• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الطفولة.. بين النظرة البريئة والتربية الصالحة

د. زهير الأعرجي

الطفولة.. بين النظرة البريئة والتربية الصالحة

◄يقول علماء البيولوجيا، إنّ الطفل عندما يولد فإنّ دماغه يساوي ربع دماغ الإنسان الناضج الاعتيادي، بينما يبلغ حجم الجسم واحداً من عشرين من حجم الإنسان البالغ، وهذا يدلُّ على أنّ حجم الدماغ له علاقة كبيرة بمقدار استيعاب المعلومات التي يتلقّاها في حياته وهو طفل صغير..

ومن ملاحظة الظواهر الطبيعية، وملاحظة ظاهرة الرعاية والأُمّومة لدي الحيوانات بشكل عام، نلاحظ ولحكمة لا نستطيع فهمها أنّ الطفل من أكثر الكائنات الحيّة اعتماداً على المربي، وعلى الأبوين بالخصوص، ولفترة أطول من أي كائن حيواني آخر، فالحيوانات الأخرى، يعتمد فيها الصغير على أبويه لفترة قصيرة تتراوح بين بضعة أسابيع أو شهور، كما في الطيور والدواجن وبعض اللبائن، وعدّة سنوات كما في بعض اللبائن الأخرى.. ولكن الإنسان تطول فترة نموه العقلي والجسدي أكثر من بقية الكائنات..

ويبدو أنّ للحيوانات منهجاً معيناً للسير في الحياة عن طريق الغريزة وهي بلا شك سالكة هذا الطريق بكلّ نجاح،  ولذلك فإنّ الحيوان لا يحتاج إلى تربية معينة حتى ينضج، بل إنّه سرعان ما يكتسب طريقة التعامل مع الأشياء في الحياة، على عكس الطفل البشري الذي يحتاج إلى سنوات طويلة نسبياً ليعتمد على نفسه في مسيرته الشاقة في الحياة.. وقد يرجع السبب إلى أنّ الإنسان كائن اجتماعيٌّ أخلاقيٌّ بالطبع، على عكس الحيوانات الأخرى، التي لا تفهم معنى الأخلاق أو الإيثار في تعاملها مع بقية الحيوانات..

وقد لاحظ علماء الاجتماع أنّ إجراء التجارب على الحيوانات في قضايا السلوك، لا شك ستكون عاملاً نافعاً في إعطائنا انطباعاً عن طريقة تصرّفاتنا وأساليب التأثير عليها، ومع أنّ هذه التجارب لا يمكن أن تعطينا نتائج قاطعة يمكن تطبيقها على حياتنا الإنسانية، لاختلاف الدوافع والعناصر الأخلاقية والأهداف بين الإنسان والحيوان، إلّا أنّها مفيدة على أية حال في الكشف عن بعض المظاهر التربوية التي نحتاجها في مسيرتنا الشاقة في هذه الحياة.. ومن هذه التجارب التي تخصّ تربية الأطفال أنّه لو وضعنا حيواناً صغيراً وُلِد حديثاً (قط مثلاً) في غرفة ضيّقة جدّاً، بحيث أنّه لا يرى إلّا الجدران الأربعة، وحاولنا رعاية هذا الحيوان لعدة أشهر، إلى أن أصبح حيواناً كبيراً، وأطلقناه في مكان رحب واسع، فإنّه سوف يهاب في حياته الجديدة البُعد العمودي والجدران الأربعة. فنلاحظ أنّ هذا الحيوان يتحاشى أي شيء فيه بعد عمودي مثل أرجل الكرسي أو المنضدة أو الطاولة بينما يتحرّك باتجاه الأفق بشكل طبيعي.

وهذه التجربة ترينا أنّ الأساليب المتبعة في تربية الطفل، لها أثر أساسي في سلوك الطفل لاحقاً، فكما أنّ الحيوان المحبوس في غرفة ضيّقة جدّاً لا يرى إلّا البُعد العمودي والجدران الأربعة فيخشاها، كذلك الطفل الذي يُكرَه على سلوك معيَّن في مطلع حياته، أو الطفل الذي يُجبر على أداء فعل معيَّن، فإنّه لا يرى إلّا البُعد السيء لذلك الفعل في حياته، كالذي يجبر طفله على أداء الصلاة في سنٍّ مبكرة جداً. وتهمل بعد ذلك تربية ذلك الطفل، فينشأ الطفل كارهاً الصلاة، وهو لا يفهم سبب الكراهية..

إنّ النظام الدقيق في دماغ الإنسان، يأخذ المعلومات والتجارب البسيطة فيجمعها جميعاً في داخل خلايا صغيرة، فيحلّلها ثم يعطيها للإنسان بشكل جديد، فتتشكّل بذلك نظرة الإنسان للظواهر الطبيعية والاجتماعية، وهي نظرة تختلف بالتأكيد عن نظرة الحيوان للحياة، التي لا يرى منها غير إشباع الحاجات الضرورية لوجوده عن طريق الغريزة، فالنظرة التي يراها الإنسان للحياة بعقله وإدراكه غير النظرة التي يراها الضفدع للحياة مثلاً بغريزته في الحصول على الغذاء والتكاثر، التي لا يحسب فيها للذكاء قدر ما يحسب لذكاء الإنسان المتنامي مع التجارب والخبرات..

إنّ الدماغ عند الطفل ينظّم المعلومات الواردة إليه، وعلى أساسها يستجيب الطفل بذكاء، أو بدون ذكاء، وفي كلّ مرّة يحصل تحوّل في مسار العقل، حيث يتعامل عقل الطفل مع المعلومات بطريقة جديدة، وبطريقة تستوعب وتتفاعل مع خبرات أكبر في حياته، وهكذا ينمو عقل الطفل.. ومن الملاحظ أنّ الكثير من الأطفال خُلقوا وهم قمة في الذكاء والالتفات والنباهة، ولكن طريقة الأبوين في التربية تسدُّ عليهم منافذ تنمية واستثمار هذا الذكاء، فينشأ الواحد منهم طفلاً عادياً، إن لم يكن أبله غبياً في بعض الأحيان..

إنّ قصد الطفل لعمل ما، يسبق أحياناً قابليته على ممارسة ذلك العمل، فالطفل يحاول أن يرينا أنّه يستطيع أن يتكلّم أو يستطيع أن يمشي، وهو لا يزال بعيداً عن ممارسة هذا العمل أو ذاك.. فمن أين يأتيه العلم بهذه الأعمال؟.. فإذا قلت: إنّه بملاحظته حركات الأب والأُم والكبار فإنّه يحاول أن يقتبس منهم، يردُّكَ أحد علماء الاجتماع، ويقول لك: إنّ الطفل الأعمى يحاول أن يعمل نفس أعمال الطفل الاعتيادي.. فهل للغريزة التي أودعها الله في نفسه كمرحلة لاكتمال عقله، دور في أعمال الطفل وحركاته؟... نعم بالتأكيد.. فالفرق بين الطفل والإنسان الكبير هو أنّ الإرادة عند الطفل غير مرتبطة بالعقل بل مرتبطة بالغريزة، عكس الإنسان الراشد الناضج الذي ترتبط إرادته بعقله الواعي، فلا يتصرّف تصرّفاً معيناً إلّا بالرجوع إلى العقل.. وهنا يأتي دور الأسرة في تهذيب الأعمال الغريزية عند الطفل، وتأديبه تأديباً حسناً..

إنّ من النقاط الأساسية في تربية الطفل، هي في الواقع، دراسة نفسيته، فنفسية الطفل في السنة الثالثة مثلاً، تختلف عن نفسيته في السنة الخامسة، لأنّ درجة ذكائه تختلف من السنة الثالثة إلى السنة الخامسة، وعليه فإنّ التعامل معه يختلف من سنة إلى أخرى..

وقد نسدُّ نحن أحياناً الطريق على النمو الطبيعي لذكاء الطفل، وذلك بإعطائه المفاهيم الكبيرة التي لا يستوعبها ذهنه الصغير، فالمفروض أن نعطي الطفل اصطلاحات ومفاهيم مبسّطة تنُّم عن بساطة الحياة وعدم تعقيدها، كانتظام الأشجار بهذا الشكل الرائع، وهبوب النسيم ذي العطر الفوَّاح، وشروق الشمس الذي يغمر الأرض بالدفء والنور، واستيقاظ الطيور في الصباح، ونهوض الناس وسائر الحيوانات وقت شروق الشمس.. وغيرها من المفاهيم الجميلة البسيطة..

ومن الضروري أن يحاول الأبوان، تبسيط الحياة والمفاهيم القرآنية والإسلامية لطفلهما، بشكل يهضمه ذلك الكائن الصغير بيسر، فالطفل لا يستطيع أن يفهم نظرية (الثرموديانميك  Thermodynamic) مثلاً، ولكنّه يفهم ببساطة أنّ النار «حارة» فعليه أن لا يلمسها، والطفل لا يستطيع أن يفهم مفهوم الجاذبية والقوانين الملحقة به، ولكنّه يفهم أنّه قد يسقط على الأرض إذا قفز من الكرسي الجالس عليه، وهكذا مع مفاهيم الدِّين والعقيدة، فالطفل يتساءل مَن هو الله؟ وأين هو الله؟ ومَن خلق الله؟ وهنا قد تمتقع الوجوه، ويتسمَّر الطفل في وجوه الحاضرين لا يجد جواباً مقنعاً لتساؤلاته المشروعة.. فعلى الأبوين أن يبحثا عن كلّ وسيلة لإجابة أسئلة الطفل إجابة صحيحة صادقة بسيطة تتناسب مع عقله الصغير.. وجواباً على سؤاله حول الخالق عزّوجلّ.. يمكن للأب أن يقول لابنه: إنّ الله سبحانه كبير، وعظيم، فلا تسعه الأرض، فهو أكبر من الأرض وأكبر من السماء، وإنّنا لا نراه لأنّنا لا نستطيع أن نرى كلّ شيء لأنّ قابلياتنا محدودة، وكما أنّ أشعة الضوء لا تستطيع أن تخترق الجدار الذي أمامنا، كما تفعل موجات الصوت، فلا نستطيع أن نرى صورة الأشياء الموجودة خلف الجدار، ولكنّنا نستطيع أن نسمع الأصوات من خلال الجدار، كذلك لا نستطيع أن نرى الخالق لقُصر نظرنا ومحدودية تفكيرنا.. وإنّ الله لم يُخلَقْ، لأنّه هو خالق الكائنات والموجودات، وكلّ شيء مخلوق من قبلِه، وهو الوحيد الذي لم يُخلَقْ.. فكما أنّ أستاذك - أيُّها الطفل - ينقل عن آنشتاين نظريته، وأنّ أستاذ أستاذك نقل عن آنشتاين نظريته لأستاذك، وهكذا الأستاذ الذي قبل أستاذ أستاذك، حتى نصل إلى آنشتاين نفسه، فهو الذي وضع نظريته، فعندما تصل إلى حدّ آنشتاين لا يستطيع أن تقول مَن وضع نظريته آنشتاين قبل آنشتاين، لأنّ آنشتاين هو منشأ النظرية، وكذلك الله سبحانه وتعالى، فله يرجع كلّ شيء خُلق في هذا الكون، فهو مصدر الأشياء، وبهذا الشكل البسيط تستطيع أن تُفهّم ابنك الكثير من معاني الوجود...

إنّ من المهم في علاقة الأبوين بالطفل أن يعلما أنّ السنوات الخمس الأولى، هي من أهم السنوات في حياة الطفل، لأنّ شخصية الطفل في سنته السادسة أو السابعة تتشكّل. ومن الصعب أن تتشكل علاقة جديدة بين الطفل وأبويه في هذه السن، ما لم تكن قد سبقتها علاقة حميمة منذ الولادة، والسنوات الخمس الأولى في حياة الطفل لا تتعلّق بالنمو العاطفي فحسب، بل إنّ قدرة ذكاء الطفل تزداد حوالي 50% وهو في سن الرابعة، وتزداد بحوالي 30% أخرى وهو في سن الثامنة، ويكتمل ذكاء الإنسان في حوالي عمر السابعة عشرة.

وتذكرالروايات المروية عن أهل البيت (ع) حول تربية الطفل والعناية به أموراً، أكّدت صحّتها وروعتها الدراسات التربوية والاجتماعية الحديثة، ومن هذه الأحاديث.. قول أبي عبدالله الصادق (ع): "يثغر الغلام لسبع سنين، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرَّق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، ومنتهى طوله لاثنين وعشرين، ومنتهى عقله لثمان وعشرين سنة إلّا التجارب".. وقول الإمام عليّ (ع): "يُربّى الصبي سبعاً ويُؤدب سبعاً ويُستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين وما كان بعد ذلك فبالتجارب". وقوله (ع) أيضاً: "احمل صبيَّك حتى يأتي عليه ست سنين ثم أدَّبه في الكتاب ست سنين ثم ضمّه إليك سبع سنين فأدَّبه بأدبك، فإن قبل وصلح وإلّا فخلِّ عنه". ومع أنّ ما في الأحاديث المذكورة من بعض الاختلافات حول دقّة الفترات التي يمرَّ بها الطفل أو اكتمال العقل، إلّا أنّها تؤكّد على أنّ للإنسان ثلاث فترات يمرُّ بها وهو في أسرته قبل أن ينفصل عنها لتكوين أسرة جديدة.. السبع أو الست سنوات الأولى يُترَك الطفل يتحرّك كما تدفعه الغريزة التي وهبّها الله له، والسبع سنوات الثانية (7-14) حيث تتشكّل شخصية الطفل فهو يحتاج أكثر ما يحتاج إلى أسلوب التربية الأبوية السليمة التي تهديه إلى تكامل شخصيته الإنسانية والاجتماعية والفكرية. أمّا المرحلة الثالثة (14-21) سنة، فهي مرحلة المصاحبة ومرحلة النضوج والانتقال من المرحلة الصبيانية إلى مرحلة الرشد، خصوصاً سن الخامسة عشرة أو الرابعة عشرة لدى الذكر وهو سن البلوغ، وهو سن التكليف الشرعي..

إنّ الطفل في سنته الأولى ينظر إلى الحياة من زاوية الإنسان الضعيف الذي حلَّ في مكان غريب مجهول، فهو يحتاج إلى مَن يزرع الثقة في نفسه، والاطمئنان للبيئة التي يعيش فيها، ولا يستطيع أحد أن يعمل هذا غير الوالدين، حتى أنّ إطعام الطفل من قبل الأب والأُم ينشئ عنده حالة من الطمأنينة بالرعاية، فتتوثق علاقته بأبويه. إنّ الطفل عندما يرى أنّ أبويه يمتلكان علاقة زوجية طيّبة في البيت، فإنّه يكون مهيّئاً لإقامة علاقات طيّبة مع الآخرين في حياته الاجتماعية عندما يكبر..

وحالما يبدأ الطفل بالمشي، تبدأ مرحلة الاطلاع والاكتشاف في حياته، وهنا تبدأ أيضاً رحلة الثقة بالنفس من خلال حركته مع بقية الأطفال، وحركته في البيئة التي يعيش فيها، وتعامله مع المظاهر الطبيعية كالحيوانات، والأشجار، والتراب، والمظاهر الحضارية كالأثاث أو السيارة أو ألعاب الأطفال وغيرها.. وتلعب الأسرة هنا دوراً رئيسياً في تثبيت ثقة الطفل بنفسه، فيشعر الطفل أنّه كائن له قيمة في الحياة، فلا يُضرَب على يدهِ إذا لمسَ شيئاً يخص الكبار، فتقلُّ ثقته بنفسه، فينمو كإنسان معدوم الثقة، لأنّه سيتصوّر أنّ أي محاولة لتجربة جديدة ستبوء بالفشل والإحباط، فلِمَ يتعب نفسه، إذا كانت النتيجة أنّ أبويه سيعاقبانه أو لا يكترثان لعملٍ يقوم به..

ويقول بعض العلماء المختصين بدراسة نفسية الطفل إنّ الخوف الكبير على الطفل وعلى سلامته من قبل الأُم والأب، سوف يعكس على الطفل شعوراً بالتقييد عند انطلاقه في ساحة الحياة، لأنّ الطفل سوف يشعر مرّة أخرى بعدم الثقة بنفسه إلى الحدّ الذي لا يسمح الأبوان لنفسيهما أن يتركاه ينطلق في عرض البيت، ليعمل ما يراه متناسباً مع طبيعته..

إنّ كُتُب الأطفال المصوّرة الملوّنة مفيدة في تنمية عقلية الطفل، وتشجيعه على القراءة والمطالعة في مرحلة مبكرة من حياته، فالطفل يتعوّد على رؤية الأشياء الجميلة في الكون والطبيعة والمجتمع، خصوصاً إذا ربطت هذه الصور الجميلة مع المفاهيم القرآنية المبسّطة، مثلاً.. الله نور السموات والأرض، مع منظر عام للطبيعة والجبال والأنهار والقمر والنجوم أو الشمس والأفلاك الأخرى.. أو صورة ابن مطيع يقبّل يد والده، مع آية قرآنية كريمة.. (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) (العنكبوت/ 8).. أو صورة أب حنون يعلّمُ ولده الصغير، ومعها آية قرآنية كريمة.. (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13)، وهكذا.. ومن العادات الجميلة أن تقرأ هذه الكُتُب المبسّطة للطفل قبل أن يذهب إلى النوم، لأنّ هذه المفاهيم الجميلة ترسّخ في ذهن الطفل في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر.. وقد يبقى الطفل محبّاً لهذا الأسلوب حتى بلوغه 8 أو 9 سنوات، وكلّما كَبُر الطفل، على الأب أو الأُم تعليمه شيئاً مفيداً جديداً، كتعليمه مبادئ الإسلام المبسّطة وأهمية الإيمان بالله سبحانه، وأهمية حُسن التعامل مع الناس، وجعل المعيار الأخلاقي هو الأساس..

وإذا كان في العائلة أكثر من طفل واحد، فلا بأس بجمعهم وتلقينهم مبادئ الدِّين الحنيف، ولكن يبقى أسلوب التعليم المباشر بين الطفل وأبيه على حدة أفضل من تعليم الأطفال جميعاً دفعة واحدة.

أحياناً يتمنى الطفل الذي يعيش مع إخوته الصغار في عائلة واحدة يتمنى أن يكون وحيداً في أسرته، حتى يستأثر بكلّ الاهتمام الذي توليه عائلته لإخوته الصغار، وفي هذه الحالة، على الأب أن يعامل كلّ ابن معاملة خاصّة لإشعار كلّ طفل بأنّه يستأثر باهتمام الأسرة وباهتمام ربّها به بالخصوص.. وهذا يشبع جانباً معيناً من حاجات الطفل، وعلى ربّ الأسرة أن يجمع أطفاله في وقت مناسب من اليوم ليعلّمهم الآداب العامّة، وحُسن التعامل الأخوي فيما بينهم..

ومن الضروري جدّاً أن نعرف أنّ هناك فرقاً بين التهذيب، وبين التأديب، فتهذيب الطفل يعني توجيه الطفل وتعليمه وتربيته، وإعطاءه النصيحة قبل أن يقع في الخطأ.. أمّا التأديب، فهو عقاب الطفل بعد وقوعه في الخطأ.. ولا شك أنّ التهذيب في الأسرة يجب أن يأتي قبل التأديب، فالطفل لا يستسيغ كلمة «لا» في كلّ  سؤال يوجهه لوالديه، لإجازته في عمل ما، ما لم يعرف سبب الرفض والمنع المفروض عليه من قبلهم.. وإنّ الضرب المستمر للطفل لا يجعله يرتدع في فعل الأشياء المحرَّمة من قبل الأبوين.. نعم قد يقيّد الزجر والضرب إلى حدٍّ ما، الطفل عن الارتداع تجاه أعمال معينة يقوم بها، ولكن أسلوب الإقناع، وأسلوب إيجاد البديل الصالح يبقى هو الأسلوب الأمثل في تربية الطفل..

إنّ النهي عن العموميات قد لا يفيد الطفل كثيراً، فعندما ترى طفلك قريباً من النار، عليك أن تقول له: «لا تقترب من النار لأنّها تحرِقُ إصبعك»، فلا تقصر إجابتك على النهي دون إبداء السبب الحقيقي، مثل آخر: «لا تلمس السكين يا بُني، لأنّها حادة، وقد تقطعُ إصبعك»، «لا تقف على الكرسي، فقد تسقط على الأرض، وتنكسر رجلك» وهكذا. فلا تقل لابنك: لا تقف على الكرسي، وعندما يسألك: لماذا؟ فإنّك تقول له: لأنّني أريدُ ذلك.. هذا خطأ.

ومن الأفضل على الأب أن يصرف ذهن طفله عن لعبة يريد أن يلعبها الطفل ويرى الأب فيها مفسدةً لابنه، فإذا همَّ الطفل بتلك اللعبة، فعلى الأب أن يقول لابنه: تعالَ انظر إلى هذا الشيء الجميل الذي في يدي، أو تعال ولاحظ ماذا حصل هنا.. وهكذا.. وهذه طريقة جيِّدة في صرف نظر الطفل عن فعل معين، بدل معاقبته أو ضربه..

وتدلُّ الخبرات التربوية والاجتماعية المتراكمة على مرِّ الزمن، أنّ استخدام أسلوب المكافأة على العمل الحسن الذي يؤدِّيه الطفل أمر مفيد في تربيته، فالمكافأة تجعل الطفل يعيد العمل الحسن الذي قام به مرّة أخرى، وهذا الأسلوب مُستخدم حتى مع الحيوانات التي تعمل عروضاً معينة أمام الناس، فهذه الحيوانات تعلم أنّها سُتكافأ على عملها بكمية من الطعام، فتعيد العمل مرات أخرى، كأسماك الدولفين التي تقفز فوق الماء، والأسود والنمور التي تقفز على حاجز من النار وغيرها.. هذه الحيوانات لا تعمل ما تعمله بالضرب أو التهديد، وإنّما بأسلوب المكافأة..

والطفل المهذَّب يجب أن يُكافأ على أيَّة حال، حتي يستمر على هذا السلوك المحبّب للوالدين، أمّا إذا أُهمِلَ هذا الطفل، فإنّه قد يسلك سلوكاً سيئاً يحاول من خلالِه أن يجذب أنظار الآخرين، فيرى أنّ هذا السلوك أنفع له، لأنّه سلوك يضعه في مصاف تجتذب إليه الأنظار.

ومن المهم أيضاً أن نلاحظ الفرق بين عواطف الطفل، كالخوف والحبّ والغضب، وبين ما يرتكبه الطفل من أعمال، كضرب الأطفال الذين يلعب معهم، والاتجاه العدواني والشراسة في الشارع والبيت. وعلينا أن نحترم عواطف الطفل، فالطفل لا يستطيع أن يكبت عواطفه من حبّ أو كره أو خوف أو غضب، ولا يستطيع الوالدان السيطرة عليها إلَّا من خلال السيطرة على نفسية الطفل وتربيتها وتهذيبها، أمّا العمل العدواني الذي يرتكبه الطفل تجاه الآخرين، فهنا يأتي دور الأسرة ودور الأب بالذات في ردع الطفل المسيء، بالكلمة القوية أو الضرب إن استلزم الأمر ذلك..

ومن حقِّ الطفل أن يعبّر عن رأيه، ومن واجب الأب أن يستمع إليه، حتى وإن كان رأي الطفل رأياً سطحياً لا قيمة له لأنّ التعبير عن الرأي له آثار صحّية على الناحية العقلية للصبي، فكما أنّ المريض بالقرحة لو عبّر عن رأيه ولم يكبته لزالت القرحة، كما يقول الأطباء، كذلك الدماغ، فإن كبت الرأي يؤثّر على الناحية الدماغية، خصوصاً عندما ينمو الطفل ويصبحُ رجلاً.. قل لطفلك ببساطة: إنّي لا أشعرُ ما تشعرُ به، فقد كنتُ طفلاً مثلك.. فإنّ هذا القول يعَدُّ بلسماً للطفل، فيحسُّ أنّ هناك مَن يفهم شعوره وإحساسه، وبهذا الأسلوب سوف يتجنّب الطفل العُقد النفسية التي تتراكم على شعوره الداخلي بمرِّ الزمن..

إنّ من أجمل الخطوات في تربية الطفل، هي أن تستمع إلى طفلك وهو يشكو إليك من زيد مثلاً فيقول لك والدموع تجري على وجنتيه: يا أبتي إنّ زيداً ضربني!.. فإنّك كأب، لابدّ لك وأن تناغي شعور ابنك، لابدّ وأن تفهّمه بأنّك فهمتَ شعوره وإحساسه، فتقول له: (زيدٌ ضربك؟ وهل هذا يؤدِّي إلى كلّ هذا البكاء يا بُني؟)، هنا يلاحظ المرء أنّك أحسسته بأنّك فهمتَ شعوره، ولكن في نفس الوقت جعلته يدرك، بأنّ ضربة زيد لا تستدعي كلّ هذا البكاء.. أمّا تجاهل شعور الطفل، فإنّه يولّد لديه شعوراً بالإحباط النفسي، ولذلك نراه يصرخ مرة أخرى، عندما تتجاهل شكواه حول ضربة زيد، ويقول: إنّك لا تعرف كم تؤلم ضربة زيد!..

ومثالٌ آخر، لو أنّ ابنك كان خائفاً من الفشل في إحدى الامتحانات، وجاءك قائلاً: يا أبتي إنّني قلقٌ من الامتحان الفلاني؟ فماذا سيكون جوابك المثالي له؟، إذا قلتَ له: لا تهتم فإنّك سوف تنجح في الامتحان. فإنّه سوف يعتبر أنّك لا تفهم مشاعره. ولكن لو جلست في حديث طويل معه متسائلاً: وما الذي يقلقك في تأدية الامتحان، يا بني؟، فإنّه سوف يشارك شعوره وإحساسه  تجاه ذلك الموضوع، فيبدأ يتحدّث إليك عن صعوبة مادّة الامتحان، أو عن حدّية الأستاذ الذي يدرّس مادّة الامتحان، أو قلّة فهمه لمادّة الامتحان وهكذا يستمر النقاش.. ويشعر في النهاية، بعد المحادثة والنقاش، إنّك فهمت شعوره وأحاسيسه.. فيقول في نفسه: إنّ والدي إنسان متفهّم..

وقد تواجه مشكلة أخرى في تربيتك لطفلك، فإذا كان خجولاً، يخشى اللعب مع بقية الأطفال، لسبب نفسي أو اجتماعي معين، فعليك أن تتعامل معه بتفهّم واستيعاب، كأن تحثّه على دعوة صديقه الأقرب إلى عشاء في البيت، ليكسر حاجز العُزلة الاجتماعية، ويشعر في أعماقه أنّ له وزناً وقيمةً في البيت الذي يعيش فيه..

وعندما يبدأ الطفل في الكلام فإنّه في الواقع، سيمرّ بنقلة ثقافية كبرى في حياته، وعندما يتمرّس لسانه على النطق فإنّه سيكتشف أنّ النطق والتكلّم هي إحدى الوسائل الرئيسية لفهم العالم الذي يعيش فيه، فيبدأ بالأسئلة البسيطة والمعقدة، ليتوصّل إلى معرفة الأشياء، وكلّما كان الطفل أكثر ذكاءاً كانت أسئلته أكثر، فعلى الأب أن يعامل أسئلة ابنه معاملة فيها الكثير من الاحترام والتقدير، وأن يجيب على الأسئلة بدقة وصدق ووضوح.. وإذا لم يعرف الأب الجواب، فلا يخترع له جواباً من عنده.. فليتعلّم الطفل الصدق في أوّل حياته..

ذكرنا أنّ هناك فرقاً بين التهذيب والتأديب، فالتهذيب هو تعليم الطفل الأمور التي ينبغي على الوالدين تعليمها له. والتهذيب يحتاج إلى صبر ومعاناة من الوالدين، لأنّه أساساً تعليم الطفل الطريقة السليمة في التعامل مع الحياة، على عكس التأديب الذي لا يحتاج إلّا أن تضرب طفلك ضرباً يبكيه، لتردعه عن العمل الذي قام به، وقد يرتدع وقد لا يرتدع.. أمّا التهذيب فإنّ نتائجه الأخلاقية مضمونة على المدى البعيد..

ومن المهم جدّاً في تربية الأبناء على أسلوب التهذيب ملاحظة الأمور التالية:

1- على الوالدين أن يفهما قابلية الطفل في قضايا الذكاء وتأدية الأعمال، في كلّ مرحلة من مراحل حياته، فالطفل الذي يبلغ من العمر (5 سنوات) له قابليات تختلف عن ذلك الذي لم يبلغ السنتين، وهذان الطفلان يختلفان في القابلية والذكاء عن طفل عمره (7 سنوات) وهكذا.. إنّ الطفل كائن بسيط التفكير، قليل الاهتمام والحرص بأمور الحياة، يفكّر بنفسه أوّلاً وبحاجاته، ولذلك فإنّه من الخطأ الكبير أن نتوقّع من أطفالنا أن يتصرّفوا تصرّف الكبار، نعم قد يكون هناك استثناءات - خصوصاً على مستوى التاريخ الإسلامي، تحدّثنا الروايات أنّ الإمام محمّد الباقر (ع) كان مُلمِّاً بالعلم وهو صبي، ويُذكر أنّ جابر الأنصاري قال مخاطباً الإمام الباقر: "يا باقر لقد أُوتيت الحُكم صبياً"، وكذلك الإمام المهدي كان مُلمِّاً بالعلم وهو صبي، وكذلك نبوغ المحقق الحلي في المجال العلمي والفقهي في بداية حياته.. وكذلك فإنّ السيِّد المسيح (ع) كلّم الناس وهو طفل رضيع. وآتى الله الحكمة ليحيى (ع) وهو صبي: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم/ 12) ولكن القاعدة العامّة، أنّ الأطفال يتصرّفون من وحي حاجاتهم في اللعب والأكل والمعرفة وحبّ الاستطلاع..

2- أنّ الوالد يحتاج إلى تكوين علاقة متينة، مبنية على الحبّ والتفهّم، مع ابنه أو مع ابنته.. فالطالب الذي يكره معلّمه لا يستطيع أن يستوعب مادّة الدرس استيعاباً طبيعياً، والمدرس الذي يكره تلاميذه لا يستطيع أن يعطي المادّة العملية النافعة، وكذلك الأب والابن، فإنّ العلاقة الطيّبة المبنيّة على الحبّ والتفاهم أثمر في تربية صالحة، فإذا أردت أن يطيعك ابنك افهم في البداية مشاكله والأمور التي يعاني منها، ثم أظهر تعاطفك معه، فهو مستعد بعد ذلك للطاعة.. وهذه الطاعة لا تأتي إلّا إذا صرف الأب مع ابنه وقتاً خاصاً معيناً للحديث والتربية كلّ يوم أو مرّة كلّ يومين أو مرّة كلّ أسبوع منذ السنوات الأولى للطفولة..

3- أنّ الأب يجب أن يكون حازماً مع الطفل في السنوات الأولى من حياته، حتى يفهم الطفل أنّ الأب يعني ما يقول، وواقع الحال أنّ الآباء يعاملون أبناءهم بطريقة عكسية وهذا هو عين الخطأ.. ويجب أن يكون واضحاً أنّ حزم الأب يجب أن يتناسب طردياً مع أعمال الطفل العدوانية كالضرب والتخريب وغيره، وليس مع شعور الطفل كالغضب والخوف والكره وغيره..

4- استخدام المكافأة على أعمال الطفل الجيِّدة التي يقوم بها، كما ذكرنا ذلك سابقاً. والمكافأة على نوعين: إمّا مكافأة معنوية وهي ذكر كلمات المدح الجميلة للطفل، مثلاً إذا نظّف الطفل جزءاً من البيت، لا بأس بإطرائه بالكلمات الجميلة، وبأنّه على درجة عالية من النظافة والرتابة، أو إذا تكلّم كلاماً لطيفاً، لا بأس بإطرائه حتى يعتاد على فعل هذا العمل مرّة أخرى. أو مكافأة مادّية بتقديم الحلوى له أو إعطائه جزءاً قليلاً من المال جزاء أعمال معينة يقوم بها، كقراءة القرآن، أو إكمال دراسته يومياً.. وهذا الأسلوب يؤدِّي إلى تشجيع الطفل على السلوك الحسن المؤدب.

ومن وسائل التربية الأخرى:

1- تهيئة أجواء معينة للطفل في البيت لكي يلعب بعيداً عن أجواء التنغيص المستمر من بقية الأطفال، ولكن لا بأس بحثّه على المشاركة أيضاً مع بقية الأطفال في اللعب..

2- إعطاء الطفل فرصة لاكتشاف البيئة التي يعيش فيها مع فرض رقابة معينة من الأبوين على تصرّفاته، وهذا يؤدِّي إلى تنمية قوّة التفكير عند الطفل، والتطلّع إلى الآفاق الواسعة للحياة البشرية.. اسمح لطفلك بأن يتعلّم الأشياء والأمور الطبيعية بشكل طبيعي، فإذا لم يأكل طعامه الساخن بعد ساعة من صبّه، فإنّه يضطر إلى أكل طعام بارد، وإذا لم يحضر دروسه فالنتيجة أنّه يرسب في الدراسة، ويتأخّر عن الركب السائر من نفس عمره.. دعه يفهم هذه المعادلات..

3- إنّ تطبيق المبادئ الإسلامية أفضل طريقة لتعليم الأطفال الإسلام وهم في الصغر، فإذا كان الأبوان يحترمان مائدة الطعام وما فيها، باعتبارها نِعمة من الله سبحانه، فإنّ الطفل عندما يكبر سيكون لديه نفس الشعور الذي عبّر عنه والداه حول الطعام ومائدة الطعام.. وإذا كان الأبوان يمارسان احترام شعور الآخرين ويصلان أرحامهما ويطعمان الفقير، فإنّ الطفل سيكون لديه نفس الشعور أيضاً وهكذا..أمّا أسلوب العقاب، الذي يمكن أن يستخدمه الوالدان، تجاه الطفل المشاغب، فهو كما يلي:

1- استخدام أسلوب عزل الطفل عن أصدقائه إذا ارتكب عملاً تخريبياً أو تكلّم بكلمة بذيئة.. هذا الأسلوب أنفع من الضرب، فإذا ارتكب الطفل مخالفة كبيرة، كضرب طفل آخر، أو كسر حاجة معينة متعمّداً، أو استخدم كلمة بذيئة تعلّمها من الشارع، فما على الأبوين إلّا إنزال العقاب به، بأمره بالذهاب إلى الغرفة وعدم الخروج إلى الشارع لفترة غير محدودة، وهذا في الواقع رادع كبير يردع الطفل عن ارتكاب المخالفات.. وفي أثناء فترة الحجز سيأتي الطفل معتذراً نادماً على تلك الفعلة التي فعلها، ودور الأب هنا هو أن يأخذ المواثيق من الطفل بعدم ارتكاب مثل ذلك العمل، وإلّا فإنّ العقاب جاهز مرة أخرى..

2- حرمان الطفل المشاغب من إعطائه بعض الامتيازات المُعطاة له سابقاً، مثلاً حرمانه من الحلوى، أو حرمانه من ركوب الدراجة أو السيارة.. إلخ، حتى يندم على ما فعل ويرجع إلى الطريق السليم في التعامل..

3- آخر الدواء الكيّ، كما يقولون، إذا لم يذعن الطفل لكلّ هذه الطُّرق في سلوك الأسلوب الصحيح، فما على الأب بعد ذلك إلّا أن يستخدم العصا الغليظة التي تؤلم ولكن لا تترك أثراً، لردع ذلك الطفل المشاغب من ارتكاب أعماله التخريبية.►

 

المصدر:  كتاب الأخلاق القرآنية

ارسال التعليق

Top