• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العانس.. هل هي تحت رحمة المجتمع أم العصر تغيّر؟

العانس.. هل هي تحت رحمة المجتمع أم العصر تغيّر؟

◄تُستخدم كلمة "العنوسة" لوصف الأشخاص الذين تعدّوا سنّ الزواج المتعارف عليه ومن الجنسين، إلّا أنّ الفتاة في مجتمعنا تبقى الأكثر تأثراً بهذه الكلمة وبنظرة المجتمع إليها، فتكتسب ومن حيث لا تدري "وصمة" عانس وبجدارة.

تختلف الآراء وإلى حدٍّ كبير، بين التسليم بأنّ الفتاة التي شارفت على سن الثلاثين من عمرها هي عانس بالفعل، وبين رفض اعتبارها كذلك ولو تجاوزت سن الزواج المتعارف عليه لدى فئات المجتمع كافة، مستندة إلى أنّ الزمن تغيّر والعصر تطوّر وبات للفتاة حرّية أوسع في اختيار حياتها الشخصية، سواء رغبت في أن تعيشها مع شريك أم لوحدها. وبين التسليم والرفض، هناك مَن يحاول إقناعك بحجته، مقابل آخر هو غير مقتنع في الأساس بأفكار يعتبرها بالية تعود إلى حُقبة الجهل والجاهلية.

في يومنا هذا، ما الأفكار الشائعة في محيطنا عن العانس؟ كيف ينظر إليها المجتمع؟ وهل لا تزال تحت رحمته أم العصر تغيّر؟

داليا فياض: "بعض الأُسر لا ترحمها ولم تتطوّر أفكارهم مع تطوّرات العصر"

"الفتاة التي تتقدم في السن ولا تتزوج "عانس" في نظر المجتمع وتحت رحمته، والعصر تطوّر ولكن أفكار الذين يعيشون فيه لم تتطور"، هي التجربة الشخصية التي تقود داليا فياض (مديرة دار أزياء) إلى الاعتراف بهذا. فبحسبها: "الأهل هم أيضاً من أفراد هذا المجتمع الذي لا يرحم العانس، لا تزال الأفكار المتخلّفة تأخذ حيزاً كبيراً من أفكارهم وتمنعهم من التطوّر مع التطوّر الحاصل، فنراهم أكثر من غيرهم يضيقون الخناق على ابنتهم الكبيرة في السن لكي تتزوج، وحجّتهم أنّهم يخافون عليها وأُمنيتهم أن ترتبط ليطمئنوا إلى مستقبلها".

تتنهد فياض وتتابع حديثها بشيء من التهكم: "وكأنّه لا مستقبل لفتاة إلّا بالزواج". تستسلم لضحكة خفيفة وتقول: "صحيح أنّني لم أتزوج حتى اليوم؛ ولكنّني لستُ خائفة على نفسي. أنا ناجحة ومنتجة وفعّالة في المجتمع، كما إنّني أتقدم بخُطى كبيرة نحو تحقيق أهداف حلمت بها وسعيت وراءها".

ونسأل فياض عن رأي أسرتها بحالة العزوبية التي تعيشها، فترد ممازحة: "أهلي مثقلون بهمّ عدم زواجي أكثر منّي، لا بل هم يفكّرون في الموضوع في حين أنّه يغيب عن بالي معظم الوقت. من وجهة نظرهم، يجب ألّا أبقى وحيدة ويُفرحهم أن أكوِّن أسرة وأختبر ما تختبره أيّة امرأة، وأعني الارتباط برجل والاستمتاع بالأُمّومة. احترم رأيهم ولكنّه لا يشكّل هاجساً في نفسي ولا يشعرني بأي ضغط يُذكر، لأنّ اهتماماتي وانشغالاتي تلهيني عن التفكير بطريقتهم".

وتنهي فياض كلامها مكرّرة ما ذكرته في مستهل حديثها: "العصر سبق الناس. نعم، لقد تطوّر ولكنّه لم يحمل التطوّر الفكري لشريحة كبيرة من أفراد المجتمع، وكأنّه تركهم في زمن آخر أو في عصر سابق".

دانة الدوسري: "نعتها بالعانس هو وصمة غير جميلة ولا تليق بالفتاة ولا بأنوثتها"

تخالف داونة الدوسري (مصممة أزياء) داليا الرأي، وتعلّق: "المجتمع العربي لم يعد ينظر إلى الفتاة نظرة غريبة أو يُمارس عليها الضغط النفسي غير المُبرر، فيما لو تجاوزت الثلاثين ولم تتزوج، علماً بأنّه حتى الأمس القريب كان ينعتها بـ"العانس"، وهو نعت بمثابة وصمة غير جميلة ولا تليق بها وبأنوثتها. وبالفعل لقد تحوّل إلى مجتمع متفهّم ومتطوّر بأفكاره، إلى درجة أنّه لم يعد يعير الفتاة اهتماماً في حال تجاوزت الأربعين ولم تتزوج، إنما يهمه ما تحقّقه وتنتجه في مختلف الميادين".

وتشرح الدوسري وجهة نظرها قائلة: "لقد تغيّرت ثقافة المجتمع العربي ولم يعد الأفراد يميّزون بين الولد والبنت، إنما يبنون أحكامهم بشكل عملي على إنجازات كلّ منهما، متزوج أو عازب". وتختتم: "هذه الأفكار المتطوّرة التي أخذت مكان الأفكار البالية والرجعية، بالتأكيد تصبّ في مصلحة تطوّر الفتاة النوعي الفكري والمعنوي، وتقدّم لها الدعم المطلوب الذي من شأنه أن يحثّها على التقدّم بخطوات واسعة نحو مستقبل مشرق، ويزيدها ثقة بنفسها وقدرتها، ويمكِّنها من الوصول إلى أهدافها بأريحية كانت لا تتمتع بها في السنوات الماضية".

ريم الزرعوني: "عرفت الفتاة كيف تنال حرّيتها عن جدارة في اختيار حقّها في الحياة"

ريم الزرعوني (سيِّدة أعمال)، هي الأخرى ترى: "أنّ الفتاة التي كانت تصل إلى منتصف العشرين من عمرها من دون أن تتزوج "عانس" لا محالة، وكنت شخصياً سأُنعَت بهذا الوصف فيما لو لم أتزوج في سن السابعة عشرة".

تبتسم الزرعوني وتكمل: "بالطبع كانت هذه نظرة المجتمع إلى الفتاة منذ مدة غير بعيدة؛ ولكن النظرة هذه تغيّرت مع تغير الزمن ومتطلّباته وأفكاره المتطوّرة، وساعد على هذا التغيير نجاح المرأة في تمكين نفسها بالدراسة والتعليم العالي، وكذلك بالعمل الدؤوب والمتواصل على إثبات قدراتها ومؤهلاتها المتقدمة على الصعيدين، النوعي والكمّي. لم يعد في الإمكان فرض الزواج على فتاة متعلمة إذا كانت غير مقتنعة به، ولا يلبي طموحاتها أو لا يتماشى مع مستواها الفكري والتعليمي".

تلاحظ الزرعوني وتفسِّر: "لقد فرضت الأنثى نفسها كشريك للرجل في المجتمع، وندٌّ له في خبرات العمل والمهن المختلفة، وعرفت كيف تنالو حرّيتها عن جدارة في اختيار حقّها في الحياة وفي المجال أو الميدان الذي تراه يناسبها". وتضيف: "في المقابل، بات المجتمع مُلزماً بالاعتراف بحقّها الشرعي هذا، لاسيما بعد أن أثبتت له أنّها تستحقه بالفعل، وبالتالي لم يعدّ يلزمها بالزواج كي لا يُسمّيها "عانساً"، بل ترك لها حرّية تقرير حياتها الشخصية بالشكل الذي تمليه عليها وجهة نظرها وقناعاتها، ويخدم مصلحتها وأحلامها".

د. جيهان حسين: "من الفتيات مَن تحجم عن الزواج بقرار شخصي بحت:

"لا يمكن لعاقل أن يتغافل عن حقيقة وجود مشكلة العنوسة في العالم العربي"، بهذه العبارة تعلّق الدكتورة جيهان حسين (الرئيس التنفيذي لمؤسسة the personal branding) على الموضوع، وتقول: "إنّ هذه المشكلة يحاول البعض إيجاد حلول لها بشكل فردي، بينما يحاول البعض الآخر التقليل من شأنها. ففي السابق كان المجتمع ينظر إلى الفتاة التي تصل إلى سن الثلاثين من دون زواج، على أنّها "عانساً" تعيش مرحلة حرجة تقل فيها فرص الزواج، وليس مسموحاً لها اختيار مواصفات خاصّة في زوج المستقبل أو وضع شروط لمن يدق بابها، بل عليها أن تتمسك بأي فرصة تتاح لها وترضى بأي شخص مقبول يتقدّم طالباً يدها، حتى لو أنّه لا يلبي تطلّعاتها أو له تأثير نفسي سلبي فيها".

وتشير إلى "أنّ الواقع يشير إلى أنّ العديد من الفتيات اللواتي تأخرن في الارتباط، يتعرّضن لحالات القلق النفسي والضغوط العصبية بسبب ما يدور حولهنّ (لاسيما من العائلة) من أقاويل عن تأخرهنّ في الزواج. خصوصاً اللواتي حساسات بطبعهنّ، ولديهنّ الاستعداد النفسي لدخول أزمات نفسية أو صراع مع الذات وصولاً إلى الاكتئاب وعدم النوم، فقط لأنّهنّ يعتبرن أنفسهنّ مختلفات عن بقية النساء ويفتقدن حياة الأسرة والأُمّومة. وهذا في حدّ ذاته نوع من الضغط المعنوي المتواصل الذي يشكّله المجتمع في وجدان العانس. هذه النظرة تغيّرت نسبياً ولم تعدّ تهم فتيات كثيرات وصلن إلى سن الثلاثين، ويرفضن وصفهنّ بالعوانس أو اعتبار أنفسهنّ ضحايا للأمراض النفسية التي ذكرناها".

وتعقّب د. حسين وتلفت إلى "أنّ هؤلاء الفتيات يؤمنّ بأنّ دورهنّ في الحياة لا يختزل فقط في الزواج، وخير ما فعلن لأنّهنّ أسهمن بشكل أو بآخر في تغيير نظرة المجتمع السلبية إلى الفتاة العانس". وتستطرد: "لم يعد في إمكاننا الإنكار بأنّ المجتمع قد تطوّر في نظرته إلى عنوسة المرأة. فبعد أن كانت تطلق صفة "عانس" على كلّ فتاة تجاوزت الثلاثين من عمرها، بات يبرر لها اليوم هذا التجاوز بسعيها إلى التعلّم والدراسة، ويعترف بحقّها في اختيار ما يناسبها".

وتتطرق د. حسين إلى رأي الشاب في موضوع عنوسة الفتاة، فتوضِّح: "إنّ الشاب الواعي والمثقف بات يبحث عن فتاة مثقفة ولم يعدّ يتأثر برغبات أهله وما يختارونه له، وبالتالي لم يعد يتوقف كثيراً عند عمر الفتاة بقدر ما يهمّه مستواها العلمي والثقافي". وتؤكّد على "أنّ نظرة الأسرة العربية تغيّرت أيضاً ووصلت إلى حدّ الوعي بأهمية دور الفتاة المجتمعي، سواء أكانت متزوجة أم عزباء، لا بل إنّها صارت تقدّم لها الدعم النفسي وتشجّعها على تحقيق ذاتها، سواء أكان من خلال الدراسة أم العمل".

وتختتم د. حسين تعليقها على الموضوع، بالقول: "اعتقد أنّ تأخر سن الزواج له أسباب عميقة، تكمن في عدم التوازن بين التطوّر الاجتماعي الذي حدث لوضع المرأة من حيث التعليم العالي والعمل، وبين الوعي الاجتماعي العام إزاء هذا الواقع الجديد. فالكثير من الفتيات يحجمن عن الزواج بقرار شخصي بحت، لأنّه بحسبهنّ يعوقهنّ عن تحقيق طموحهنّ العلمي والمهني، ويَعَينَ أنّ مسؤوليات الزوجة العاملة في مجتمعنا مضاعفة وتحمل العبء الأكبر. كما إنّ الفتيات الجامعيات يجدن في الأغلب صعوبة في اجتذاب العرسان، لأنّ البعض لم يصل بعد إلى درجة الوعي التام بأهمية علم وعمل المرأة".

د. أحمد الحمصي: "بعض الرجال يعتبرون العانس أنثى انتهت صلاحيتها ولم تعدّ تتمتع بالنظارة والحيوية":

تغيُّر العصر وتأثير المجتمع على الفتاة العانس، هو الموضوع الذي يركّز عليه الدكتور أحمد الحمصي (مستشار أسري)، فيشير إلى "أنّ تغيُّر الزمن قد يكون تمّ بالفعل بالنسبة إلى البعض، في حين أنّه لم يتغير بالنسبة إلى غيرهم. ذلك أنّنا نجد أنّ فئة كبيرة من المجتمع لا تزال تعيش في الزمن الماضي، مقابل فئة أخرى تعيش التطوّر بأشكاله المختلفة".

ويُنبِّه د. الحمصي إلى "أنّ الفتاة التي تتأخر في الزواج وتتحمّل وزر لقب "عانس" الثقيل، تعاني مشكلات كثيرة، أوّلها مع المجتمع، وثانيها مع العائلة، وثالثها مع نفسها. أمّا رابعها، فمع الرجل الذي سوف يتقدّم لخطبتها لاحقاً"، وشرح: "المشكلة تشتد وتخف بحسب شخصية الفتاة، فإذا كانت متعلمة وقوية، يكون التأثير طفيفاً فيها. أمّا إذا كانت غير ذلك، فسوف تتهم نفسها بقلة الجمال وبأنّها غير مرغوبة، وبالتالي يكون تقديرها لذاتها منخفضاً، ما يؤثر فيها ويجلب لها مشكلات نفسية لا تُعدّ ولا تُحصى، ثم ينعكس تأخرها في العمل والتقدّم في الوظيفة وفي مختلف نواحي الحياة".

وينتقل د. الحمصي ليتناول بحديثه مشكلة الفتاة "العانس" مع أهلها ومجتمعها، فيقول: "قد تشعر أسرة الفتاة العانس بأنّ عدم زواج ابنتهم يشكّل عبئاً عليهم، لاسيما إذا كانت عائلة كبيرة وأحوالها الاقتصادية معدومة أو تعاني التفكك. من ناحية ثانية، إنّ تدخل أفراد المجتمع في خصوصية الفتاة هو عبء في حدِّ ذاته تحمله الفتاة في كلّ مرة تنهمر عليها الأسئلة عن سبب تعذر زواجها، ويكون له الأثر السلبي العميق الذي يهدّد جوهر علاقتها بنفسها وأسرتها ومجتمعها".

وبالحديث عن مشكلة الفتاة العانس مع الذين يتقدمون لخطبتها، يقول د. الحمصي: "في الأغلب، إنّ الرجال الذين يتقدمون لطلب يد عروس "عانس"، يعتبرونها أنثى انتهت صلاحتيها ولم تعدّ تتمتع بالنضارة والحيوية التي تتمتع بها الفتاة الشابة، علماً بأنّ صفة "عانس" تُطلق في بعض المجتمعات على فتاة لم تتجاوز سن الـ25، ما يعني أنّ الثقافة الاجتماعية في مجتمعنا الشرقي، تجعل الرجل يعتقد أنّ الفتاة إذا تجاوزت سناً معيناً تصبح عانساً". و"الحل في مثل هذه القضايا لا يكون بمعالجة المجتمع ككلّ دفعة واحدة، بل يبدأ من خلال تقوية شخصية الفتاة وإقناعها بأنّ موضوع تأخر الزواج أمر وارد في عصرنا الحالي".

ويختتم د. الحمصي، ويحذّر: "لابدّ من أن تكون صاحبة قوّة وقناعة وإنجاز وعلم وعمل وتستطيع أن تعول على نفسها، فإذا كانت على هذا المستوى لن يهمها تأخر زواجها أو أقله لن تلجأ إلى الزواج بسبب الضعف. وعلينا ألّا ننسى أنّها إذا كانت بالمواصفات التي ذكرتها، لن تكون عبئاً على أسرتها، وسوف تُحسن اختيار رجل من مستواها الفكري والعلمي".►

ارسال التعليق

Top