تغترب بعض العربيات بحثاً عن لقمة العيش، بينما تغترب أخريات لتحقيق طموحات مهنية. وسواء أكان السبب الحاجة المادية، أم البحث عن آفاق أوسع للعمل، فإن "أعراض" الغربة سرعان ما تطفو على السطح. فما هي هذه الأعراض وهل تنجح الفتيات العربيات في التغلب عليها؟
شوق إلى الأهل، قلق دائم على أحوالهم، حنين إلى الوطن، إحساس بالوحدة. أليس هذا ما يعانيه الإنسان إذا كانت الظروف قد دفعته إلى التحليق خارج سرَبه، بعيداً عن وطنه وأهله؟
فكيف تكون الحال إذا كانت المغتربة شابة عزباء، دفعتها ظروف العمل إلى الإقامة في بلد آخر، وحدها، بعيداً عن أهلها؟ ما هموم الفتيات في الغربة؟ كيف يدبّرن أمورهن؟ كيف يقضين الأعياد بعيداً عن الأهل والأصدقاء؟ هل تهزم الغربة الفتاة أم أن الحاجة تدفعها إلى اختراع حلول ولو ترقيعية، تتحايل بها على وحدتها لتبقى صامدة إلى حين موعد الإجازة الصيفية والعودة إلى عش أهلها؟
- الكوب الوحيد:
كثيرات هن الفتيات اللائي لا يقدِّرن قيمة تناول الطعام في جو أسري، وهن مقيمات في كنف أهلهن. لكن اللواتي يجدن أنفسهن بين براثن الغربة، يعرفن منذ الأيام الأولى أهمية هذه النعمة ويفتقدنها.
كلما حان موعد وجبة العشاء، أضع على مائدتي طبقاً واحداً، وكوباً واحداً وشوكة وسكيناً لا ثاني لكل منها" تحكي ميادة (مديرة خدمة الزبائن في مركز تجاري كبير في دبي) "يتكرر المشهد كثيراً، حتى سئم كوبي من وحدته وتمنى أن يصير له شركاء على المائدة، أكواب أخرى تؤنس وحدته، يبثهم شكواه من تلك الفتاة التي تغادر البيت في الصباح الباكر ولا تعود إليه إلا كي تنام. أما شوكتي وسكيني فيشتكيان من كآبتي، كلما وضعتهما على الطاولة أتذكر مائدة أهلي العامرة وأكل أمي اللذيذ، فأمطرهما دموعاً".
هذا المشهد الحزين لا يتكرر فقط في بيت ميادة، الشابة السورية التي اتخذت قرار الغربة الصعب عندما عرضت عليها وظيفة لم تكن تحلم بأن تشغلها في بلدها وهي بالكاد في سن الخامسة والعشرين، بل يحدث في بيت أو غرفة كل فتاة مغتربة. فوقت تناول وجبات الطعام هو وقت حساس بالنسبة إلى الفتاة المغتربة، سواء أكانت تسكن وحدها أم تتشارك السكن مع إحدى صديقاتها، فهي تقارن بين أكلها، الذي اشترته أو الذي طبخته بخبرتها القليلة، وبين أكل الوالدة التي كانت تطبخه بكل حب.
تقول اللبنانية مايا (مديرة مبيعات، مغتبربة منذ ثلاث سنوات في أبوظبي): "مستحيل أن أتناول الطعام وحدي، الوحدة كفيلة بأن تقضي على شهيتي مهما كان الطعام لذيذاً، أتناول طعامي دائماً في مكان ما خارج البيت". وقد توصَّلت مايا مع مرور الوقت إلى حل تتحايل به على وحدتها وحنينها إلى لَمَّتها مع الوالدين والإخوة حول مائدة الطعام، ولو أنه حل مكلف وجزئي "إذا حصل وأكلت وجبة في بيتي فإني أتصل هاتفياً بأمي لكي نتبادل الحديث وأنا آكل، ونبقى كذلك حتى أنتهي من تناول الطعام".
- أعياد بلا طعم:
يزداد إحساس مايا، كفتاة مغتربة بالوحدة والحنين إلى الأهل عند حلول الأعياد، فالمناسبات مثل عيدي الأضحى والفطر وشهر رمضان وأعياد الكريسماس، مناسبات تختلف أجواؤها من بلد عربي إلى آخر وإن تشابهت في غاياتها، وتكون مناسبة لصلة الرحم مع الأهل والأحباب، وتقاسُم البهجة بين أفراد العائلة الكبيرة، من خلال إعداد الزينة وتحضير أطباق خاصة والالتفاف حولها. تقول: "لقد اعتدت، منذ قُدومي إلى هنا، أن أسافر إلى لبنان في عيد الفطر للاحتفال به مع أهلي، لكن الأمر تعذر هذه السنة، فلم أذهب. يوم العيد جلست إلى نفسي وتخيلت أهلي وهم يحتفلون بأجواء العيد من دوني فأغرورقت عيناي بالدموع وانخرطت في البكاء".
- عيد مستحيل:
هذه الفتاة، تسعفها إجازاتها أحياناً لقضاء بعض أيام العيد مع أهلها، لكن هناك فتيات فقدن كل أمل في قضاء أحد الأعياد مع الأهل. لماذا؟
حنان، شابة مغربية (موظفة في محل ملابس منذ ست سنوات في أبوظبي)، توضح: "فترة إجازات الأعياد في الإمارات، هي فترة ذروة المبيعات في جميع المحال، خصوصاً الملابس، إذ ينتعش إقبال الناس على التسوق. لذا لا يمكننا أبداً أن نغلق المحل ونأخذ نحن أيضاً إجازة. عطلتي مرة واحدة في السنة، في فصل الصيف، لهذا لا أقضي الأعياد أبداً في المغرب".
- أطلب العمل يوم العيد:
وبالنسبة إلى البنات اللائي لا يسافرن لقضاء العيد مع أهلهن، تتعدد الطرق التي يعشن بها يوم العيد. من تونس قَدمت سلوى قبل ست سنوات للعمل في مجال السياحة في أبوظبي، ما يعني أنها قضت أكثر من خمسة أعياد بعيداً عن أهلها, وعن هذه التجربة تقول: "لا أشعر بالغربة إلا في الأعياد والمناسبات، وهذا الإحساس لم أنجح أبداً في التغلب عليه "تعترف سلوى وتسترسل، "في البداية كنت أحتفل بالعيد برفقة صديقاتي، وأكلِّم أهلي بالهاتف لأهوّن على نفسي قليلاً، لكن مع توالي الأعوام أصبحت أطلب من مديري أن أشتغل في العيد، حتى أنسى أنه يوم عيد".
وسواء تعلق الأمر بعيد الفطر أم بعيد الأضحى أم بأعياد الكريسماس أم غيرها فإن الكل في الغربة سواء. ريتا التي اغتربت قبل سنة للعمل في مجال الاستثمار في الإمارات قادمة من لبنان، تشعر بالحنين نفسه إلى الأهل أيام الأعياد، لكنها تتحايل عليه وتحاول أن تكون سعيدة بأي ثمن، "الأعياد المسيحية أقضيها مع أصدقائي وصديقاتي، نجتمع ونحاول أن نخلق جواً جميلاً يشبه الجو الذي نعيشه في لبنان أثناء الأعياد".
الأمر نفسه تفعله سيلفيا (مضيفة طيران من بلغاريا، تقيم في أبوظبي منذ سنة ونصف السنة)، "غالباً ما تصادف أيام الأعياد أيام عمل، وإذا لم يكن الأمر كذلك فإنني أجتمع مع صديقاتي، ونحاول أن نخلق جواً شبيهاً بجو العيد في بلدنا، من خلال تحضير الأطباق الوطنية التقليدية والاستمتاع بها".
- المغتربة لقمة سائغة؟
هناك هَمٌّ من نوع آخر يُثقل كاهل الفتاة العربية المغتربة، بل يجثم على صدرهان خصوصاً إذا كان اغترابها في بلد عربي مثل بلدها، له مرجعية دينية إسلامية وتقاليد محافظة، مثل تلك التي نجدها في أي بلد عربي. وتكشف عن هذا الهَمّ فتاة مصرية، إنها مها التي تقيم في الإمارات منذ ثلاث سنوات، وتعمل في قطاع السياحة "لا تزال لدى البعض في المجتمع العربي نظرة ظالمة إلى الفتاة التي تعيش وحدها، أو تعيش من دون رجل، فالبعض يحاول مضايقتك ولو بكلمة"، وتواصل مها بكل ثقة بالنفس، "يُخطئ مَن يعتقد أن الفتاة التي تسكن وحدها سهلة المنال، يجب أن يقدِّروا أن بعض الفتيات يُدفعن إلى الغربة دفعاً لأنهن العائِلات الوحيدات لأسرهن".
- رقابة ذاتية:
لدَى مها وجهة نظر في موضوع ذي صلة، ألا وهو رقابة البنت الذاتية على نفسها في الغربة، فبالنسبة إلى مها، في الغربة رقابة البنت على نفسها تكون زائدة على اللزوم، أو مبالغاً فيها، "عندما كنت في بلدي لم أكن أبالغ في الأمر، لأن كل الجيران والمعارف يعرفونني ويعرفون أنا ابنة مَن وما هي تربيتي ومدَى تديني. أما في الغربة فلا أحد يعرف هذا وعليّ أن أبرهن لهم أني فعلاً محترمة"، فقاسمتها مايا اللبنانية التي تحدثنا إليها من قبل الرأي قائلة: "لكونها تعيش وحدها، يعتقد الكثيرون أن البنت المغتربة مُعَّرضة أكثر لأن ترتكب سلوكيات غير مسؤولة، فتكثر الأقاويل حولها، في حين أن هناك بنات يرتكبن أفعالاً مسيئة إلى السمعة في بلدهن ولا أحد ينتبه". وتستدرك مايا متفائلة: "عموماً هذا لا يشكل لي هنا مشكلة كبيرة، حيث إن شخصية البنت إذا كانت قوية فإنها كفيلة بالتغلب على هذه المشكلة من البداية". وتشاركها في رأيها الأخير كل من سلوى التونسية وحنان المغربية، لدرجة أنهما تختلفان تماماً مع مها المصرية، حيث اتفقتا على أن اغتراب الفتاة أصبح أمراً عادياً في المجتمع العربي، لأن هذه الظاهرة أصبحت منتشرة ومألوفة، وحتى إن شعرتا في بعض الأحيان بأن الأنظار مصوّبة نحوهما فإن رأيهما هو "لا أهتم" أو "لا أعاني هذه المشكلة، فحسن تصرفي وتقديري للمسؤولية يفرضان على الآخرين احترامي"، كما تقول حنان.
- عضلات:
فرض الاحترام قد يتطلّب أحياناً "عضلات" كما تقول ريهام، (مصورة صحافية فلسطينية، مقيمة في أبوظبي)، وليس عضلات بالمعنى الفيزيولوجي، فريهام تبدو فتاة فائقة الأنوثة، لكن عضلات بمعنَى جهد، خصوصاً في العمل "لم أتعرّض أبداً لمضايقات، ربما لأني أفرض عضلاتي، وأتجاهل نظرة الناس والتحدي المهم، بالنسبة إليَّ هو أن أثبت كفاءتي في العمل".
- مريضة ما وراء البحار:
ماذا تفعل الفتاة المغتربة عندما يقعدها المرض عن العمل وتصبح طريحة الفراش، ولو لأيّام؟ من يأخذ بيدها ويسهر على تقديم الطعام والدواء لها، خصوصاً إذا كان المرض معدياً؟ من يعطيها من الزاد حناناً يعينها على الوصول إلى برّ الشفاء؟ ماذا تفعل الفتاة التي تجد نفسها طريحة الفراش وبينها وبين أُمّها آلاف الأميال؟ إنّ المرض واحد من الظروف التي لا تتمناها أي فتاة مغتربة، لأنّه فعلاً يكون وقتاً صعباً يشعرها بالإنكسار. هذا بالضبط ما وجدت ريهام نفسها فيه، "قبل أن يمضي على وصولي إلى البلد شهر واحد، أصبت بمرض لم أفهمه في البداية، على الرغم من أنّه كان من المفترض أنّه يُصيبنا في سن الطفولة، حمى وآلام، وخلال ساعة أصبح جسمي كله مغطى بالحبوب. ولأني أسكن وحدي، إضطررت إلى أن أعتمد على نفسي للذهاب إلى المستشفى. بعدها اتصلت بصديقتي، فأحضرت لي بعض الطعام لكنها، لم تستطع البقاء معي أكثر لأنّ المرض كان مُعدياً". تضحك ريهام الآن وهي تتذكر التفاصيل "لحسن الحظ أصبحت بخير بعد أسبوعين، كنت خلالهما لا أتخطّى عتبة البيت، وكنت على إتِّصال يومي بأُمّي عبر الهاتف".
- أزمات ربو:
وبينما كانت ريهام تضحك لأنها تعرف أن مرضها أصبح مجرّد ذكرى، فإن زميلتها الفلسطينية جمانة (مقيمة في دبي منذ سنتين وتعمل في مجال العلاقات العامة) تحكي عن مرضها بألم، لأنّه لا يزال مستمراً، "لا أنسى أبداً أوّل مرّة تعرضت فيها لأزمة ربو بعد وصولي إلى هنا، عانيت كثيراً لأني كنت حديثة العهد بالمدينة ولا أصدقاء لي، وذهبت إلى المستشفى وحدي" وتسترسل: "لكن الآن تأقلمت مع الوضع". أمّا آسية (جاءت من المغرب قبل ستة أشهر فقط لتعمل "مندوبة مبيعات" في محل ملابس) فلم تتأقلم بعد مع مرضها، "عندما تصيبني نوبة الربو المفاجئة أجد نفسي وحيدة، يحدث هذا غالباً في الليل، فأستجمع قواي الخائرة أصلاً وأذهب إلى المستشفى لآخذ علاجي. تصيبني هذه النوبة مرّتين في الأسبوع على الأقل، فكوني أعمل في محل للملابس فإن تعرضي للقطن والصوف يزيدان معاناتي". تبتسم آسية في سخرية مختلطة بمرارة: "طبعاً لديَّ هموم أُخرى تطرد النوم من جفني عندما أضع رأسي على الوسادة، مثل الشوق إلى الأهل والوحدة وغلاء المعيشة، لكن مشكلتي الصحية تنسيني كل مشكلاتي".
- محرومات حتى من الوداع:
هموم البنات في الغربة أنواع وألوان، وينطبق عليهنّ المثل العربي "اللي يشوف هموم الناس يهون عليه همّه". بعض الهموم تتغلّب عليها البنات بمجرد أن تُمنِّي نفسها بأمل العودة إلى بيت الأهل لقضاء الإجازة الصيفية، أو حتى العودة النهائية للإستقرار في الوطن، لكن هناك هموماً تسببها الغربة، وتبقَى جرحاً محفوراً في أعماق الروح، وشرخاً في ثنايا النفس لا يُرمّم، وأحياناً يجعل البنت تحقد على الظروف التي جعلتها تُحرم حتى من مشاركة أهلها أحزانهم. ولعلّ رأي صليحة من الجزائر (تقيم في أبوظبي منذ أربع سنوات وتعمل في شركة خدمات) أبرز دليل على ذلك "توفي أخي السنة الماضية وأنا هنا، حزنت حزنين، حزناً لفقده وحزناً لأني لم أستطع توديعه"، وتتسابق الدموع من عينيها منهمرة "استقللت الطائرة في اليوم نفسه، عسى أن ألقي عليه النظرة الأخيرة، لكني وصلت متأخرة". الدموع نفسها، بالطعم نفسه ذرفتها حنان المغربية التي حدثناها قبل قليل، وهي تتحدث عن فقد عميها دون أن تحضر دفنهما، "أكبر ذكرى سيِّئة لي في الغربة هي عندما توفي عماي، توفي الأوّل ولم أستطع أن أكون هناك لتوديعه، وتوفي الثاني في السنة التي تلتها ولم أره أيضاً ولم أحضر دفن أيّ منهما. أحدهما كنت أحبه كثيراً مثل أب وصديق لي، ولدي ذكريات جميلة معه، لهذا لا أزال أبكي كلما تذكرته". عانت حنان مرّتين من فقد شخص عزيز عليها وهي في الغربة، ولا تزال كما تقول، خائفة بإستمرار، هي وكثيرات مثلها، من أن يتكرر الأمر مع شخص آخر من أحبائها، وتحول تجربة الغربة دون إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على من تحب.
- معاناة مزدوجة بعكس الرجل:
هموم الفتيات في الغربة بادية للعيان، وبالتالي فهي موضوع خصب وظاهرة إجتماعية لم يغفلها علم الإجتماع. ولمقاربة الموضوع مقاربة علمية متخصصة، حاولنا الإستنارة برأي عالم الإجتماع الدكتور موسى شلال، الأستاذ بشعبة علم الإجتماع، في جامعة الإمارات العربية المتحدة، الذي قال: "ظهرت في الآونة الأخيرة، بسبب الحاجة الإقتصادية والحاجة التعليمية، ظاهرة سفر المرأة وحدها دون أقرباء إلى بلد غير بلدها، سعياً إلى العمل أو التعليم. وعند حدوث سفر المرأة فإن كلاًّ من المجتمع والأُسرة يحمِّلانها تبعة ونتائج هذا السفر. لذلك، تصبح إشكالية هذه الظاهرة نوعاً من المحرمات، أي موضوعاً غير قابل للنقاش على الإطلاق.
يضيف الدكتور شلال، "دلت بعض البحوث العلمية في هذا المجال على أنّ المرأة التي تغترب من أجل الوظيفة تصرف جل دخلها على أسرتها التي تركتها خلفها في الوطن الأُم. فبدأت بعض المجتمعات تتقبَّل مثل هذه الهجرات، بعد نجاح الهجرات المماثلة التي تمت داخلها".
وعن الفرق بين معاناة المرأة العزباء، مقارنة بالرجل الأعزب الذي يكون في مثل وضعها وهما في الغربة، يقول الدكتور شلال "تعاني الفتاة التي تقرر السفر إلى دولة أخرى سعياً وراء الوضع الإقتصادي الأحسن، معاناة مزدوجة عكس الرجل. ويتضح ذلك من خلال عدد من المواقف الصعبة التي تجد نفسها فيها، فالفتاة المغتربة تشعر بأن عليها أن تثبت جدارتها في محيط عملها حتى تستطيع البقاء والنجاح فيه، ويعد هذا التحدي كبيراً ومهمّاً، من جهة أخرى "تشعر المغتربة بأن عليها أن تثبت للمجتمع الذي أتت منه أن محصّلتها الإقتصادية وما تكسبه، يُبرر إغترابها، لذلك فإنّها تسعَى جاهدة إلى أن تثبت ذلك عملياً بالتحويلات المالية الثابتة الدورية لأهلها في الوطن الأُم".
ولم يغفل العالم الإجتماعي، الضغوط النفسية التي قد تترتب على الضغوط الإجتماعية في هذه الحالة، "من جهة إجتماعية تصبح الفتاة المغتربة غير المتزوجة والبعيدة عن أهلها فريسة ضغوط نفسية أخرى، لا تصيب الرجل المغترب، بسبب عيشها دون أحد أقربائها الرجال في المجتمعات العربية الرجولية، فتكون مطمَعاً لكثير من ذوي النفوس الضعيفة من الذكور الذين يظنون أنها فريسة سهلة يمكن إقتناصها. ومن جهة أخرى لا تستطيع هذه الفتاة أن تنسى أو تتناسى هذا الوضع غير المريح، فهي في حالة حذر وخوف دائمين. وتحاول بشتّى السُّبل أن تثبت للمجتمع وأسرتها التي تركتها خلفها، وللمجتمع المضيف، أنها أهل للثقة ومثال للجدية وأكثر حفاظاً على سمعة الأسرة التي تعد سمعتها هي وشرفها جزءاً لا يتجزأ منهما. وهذا الوضع النفسي يسب كثيراً من الآلام ويجعلها تقلص من علاقاتها الإجتماعية التي هي في أمس الحاجة إليها. وقد يؤدي إلى فشل الكثيرات في الإندماج تماماً في المجتمعات المضيفة".
وعن أنواع المعاناة الأخرى التي تجد الفتاة نفسها فيها دون الرجل، يوضح الدكتور شلال "المرأة في حاجة دائمة إلى أن تحس بالحماية دائماً وأبداً. وتفقد الفتاة المغتربة ذلك بعدم وجود رجل من الأسرة بجانبها، وأيضاً بعدم وجود رجل مرتبط بها كي تسكن إليه ويسكن إليها".
ولم يغفل أستاذ علم الإجتماع هنا أن يلقي الضوء أيضاً على دور المجتمع المضيف للفتاة المغتربة، "بعض المجتمعات المضيفة قد لا تقبل هذا الوضع، ما يُعقِّد المسألة أكثر عليها. وتوجد في بعض هذه المجتمعات المضيفة قوانين ولوائح وفوائد للخدمة، صُمِّت فقط للرجل دون المرأة".
وفي الختام حرص الدكتور شلال على عدم التعميم، وقال: "إنّ كل حالات المعاناة التي قد تشتكي منها الفتاة العربية المغتربة، ينفي وجود الحالات المختلفة والمتعددة التي نجحت بصورة أو بأخرى، في الصمود أمام كل هذه الإشكاليات الإجتماعية، وتم لها تحقيق أهداف الغربة". مضيفاً أنّه من الطبيعي أن تكون مثل حالات الإغتراب هذه "إغتراباً مؤقتاً، ينتهي دائماً بإنتهاء الأهداف التي وِضعت وتم تحقيقها أو عدم تحقيقها".
- على المغتربة أن تشكل خلية علاقات وتتغلّب على المزاج السلبي:
* الدكتور فلاح الغزوان/ طبيب نفسي
1- ما المشكلات النفسية التي تتعرّض لها فتياتنا في الغربة؟
- تأتي الغربة بمثابة إنقطاع زمني وتغيير في المسار الذي اعتادته الفتاة في المجتمع الذي نشأت فيه تكوّن فيه كيانها. لا شك في أنّ للعامل الفردي أثراً في مدَى تعاطي الفتاة مع هذه المشكلات. ولكن إجمالاً لابدّ من مراعاة أمر مهم يتمثل من جهة في مسار تفكير الفتاة خلال هذه الفترة الزمنية من عمرها، التي تبحث من خلالها عن حالة من الإستقرار، ومن جهة أخرى يتمثل في الظرف الأسري الذي تتركه في بلدها وأسرتها، وما تمرُّ به من ظرف دفع بها إلى الغربة والإبتعاد عن كل ما يمكن أن يمثل آفاقاً إجتماعية بالنسبة إليها كفتاة أو كزوجة مستقبلية. يضاف إلى هذا حالة الإبتعاد عن الأُم وربّما الشقيقة أو المقربة اللواتي يتقاسمن معها كل ما تحتاج إليه في مشورتهم لمواجهة هموم حياتهم في مراحل مختلفة. كل هذا لا يمثل مشكلات نفسية بقدر ما يمثل ضغوطاً قد تؤدي إلى هذه المشكلات.
2- هل يمكن إعتبار هذه المشكلات حالات مرضية؟
- لا يمكن إعتبارها مرضية، ولكن كل مشكلة قد تتفاقم إلى مشكلة مرضية في حال لم تتمكن الفتاة من مواجهتها بشكل محكم وسليم.
3- ما نصيحتك لهنّ للتغلّب على همومهنّ هذه، ومشكلاتهنّ النفسية إن وجدت؟
- لا شكّ في أنّ التعاطي مع ظرف معيّن يتطلّب حالة من التكيف وبرمجة ذاتية لتمكننا من النجاح، ومن دون ذلك يشكل الواقع حالة من المعاناة التي لا يمكن أن يستمر معها الفرد، إلا بمزيد من النتائج السلبية. وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ الوعي بالمشكلات يُعدُّ الخطوة الأولى نحو هذا التكيُّف. ولكن إجمالاً يتعيّن أن تعمل الفتاة على إقامة خلية من العلاقات التي من شأنها أن تخرج بها من المزاج السلبي.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق