• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

وقفة متأمّل بين هضبات الفكر

السيد عادل العلوي

وقفة متأمّل بين هضبات الفكر
من الواضح انّ الثقافة الإسلامية وعلى ضوء دينه الرصين، تستمد معلوماتها وحيويّتها وتفاعلها مع الفرد والمجتمع على كلّ الأصعد المحليّة والأسرية والاقليمية والدولية والعالمية من منبعها الصافي ومعدنها الذهبي: كتاب الله القرآن الكريم والسنّة الشريفة. إلا انّه عند ما يمرّ هذا الماء الزلال بأرض سبخة، وهذا المعدن الشفّاف يختلط بمعادن غير نظيفة، فانّه يفقد تلك الإصالة، وتنقلب الثقافة التي أحلى من العسل والسكر إلى ماء مجّ ومملوح، كالماء الذي يجري من منبع صاف على أرض مملوحة عجاجيّة، فانّه يتبدل حلوه إلى المالح، وصفاته إلى المجّ الأغير، عسى أن يروي ظمأه بماء معين، والحال كما قال سبحانه وتعالى: (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) (الملك/ 30)، ويحكم القرآن الكريم بما أنزل الله، ويظهر الدين الإسلامي على الدين كلّه، وأن يكون الإنسان – الرجل والمرأة – من أولياء الله وأحبّائه وأخلائه، ومن كان خليل الرحمن كإبراهيم (ع) فإنّ الله يريه ملكوت السماوات والأرض بقلبه، كما يريد ملك السماوات والأرض بعينه، فيقف على حقائق الأشياء كما هي بالهام من ربّه، ويأتيه الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، فكان عالماً وحكيماً يعلم بالشيء كما يعلم بلوازمه وما وراء العلم من الفهم وإدراك الحقيقة، ويستلذ بعلومه ومعارفه في كلّ آن من حياته، كالذي يأكل الطعام ويشرب الماء طيلة حياته، ولا يقول لنفسه لماذا آكل أو اشرب، ويظهر التضجّر من ذلك أو يتكاسل عنه، إذ انّه في كلّ مرّة يأكل ويشرب بلذّة مهما كان الطعام نوعه مادام كان حلالاً طيّباً، وكذلك المتعلّم على سبيل النجاة والعالم الرباني، فإنّهما على موائد القرآن الكريم مأدبة الله والسنّة الشريفة والأحاديث في مدرسة أهل البيت (ع)، فإنّه يتلذّذ في كل مرّة بلذّة تفوق اللذائذ المادية والشهوانيّة، إلا إنّه إنما يتمّ ذلك بشرطها وشروطها، كما هو مذكور تفاصيلها في علم الأخلاق وفي العرفان الصحيح والسير والسلوك. ومن هذا المنطلق المقصود من تأسيس المراكز الدينية وقيمة ذلك أن يربّى الإنسان ويصنعه ليستخلف ربّه في علمه، ويكون مرآة لصفاته العليا ومجلىً لأسمائه الحسنى، إلا إنّ الناس يرون ظاهر الحياة الدنيا، ويؤمنون بالمحسوسات قبل المجرّدات، لغلبة المادة عليهم وشخوص النزع المادية فيهم، فيرى البيت الجميل وعمرانه وشموخ هندسته، ويرى سلامة المريض وبرئه بعد رجوعه إلى الطيب، فيقف على أهمية الطب والهندسة، فيرسل ولده ليكون طبيباً أو مهندساً، ويعتبر من يدخل المركز الديني إنّما من الأبناء المتخلّفين، وانّه يعيش على فتات موائد الناس، ويبتلى بالاستعطاء والتكدي ويعيش حياة الفقراء، وقد غفل انّ هذا الذي يدرس في المراكز الدينية إنّما مقصوده تربية الإنسان في ساحة روحه التي هي أفضل من جسده، كفضل الراكب الفارس على الدابّة المركوبة، فما الجسد إلا دابّة للروح الإنسانية التي هي من روح الله جلّ جلاله (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر/ 29)، فلا يقف من يعيش الماديات على دور المعنويات والنزعة الروحية المعنوية، وأهمية علوم العقائد والفقه والأخلاق التي تدرس في المراكز الدينية وتأثيرها البالغ على الفرد والمجتمع. ثمّ كل إنسان لابدّ أن يصل إلى هدفه المنشود فيه كما أخبر سبحانه (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، وأساس العبادة التي هي من أهم أركان فلسفة الحياة وسرّ الخليقة هي المعرفة، فلابدّ للعباد أن يروا ماذا يريد الله منهم، فكما قال عزّ وجلّ: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة/ 122)، فلابدّ للأُسر المسلمة والمجتمعات الإسلامية من إرسال مجموعة من أولادهم الأذكياء النجباء الذين عليهم سيماء الصالحين من إرسالهم إلى المراكز الدينية، لسدّ الفراغ، وليخرج منها عباقرة وأفذ إذ يساهمون في صنع التاريخ وتربية الإنسان جيلاً بعد جيل، ومعرفة رسالة المحبوب، فإنّ الله حبيب القلوب، قد أرسل رسالة وهو القرآن الكريم إلى الخلق، وفهمها وما فيها من الحياة الطيّبة للناس كافّة في المراكز الدينية، وما يلحق بها ويصدر عنها، فالمقصود من دروس المراكز الدينية سواء المتون أو الهوامش والمقدمات إنما هو فهم رسالة المحبوب جلّ جلاله. وعلى طالب العلم أن يتحمّل كلّ الصعاب والمتاعب والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من أجل هذا الأمر العظيم والقيّم الشامخ، فإنّه من تعلّم لله وعمل لله وعلّم لله دُعي في ملكوت السماوات عند الملائكة أنّه عظيم، حتى لو استضعفه الناس في الأرض، فإنّه يكفيه فخراً وجلالةً انّه يُدعى في ملكوت السماوات عظيماً، كما أنّ الملائكة لتضع أجنحتها في الأرض تحت أقدامه، فيمشي على أجنحة الملائكة، ويسلك به طريقاً إلى الجنّة التي عرضها السماوات والأرض، فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وما لم يخطر على قلب بشر، وذلك الفوز العظيم. ولمثل هذا فليعمل العاملون وليتنافس المتنافسون، فإنّه لو علم ما في طلب العلم من العظمة والشموخ والأجر والثواب والمقامات الرفيعة والمنازل السامية، لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللّجج، إلا انّ الإنسان كان ظلوماً جهولاً، ليفجر أمامه، فكان في خسرٍ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق والحقوق والحقائق، وتواصوا بالصبر على المحن والكوارث والرزايا والمصائب والبلايا، فانّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن إمتحان وإختبار، وللأنبياء درجات، وللأولياء كرامة، فالبلاء يختلف باختلاف الظروف، ومن باب التشبيه نقول الظرف والكأس الأبيض للأنبياء، والأحمر للظالمين، كالمذنبين الذين ظلموا أنفسهم والأصفر وهو لون العباد والعبادة للمؤمنين، والأخضر وهو لون المعارفين والمعرفة للأولياء المقرّبين، فتأمل وتدبّر فإنّ النفس لأمّارة بالسوء، فمن أعانها على السوء، فقد قتل نفسه، ويكون ميتاً بين الأحياء، بل يخرج عن لباس الإنسانية البيضاء ليدخل في جلود الحيوانات على اختلاف أصنافها باختلاف أخلاقه وصفاته التي تتجسّد كأعماله يوم القيامة، فيحشر بحقيقته الملكوتيّة، التي تتمثّل بصفاته وأعماله التي يكتسبها في حياته، حتى تكون ملكات راسخات في نفسه، فتتجسّد يوم القيامة بمالها من أشكال وصور حيوانيّة وسبعيّة، وعندئذٍ الخزي والعار لم يدخل النار، التي تتطلّع على الأفئدة نار الله المؤصدة. إنّ الله هو الحق الثابت مطلق الكمال والكمال المطلق، فهو القدوس السبوح، له الحمد كما هو أهله ومستحقّه، فإنّه نور الأنوار وعلّة العلل مستجمع الصفات الجلالية والجمالية، فلا يقاس به أحد، وما سواه إن تجلّت فيه الإسم الأعظم – إسم الجلالة (الله جلّ جلاله) – كان الإنسان الكامل حامل علم الله فيكون مطلقاً كما سواه في عالم الخلق، ولا يقاس به أحد من خلق الله، وكان في ذاته وأفعاله وأقواله وأحواله مقدساً وكان من الثوابت، فإنّه مظهراً لثبوت الله ومرآة لحقانيّته لا أنّه قيداً لوجوده المطلق حتى يلزمه وحدة الوجود الباطل، فهو بالنسبة إلى الله يكون نسبياً، إذ انّ الله هو المطلق الحق، إلا انّه بالنسبة إلى ما تحته من فيض وجوده ورحمته يكون مطلقاً، وما دونه نسبياً، كالرسول الأعظم محمد (ص) وآله (ع) فانّهم الحقيقة المحمديّة، التي أوّلها محمّد وآخرها محمّد وأوسطها محمّد وكلّهم محمّد (ص)، فكان الرسول محمّد (ص) رحمة للعالمين، أوّل ما خلق الله نوره وروحه، ولولاه لما خلق الله الأفلاك. هذا في إثبات المقدّس في الخالق والمخلوق، أمّا الجزئيات المتغيرة ففي ذاتها لم تكن مقدّسة، إلا انّها باعتبار الظروف المحيطة بها كالزمان والمكان والفرد والمجتمع ربما يكون مقدساً، إلا انّه في مجالات أخرى وعند إختلاف الأحوال والظروف تفقد قداستها، لتأخذ طابعاً جديداً في القداسة باعتبار عنصري الزمان والمكان، وكذلك المجتمع والفرد وأحواله، إذ انّ الحكم يختلف باختلاف الموضوعات المتغيّرة، وهذا من أبرز الفروق بين الثوابات والمتغيرات. إنّ الإنسان ذلك المخلوق الذي لا يزال مجهولاً، قد خلقه الله فسوّاه وعدّله، وفي أيّ صورة شاء ركّبه، في أحسن تقويم، فتبارك الله أحسن الخالقين، فكرّمه على خلقه، وشرّفه بخلافته في الأرض، ولم يكن شيئاً مذكوراً (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) (الإنسان/ 1). فخلقه في عالم الأجسام من نطفة أمشاج، وإبتلاه في ظلمات الرحم، وجعله يسمع ويبصر ليعرف الحقائق ويعرف نفسه، فيعرف ربّه (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) (الإنسان/ 2). ثمّ هداه السبيل بانزال الكتب وبعث الأنبياء وإرسال الرسل، ومنحه العقل الذي يكسب به الجنان، ويعبد به الرحمن، وألهمه التقوى والفجور، وعرّفه طريق الحق وطريق الباطل، فأمره بالحق، ونهاه عن الباطل، ومن عظمة الإنسان أنّه خلقه مختاراً وحرّاً في إختيار أحد الطريقين (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3)، يشكر نعم الله بالعبودية له، وقليل من عبادي الشكور، أو يكفر بنعم الله، وكثيراً ما يكفر، وأكثرهم للحقّ كارهون، لا يفقهون ولا يعقلون (لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/ 179). والله سبحانه لم يرض للإنسان أن يكفر (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا) (الإنسان/ 4)، فالناس على صنفين: منهم من يريد الدنيا وحطامها، فيعجّل الله له، ويملي عليه ليزداد إثماً، ويصلى سعيراً (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) (الإسراء/ 18)، ومنهم من يريد الآخرة، وما دنياه إلا متّجراً ومزرعةً لآخرته فيسعى لها، وكان سعيه مشكوراً بجنّات ونعيم (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (الإسراء/ 19). فالمؤمن الذي يعمل الصالحات ويتسابق إلى مغفرة ربّه، ويتكامل ويسارع إلى الخيرات يعيش أفضل الحياة الطيِّبة في الدنيا والآخرة، ولا تكون حياته الدنيوية لهو ولعب وزينة وتفاخر في الأموال والأولاد، كما كان من شأن الصنف الأوّل (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ...) (الحديد/ 20).   المصدر: كتاب (نظرات في الإنسان الكامل والمتكامل)

ارسال التعليق

Top