الصعيد، وإرادة سياسية حقيقية تستهدف نسج علاقة حقيقية بعيداً عن نزعات التسلط والهيمنة أو ضغوطات السياسة والتبعية.
2- الخروج من عبء التاريخ. لعلّنا لا نأتي بجديد، حين نقول إنّ تاريخ العلاقة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي مليءٌ بالصراعات والحروب وأشكال اللاثقة. لذلك فإنّ تاريخ العلاقة بين الطرفين، يشكّل وبعمق عبئاً حقيقياً على كلا الطرفين. فالعالم الإسلامي اليوم في نظرته إلى الغرب يتأثر وتتحكم به العوامل التاريخية، أكثر ممّا تؤثر فيه متطلّبات الراهن. كما أنّ الغرب بكلّ علمانيته ومؤسّساته الدستورية وتقدّمه العلمي والتكنولوجي، لم يتحرر بشكل كامل من عبء التاريخ في ما يرتبط ونظرته إلى الإسلام وعلاقته السياسية والاقتصادية والأمنية بالعالم الإسلامي.
لذلك، فإنّنا نعتقد أنّه لا يمكن أن يُنجز الحوار الحضاري بين الطرفين من دون التحرر من عبء التاريخ. والتحرر هنا لا يعني النسيان أو التناسي، وإنّما يعني وببساطة أنّ هناك مصالح قائمة اليوم، لا يمكن القبض عليها من دون فتح قنوات للحوار الجدي بين العالمين الغربي والإسلامي.
وفي تقديرنا أنّ فاعلية كلّ حوار وتواصل على هذا الصعيد، مرهون إلى حدٍّ بعيد بقدرة الجميع على التحرر من عبء التاريخ. فالانحباس في سجالات العلاقة التاريخية، لن يفضي إلّا إلى المزيد من سوء الظن وسوء التفاهم. لذلك فبمقدار التحرر من عبء التاريخ يتمكّن العالمان الغربي والإسلامي من صياغة علاقة جديدة بعيداً عن إحَن التاريخ وضغوطات السياسة.
إنّ المطلوب هو صياغة العلاقة وفق مصالح إستراتيجية راهنة، لا تنحبس في التاريخ الصراعي للطرفين.
3- إنهاء الفجوات المعرفية بين الطرفين. حيث إنّ طبيعة العلاقة بين العالمين الغربي والإسلامي، تكتنفها بعض العناصر الغامضة من الطرفين. والسبب في ذلك يعود في تقديرنا إلى وجود فجوة معرفية بين الطرفين. فلا الغرب بعلمائه ومؤسّساته البحثية ومعاهده العلمية، يمتلك رؤية معرفية متكاملة عن عالم الإسلام والمسلمين، ما يفضي إلى سوء الفهم لبعض الممارسات وشيوع حال من الالتباس سواء على صعيد المعرفة أم التقويم. وفي المقابل أيضاً هناك تقصير معرفي حقيقي من قبل المسلمين في نظرتهم ومعرفتهم بالغرب تاريخاً وحضارة. لذلك فإنّ تطوير مستوى الحوار الحضاري بين الغرب والعالم الإسلامي، يقتضي العمل على إنهاء وسد الفجوات المعرفية بين الطرفين. وذلك عبر تأسيس مراكز البحث والدراسة المتخصصة بشؤون الطرفين. فلماذا لا تنشأ في بلاد المسلمين معاهد ومراكز أبحاث جادة ومتخصصة بشؤون الغرب. كما أنّ الدول الغربية مُطالبة عبر معاهدها العلمية ومؤسّساتها البحثية والدراسية إلى تطوير معرفتها بالإسلام والمسلمين. وذلك لأنّ المعرفة العميقة المتبادلة، هي أحد الشروط الأساسية لنجاح أي مشروع حواري بين الغرب والعالم الإسلامي.
الساحة الدولية اليوم بحاجة إلى خطوة جريئة وشجاعة لإطلاق مشروع حوار جاد وحقيقي، بين العالم الإسلامي والغرب، قوامه «نبذ القراءات النمطية والاختزالية المتبادلة والتحرر من عبء التاريخ وتطوير المعرفة العلمية والموضوعية المتبادلة». وذلك من أجل إنهاء جملة من التوترات التي تكتنف هذه العلاقة، وتؤثر بشكل مباشر في مشهد العلاقات الدولية بكلّ مستوياتها.
تقتضي اللحظة الراهنة بكلّ تحدياتها وآفاقها، إطلاق مشروع حواري جاد وجديد بين الغرب والعالم الإسلامي، يُساهم ببلورة أُسس جديدة للعلاقة نتجاوز من خلالها إرث التاريخ وصعوبات الراهن وهواجسه.►
المصدر: كتاب حوار الأديان وقضايا الحرّية والمشاركة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق