كان ذلك مع بدايات القرن العشرين عندما قادت أعمال المراقبة والحساب في ميدان المجرّات المتناثرة في السماء إلى الحديث الجدي عن الأبعاد الزمانية والمكانية للكون برمته، بحيث طرحت بعض الظواهر الفلكية أفكاراً ورؤى متعددة حول نشأة الكون وانبثق عنها عالم رحب وغني من المعلومات جعل منها علماً مستقلاً عرف لاحقاً بعلم "النسكونية" أو "Cosmologie".
ويصور العلماء حالياً الكون على أنّه مستودع حياة، يشهد كما تشهد أمم الأحياء، نجوماً تولد وأخرى تموت، وعوالم مجرّات "تتنفس" ثمّ تحيا صباها ثمّ تهرم وتعيش الشيخوخة وهمومها ثمّ تندثر، ويبقى الفارق فقط بمتوسط العمر، ذلك أنّ الحياة في الكون طويلة مملة، إذا ما قيست مثلاً بحياة الكائنات على الأرض. فتاريخ الكون هو تاريخ مادة تستيقظ فتتناغم وتنتظم، خاضعة لنواميس أكبر من الكون وأشد رهبة منه، تشارك كل قوالبها بالعزف على وتيرة واحدة، وبرنين فيه كل الجمال والوداعة، وبه تحضّر لكل شيء جديد قد نتوقعه حيناً ونفاجأ فيه أحياناً، إلا أنّه، وبكل الرفق والرحمة الربانية لسكان الكون، لا يفلت من عقال النظام ولا يغدو شاذاً عن عمل الكل، إنّه يعرف كيف يخرج من أزمته ويعود منها إلى سكته، وبالتالي فلا خروج له عن "الجماعة"... هذه الطريق التي يسلكها عالم الموجودات نحو النظام بأفضل أشكاله، منذ نشأته إلى لحظات كتابة هذه السطور، تعتبر الوسيلة وبيت القصيد في دراسة الكون وفهم وظيفته وصولاً إلى أهدافه، وللوصول إلى ذلك يطرح الباحثون المختصون مراحل عمله على مستويات وظيفية – زمانية ونعني بذلك: 1- مرحلة التفاعلات النووية وفيها تجمعت الدقائق الأولية (Particules elementaires) الناجمة عن الانفجار الكوني العظيم واتحدت داخل نجم ما وأنتجت نوى الذرات المئة والعشرة، ثمّ لبست كل نواة ثوبها اللائق وجددت فيه عدد الالكترونات التي تتناسب "ذوقها وجماليتها". 2- مرحلة التفاعلات الكيميائية داخل النجوم في أطوارها الأولى، وهي عبارة عن تطور متقدم من الذرة إلى الجزيء إلى السلاسل فالمواد فالأشكال.. 3- مرحلة التفاعلات البيولوجية التي نشأت فيها الخلايا الحية وأوصلت إلى ظهور الكائن البشري والنبات الحيوان منذ ما يقارب خمسة مليارات سنة.. والمهم في المراحل هذه كونها سبيلاً للعودة بوتيرة الأحداث وتطورها إلى الخلف، إلى ما قبل مليارات من السنين للاستدلال على ولادة ونظم حركته حتى يتم ضبط صورته العلمية على ضوء ما تلحظه المقربات (Telescopes) أو تصوّره الأقمار الاصطناعية أو حتى تراه العيون المجردة. - سكان درب التبانة: يعتبر النور المرسل من الكواكب والنجوم بمثابة مفتاح المعرفة الإنسانية الأولى عن الكون، لأنّ اكتشاف العوالم المجهولة تم من خلال الضوء الذي أرادت أن تعبر لنا به عن نفسها، ولعل النور الأشد أهمية وإلفاتاً لنا هو الصادر عن الشمس، التي تغدو في كبد السماء رواحاً وجيئة، وتمدنا بطاقة ضوئية تستلزم مدة ثماني دقائق لكي تصل إلى الأرض، الأمر الذي يعني من الناحية الفيزيائية أن أي حدث يحصل للشمس ويمكن أن تتأثر به الأرض لا يصل إلينا قبل هذه المدة لأن سرعة الضوء (300.000 كلم في الثانية) تشكل الحد الأقصى للتأثر المتبادل بين شيئين أو لانتقال حدث ما من جهة لأخرى. ولعل المسافة بين الشمس والأرض (144 مليون كلم) لا تبدو مستغربة إذا ما عرفنا أن أول نجوم الكون السابحة "بالقرب" منا تبعد 30 ألف مليار كلم (أي ما يعادل ثلاث سنوات ضوئية) بل وهناك في الفضاء الأبعد نجوم تقع على مسافات لا نقول عنها سوى أنها خيالية. ولحسن الحظ فإن قطر الشمس يوازي ثانيتين ضوئيتين، وقطر النجوم الأضخم في الكون لا يتعدى 28 دقيقة ضوئية، وعليه، لو قارنا أبعاد وأحجام الكواكب مع الفضاء الذي تسبح فيه لوجدنا أن كل ما في الكون من موجودات إنّما يساوي أصفاراً أو نقاطاً أمام رحابة الكون. إذاً فالسماء فارغة من الناحية الفعلية، والنجوم لا تملك عملياً أي فرصة للتلاقي أو الاصطدام، كما أن سعة الضوء هي كبيرة جدّاً بل خيالية بالنسبة لنا، إلا أنها كسرعة السلحفاة على مستوى الكون وكواكبه فيما لو تأملنا بمدة الدقائق الثمانية اللازمة لوصول نور الشمس إلى الأرض أو بعشرات الدقائق لوصوله إلى كوكب جوبتير. وفي الحديث عن فضاء ما بين النجوم فإنّ البرد الشديد والظلام الدامس هما صفتان ملازمتان له، بينما تشتد الحرارة داخل النجوم لتصل إلى مليارات الدرجات... وبين هذه الأكوان الصعبة الحائلة دون ظهور الأحياء تقبع نقطة بسيطة في زاوية من الزوايا المتناثرة هي الأرض، وقد استوفت شروطاً هائلة تضافرت لنمو الحياة البيولوجية من نبات وبشر وحيوان، بطريقة بديعة تناسقية، لم يأت لها إنسان اليوم – رغم إمكاناته – بتفسير علمي مقنع، إلا من خلال الاقرار بالإرادة الإلهية المدبرة التي "هدت" المادة الصماء القاصرة إلى نظامها من خلية إلى حياة على قاعدة: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50). أمّا عن البنية النظامية الأرقى للنجوم والشمس من حولنا فنرى أنها تتوزع على نحو منتظم في قبة السماء داخل لفافة دائرية مسطحة سماها الفلكيون مجرة، أكثر ما تظهر بالعين المجردة في ليلة صافية من ليالي الصيف على شكل درب بيضاء اللون، سماها الأدباء "درب التبانة" التي تتناثر عليها بقايا التبن المحمول على ظهور الأنعام، ويعود بياضها إلى كثرة النجوم اللامعة والمجتمعة فيها (حوالي 100 مليار نجم)، لا تشكل الأرض أكثر من غبرة منسية فيها، وبداخلها تقبع الشمس على مسافة ثلثي شعاع الدائرة وتدور كغيرها من النجوم حول محور المجرة.. - جزر في محيط الكون الهادر: ومع الإمعان في المراقبة، يضبط العلماء بقعاً سديمية مترامية الطراف هي عبارة عن مجرات هائلة تبعد عنا مسافات لا نعرف عنها سوى أرقامها التي تخرج عن حدود التصور البشري، نذكر منها مجرة أندروميد أو "المرأة المسلسلة" التي اكتشفها المسلمون عام 964م، (مليوني سنة ضوئية)، ومجرة ماجيلان، (مائتي ألف سنة ضوئية)، وسواهما من المجرات والعوالم التي سماها الأدباء بالجزر الكونية القابعة في المحيط الكوني الشاسع... ومؤخراً يحصي الباحثون مليارات من المجرات الآخذة في التوسع والانفلاش عن بعضها البعض، بعد أن كانت منذ القدم (أي منذ أكثر من مليوني سنة) قريبة جدّاً من بعضها البعض لدرجة أن حوادث الاصطدام بينها كانت دائمة الامكان. ولإيجاد واحدة من تلك المجرات، لابدّ من البحث عنها قرب مجرة أخرى، ذلك أنّ المجرات تجنح لأن تتجاور وتتآلف على شكل تجمعات أو ركامات (Amas) تشبه النحل المتكوّم حول الملكة، وللمثل فقط، فإن مجرتنا درب التبانة تقع ضمن مجموعة تسمى "الركام الموضعي" مؤلفة من عشرين مجرة تتناثر على دائرة بقطر خمسين مليون سنة ضوئية. تجدر الإشارة هنا إلى أن نجوماً وأجراماً في حجم مجرتنا لا تتميز بأهمية ملفتة على مستوى الكون... وعلى نطاق أشمل، فإنّ الركامات بدورها تتجمع وتنتظم لتشكل الركامات العليا (Super amas) والتي تحوي آلافاً من المجرات تدور عادة حول مجرة ثقيلة عظمى مثلما تدور المجموعة الشمسية حول المشمس مركز الثقل، ولكن ليس على مدارات ثابتة وإنما لولبية متغيرة أحياناً وللعلم فقط فإنّ الركام الأعلى الذي يضم "درب التبانة" يدور حول مجرة عظمى سميت "ميسيه 78". ولربما لن ينتهي عقد السلسلة النظام عند هذا الحد، إذ يحاول الفلكيون جاهدين إيجاد النموذج الأرقى والأشمل الذي تتوزع على أساسه الركامات العليا، لكن على أن لا يتعدى الحد الأقصى للمسافات المكتشفة الستين مليار سنة ضوئية، لأنّ العلماء قد توافقوا على اهمال العوالم المجهولة من مجرات وركامات والتي يزيد بعدها عنا الستين مليار سنة ضوئية. لكن ما ننتهي إليه بهذا الصدد هو أنّ الكون مترامي الأطراف والعائد إلى 15 مليار سنة بنشوئه – كما يذكر العلماء – يمثل وحدة منظمة يظل توزع عناصرها قائماً على تناسق وبهاء يبتعد كل البعد عن العشوائية، وتسبح تلك العناصر في "السائل الكوني" الرحب تماماً كالجزيئات المكونة للسائل اللزج، وقد يفقد توزع المجرات والركامات تناسقه على حدود لا تتعدى مئات السنوات الضوئية أحياناً لكن تبقى حركة الكون وحدة متكاملة تتناغم وتحمل في طياتها نماذج راقية لمادة عمياء تتحرك وفق إرادة وتدبير. إنّ الحديث عن النظام في صورة الكون على هذا النحو من الشمولية لأمر يحبس الأنفاس رهبة وخشوعاً أمام رب العظمة والحكمة، ويعود بها إلى حدود قدرتها في أرض داخل مجموعة شمسية داخل مجرة لا تعادل بدورها وزن غبرة منسية في عوالم الكون، لربما من خلاله نفهم سراً من أسرار وجودها وأهدافه في عالم يسير نحو توحّدٍ وعبادة بعمله وقوانينه، وحسبنا في ذلك أن نحرز غيضاً من فيوض الآية الكريمة التي لا تنتهي بركاتها مع كل جديد: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة/ 75-76). - الطبقات السبع...؟ إنّ الظواهر الكونية وما تحويه من عبر وحقائق لهي منهل يسطر أروع الآيات الربانية البليغة، ويعود به إلى حدوده وحجم قناعاته في كل مرة يقف فيها أمام آية أو إعجاز... فمؤخراً أظهرت الدراسات على أنّ هذا الكم الهائل من الركامات ينتظم وفق أشكال هندسية تثير الفضول وتحمل في عمقها نَفَساً جمالياً يدعو إلى تسبيح القدرة الأعظم، وتحكي قدرة خالق الكون وراسم صورته، ذلك أن توزعها يتم على شكل طبقات مسطحة متجانسة، مترامية الأطراف ذات سماكة رقيقة – نسبة إلى امتدادها – ومتباعدة فيما بينها بملايين السنوات الضوئية... أسئلة كثيرة يطرحها العلماء حول أسباب التوزع على هذا النحو وحول عدد الطبقات التي تتناثر عليها تلك المجرات والركامات، وهي اليوم محور دراسات وجهود قد تتمخض عنها حقائق ثابتة تتعزز أكثر فأكثر مع الزمن. إنما ثمة استنتاج أو توقع نحن بانتظاره وهو ما إذا كان عدد هذه الطبقات يبلغ السبعة أم لا وفقاً للآية الكريمة: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) (الملك/ 3). بالطبع سيُترك الحكم للجهد العلمي في هذا المجال وإن كنا نتوقع أو بالأحرى نتمنى النتيجة على هذا النحو لكي يكون الأمر آية بليغة أخرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. - ... على قمة جبل الزمن: إنّ الحقائق المتصلة بنشأة الكون وعوالمه المجهولة تتكشف يوماً بعد يوم مع تقدم وسائل المرئيات وتطورها، وللمثل فقط فإن رصد وتحليل الأنوار التي تغور بعيداً جدّاً في وعاء الكون يظهر عن كونها قلوباً لمجرات مستعرة تسمى "كوازار" وتتصرف وكأنها أشباه نجوم ترمي في فراغ الفضاء كميات هائلة من الطاقة تعادل عشرة آلاف مرة طاقة مجرتنا درب التبانة بكاملها، وما يهمنا هنا أن بعض هذه "الكوازار" تبعد عنا 12 ملياراً من السنين الضوئية، وعليه فالضوء الآتي منها استغرق 12 ملياراً من السنين لكي يصل إلينا في لحظة الرصد والمراقبة... وهذا يعني أن صورة السماء هي صورة لسجل أحداث الماضي منذ خلق الموجودات إلى اليوم، وأنّ المعلومات التي تصلنا من جراء المراقبة لا تنبي عن أحداث جديدة بل قديمة قدم التاريخ، وكأنّنا في أيامنا هذه على قمة جبل الزمن نعيش في النقطة الأكثر تقدماً فيه، وننظر لما حولنا من عوالم وأشياء وكأنّها شواهد أحداث غارت وتغور في زمن سحيق يشهد مسلسل الأحداث الكونية وأسرارها... - ختام: وهكذا، مع تزاحف الذرات لتشكل الجزيئات، ومع هياكل النجوم والمجرات، أي من المستوى متناهي الصغر إلى المستويات الواقعة خارج حدود الضبط والتخيل، يرتسم الكون برمته بخطى وئيدة تناسقية، عبر قاعدة شاملة تحكم الكل مفادها: "أنّ الأشياء المتماثلة تتجمع لتؤلف أشكالاً أرقى وأشد نظاماً وتعقيداً"، الأمر الذي يجعل من هذه المسألة مثار فضول العلماء ليدفعهم للبحث عن الأسباب التي تؤدي بالكل لأن ينتظم ويبتعد عن العشوائية والخلل، لما قد يفقد النظام الكوني جماليته ودقته ويقود إلى نسفه من أسسه.. ثمة أجوبة في هذا الصدد يقدمها الفلكيون إنما باستدراك كونها أولية حيناً أو بأنّها متناقضة تفتقر إلى إجماعهم أحياناً، لكن ومع الاعتماد على جديد البحث العلمي ذي الوتيرة السريعة والمصداقية التي يعززها جديدة مع الزمن، فإن كل التعليلات والشروحات للواقع المرئي لن تطال الحقيقة الجوهرية التي تحكم وتفسّر عملية ارتقاء المادة الجامدة الصمّاء إلى الأعلى والأفضل، وتفسّر جنوحها الأعمى نحو النظام، في جهد حثيث مركز ووتيرة تضمن استمرارية الكون النابض وتوازنه وتأمين ظروف الحياة البيولوجية للإنسان، ولن تعطي هذه الشروحات إجابة شافية مثلما يعبر القرآن الكريم عن ذلك واصفاً يد الرحمة الإلهية الهادية لحركة المادة ومفسّراً للسر الذي يجعل منها أدوات تخضع للإنسان ومن ثمّ آيات لأولي الألباب، بقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (فاطر/ 41). - المصادر: اعتمدت للموضوع المصادر التالية: - "Patience daus l'azur" Hubert Reeves, editions du seuil, Paris (1988). - مجلات العلم والحياة الصادرة من باريس (90 – 91 – 92). - "العلم في منظوره الجديد"، غروس وستانيو، سلسلة عالم المعرفة، الكويت (1989). المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 39 و40 لسنة 1993ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق