لطالما أدرك علماء النفس التنموي والمعلمون، وكل مَن يهتم بمجال التربية والتعليم، أن القراءة للأطفال الصغار يمكن أن تحسّن كفاءتهم في القراءة على المدى البعيد، وتعزز اكتسابهم لمختلف المهارات المعرفية، مثل القدرة على الإصغاء والتفكير الإبداعي والتركيز لفترات طويلة من الزمن.
كما أن الفوائد تتراكم مع الزمن، إذ وفقاً لدراسة أُجريت على 250 زوجاً من الأطفال الرُّضّع بعمر 6 أشهر وأمهاتهم، والتي تم تقديمها في اجتماع الجمعيات الأكاديمية لطب الأطفال عام 2017، يمكن لكلٍّ من مقدار القراءة المشتركة للكتب بين الأمهات وأطفالهن التي تشمل عدد الكتب في المنزل والأيام التي تقضيها الأمهات في القراءة، من جهة، ونوعية هذه القراءة من جهة ثانية، أي مدى وطبيعة التفاعل بين الأم وطفلها، أن تكون مسؤولة عن تعلُّم مفردات ومهارات قراءة أفضل تمتد إلى 4 سنوات، لأنّ الطفل الذي يختبر القراءة يومياً سيسمع ما لا يقل عن 1.4 مليون كلمة في المتوسط قبل سن الخامسة.
تجدر الإشارة إلى أن قراءة الأطفال للكتب ليست بالممارسة الحديثة فحسب، إذ إن أولى وسائل القراءة للأطفال تعود إلى وقت بعيد جداً منذ أن بدأت المجتمعات باعتبار القراءة جزءاً ضرورياً من نمو الطفل، وفي هذا الإطار يقول مؤرخ أدب الأطفال بجامعة نيوكاسل في المملكة المتحدة كيم رينولدز: «لطالما كانت كتب الأطفال تهدف إلى المساعدة في تنشئة الطفل بطريقة أفضل وبجعله أكثر سعادة واطّلاعه على مختلف الأمور ومساعدته على فهم نفسه والعالم من حوله أيضاً».
ففي روما القديمة، كان أبناء النبلاء يقرأون قصصًا مكتوبة بخط اليد على لفائف ورقية بسيطة، ولكن مواد القراءة للأطفال لم تنتشر بشكل واسع إلّا في القرن الرابع عشر الميلادي بعد اختراع المطبعة، عندما أصبح ما يعرف بالـ «هورنبوك» أو «كتاب البوق»، الذي كان عبارة عن ورقة تم تثبيتها على إطار خشبي محميّة بصفائح رقيقة وشفافة ومزودة بمقبض تحتوي على أحرف الأبجدية، أو ما كان يعتبره الكبار ضرورياً لتعليم الأطفال مثل الأرقام والمواد الدينية وما إلى ذلك، شائعًا، لا سيما في إنجلترا وأمريكا.
في عام 1744، نشر جون نيوبيري «كتاب الجيب الصغير الجميل»، الذي تم نشره على نطاق واسع، والذي يُعتبر أول كتاب للأطفال يهدف إلى الاستمتاع، حيث كان يحتوي على مزيج من القوافي والألعاب والقصص المضحكة والرسوم التوضيحية. أما بحلول القرن التاسع عشر فقد بدأ المؤلفون يدركون أن الأطفال، مثلهم مثل البالغين، لديهم صراعاتهم الداخلية وميولهم وأوهامهم، فازدادت شعبية القصص الخيالية والقصص القصيرة المخصصة للأطفال، مثل «ملك النهر الذهبي» و«مغامرات أليس في دنيا العجائب».
ظهور الكتب الرقمية
مع ظهور الراديو والسينما والتلفزيون وألعاب الفيديو، تفاعل أدب الأطفال مع كلّ من هذه الوسائل الجديدة، مما وفّر مصدراً لحبكة القصص من جهة وتبنّي شخصيات تلفزيونية شهيرة من جهة أخرى.
وبحلول أوائل التسعينيات، بدأت الكتب المطبوعة تتطور وتضمّ صوراً مطوية تقفز فجأة من بين صفحات الكتاب، وأزراراً لتشغيل الأصوات، ومن ثم قفزت كتب الأطفال قفزة كبيرة نحو الرقمية، عندما أصدرت شركة الألعاب «ليب فروغ» ما يُعرف بلوح «ليب باد»، وهو لوح إلكتروني بلاستيكي يسمح للأطفال بالضغط على أزرار معيّنة ليتفاعلوا مع المؤثرات الصوتية وتعريفات الكلمات والقصص الموجودة عليه. ومن ثمّ توسعت تكنولوجيا الكتب الإلكترونية وخياراتها بشكل كبير مع إصدار شركة أمازون عام 2007 جهاز كيندل لقراءة الكتب الإلكترونية، ومع زيادة استخدام الهواتف الذكية وأجهزة iPad المتوافقة مع الكتب الإلكترونية، ازداد انتشار الكتب الإلكترونية، سواء في المنازل أو المدارس التي أصبحت تُدرج هذا النوع من الكتب بشكل متزايد في مناهجها، والمكتبات التي باتت تعمد إلى توسيع مجموعاتها من الكتب الإلكترونية.
اختلاف قراءة الكتب الرقمية عن الورقية؟
لكنّ السؤال الذي يطرح هنا: كيف تختلف نوعية قراءة الكتب الرقمية عند الأطفال عن «الورقية»؟ وهل تبقى القدرات الاستيعابية لنص مقروء بالطريقة الرقمية هي ذاتها مثل النصوص من الكتب الورقية؟ وهل أن القراءة المشتركة بين الآباء وأطفالهم تكون أفضل مع الكتب الورقية منها مع الكتب الإلكترونية؟
لا شك في أن الكتب الرقمية، مثل الكتب الإلكترونية وتطبيقات القصص وتطبيقات الكتب المصورة والقصص التفاعلية، لديها عناصر جذب كبيرة بالنسبة إلى الأطفال، مثل شخصيات الرسوم المتحركة التي تتمايل برؤوسها والأزرار التي يمكن أن تُصدر أصواتاً مثيرة، أو التي يمكن من خلالها تحريك الشخصيات ومساعدتها على تجاوز مواقف معيّنة. ومما لا شك فيه أن هذه العناصر التفاعلية تشكّل مصدر جذب كبيراً للأطفال، لكنها في الوقت ذاته، يمكنها أن تكون بمنزلة مشتتات للانتباه، وتؤثر على فوائد القراءة المشتركة.
وجدت دراسة قام بها باحثون من جامعة ميشيغان الأمريكية أن الآباء والأمهات أثناء قراءة الكتب الرقمية ينشغلون بالتكنولوجيا نفسها، بدلًا من التركيز على المحتوى، إذ تتحول المحادثات بين الأهل وأطفالهم إلى توجيه السلوك، مثل «توقّف عن الضغط على ذلك الزر»، أو «علينا الانتقال إلى الصفحة التالية»، أو «هل يمكننا تخفيف درجة الصوت؟» أكثر من مناقشة القصة في حد ذاتها.
ومناقشة القصة مع الطفل، مثل ربط أحداثها بحياة الطفل كسؤاله: «هل تتذكر عندما ذهبنا معاً لزيارة الطبيب؟» أو «هل تذكر ذلك الفيل الضخم الذي رأيناه في حديقة الحيوانات؟»، وطرح أسئلة على الطفل يطرحها الكتاب نفسه كسؤاله: «هل تظن أنه علينا مساعدة ذلك الطفل في الوصول إلى البيت؟»، ومحاولة استباق أحداث القصة، أو محاولة تحديد نهايتها من خلال سؤاله عمّا يظنّه سيكون الحدث التالي أو النهاية المناسبة، إضافة إلى طرح أسئلة مفتوحة عليه، مثل سؤاله عن رأيه في الكتاب بالمجمل، وكل هذه الأمور تعزز من قيمة القراءة المشتركة.
تشير الأبحاث إلى أن المحادثات التي يقودها الوالدان أثناء القراءة مهمة بشكل خاص للأطفال الصغار، لأنّهم يتعلمون ويحتفظون بالمعلومات الجديدة بشكل أفضل. وفي هذا الإطار تقول الطبيبة المتخصصة في طب الأطفال السلوكي التنموي، د. تيفاني منذر، إنه على غرار المناقشات المفيدة التي تنتج عن نوادي الكتب للكبار، فإن هذه المناقشات بين الأهل وأطفالهم أثناء القراءة تعزز لغة الطفل التعبيرية، وتساعد على توسيع عالم المعرفة لديه من خلال زيادة طبقة من التعقيد والعمق للقصة التي تتم قراءتها.
أطفالنا وتطوّر أدمغة القراءة الرقمية
من جهة ثانية، تقول الأستاذة المتخصصة في اللسانيات، مؤلفة كتاب «كيف نقرأ الآن... الخيارات الاستراتيجية للكتب الورقية والرقمية والصوتية»، نعومي بارون، إنه «فيما يتعلّق بالقراءة هناك مكونان أساسيان؛ الوسيط المادي والذهنية التي نقارب بها ذلك الوسيط، وكل شيء آخر يتبع بعد ذلك».
فنظراً إلى أنّنا نستخدم الشاشات لأغراض اجتماعية متنوعة وكذلك للتسلية، فقد اعتدنا جميعاً - بالغين وأطفالاً - على استيعاب المواد عبر الإنترنت، التي تم تصميم الكثير منها لتُقرأ بسرعة وبشكل عرضي، من دون بذل الكثير من الجهد.
وبالتالي، فهناك ميل إلى استخدام النهج نفسه للقراءة على الشاشة مع المواد الأكثر صعوبة التي نحتاج إلى التعلم منها والتباطؤ من أجل استيعابها بعناية أكبر. ويُظهر العديد من الأطفال منذ الأشهر الأولى اهتماماً بالهواتف والأجهزة اللوحية، وينجذبون إليها مع كل الأزرار والأصوات والأضواء التي تصدر عنها، ويربطونها في عقلهم الباطن بالمتعة والتسلية ووسيلة للعب ليس إلّا، لذلك عندما يعمد الأهل لاستخدامها كوسيلة للقراءة المشتركة معهم يتغلب الإلهاء في كثير من الأحيان على القدرة على التركيز والاستيعاب المعمّق.
وهناك مَن يتخوف ممّا يعرف بـ «أدمغة القراءة الرقمية»، التي تتطور عند الأطفال مع استمرار تعاملهم مع الأجهزة الرقمية، إذ كشف علم الأعصاب أن البشر يستخدمون أجزاءً مختلفة من الدماغ عند القراءة من نص مطبوع على الورق أو عند القراءة على الشاشة.
لذلك كلما نقرأ أكثر على الشاشات، يتحوّل عقلنا أكثر نحو القراءة «غير الخطية» - وهي ممارسة تتضمن أموراً مثل القراءة السريعة، أو إلقاء نظرة سريعة لتصفّح كل ما هو موجود على صفحة الويب، أو أكثر تحديداً، عندما نقرأ كتاباً أو مقالة مطبوعة - فإننا نتتبع تسلسل قراءة يبدأ مع بداية النص ويتقدم عبر النص بشكل منهجي، لكن عندما نقرأ على الشاشة، فإننا نقفز بشكل متكرر من مكان إلى آخر باستخدام روابط تشعبية توجهنا إلى صفحة ويب مختلفة.
مهارة مكتسبة
تقول الكاتبة المتخصصة في شؤون التكنولوجيا، مانوش زومردي، إن «المشكلة هي أن الكثيرين منّا قد تكيّفوا مع القراءة على الإنترنت بشكل جيد للغاية، لكنهم إذا لم يستخدموا جزء الدماغ المرتبط بالقراءة العميقة، وهي القراءة التي تتطلب نوعًا من القراءة الخطية الراسخة، وهي عكس القراءة غير الخطية التي لا نستخدمها عادةً في القراءة على الكمبيوتر، فستكون النتيجة أننا سنفقد فعالية جزء الدماغ المتعلق بالقراءة العميقة، لأنّ هذا النوع من القراءة هو مهارة مكتسبة في دوائرنا العصبية الدماغية».
وتكمن الخطورة في أن هناك أبحاثاً تشير إلى أن فقدان القدرة على القراءة العميقة لدى الأطفال سيمنعهم من الوصول إلى السياق الأخلاقي العميق لما يقرأونه، وبأنهم لن يستطيعوا الاستمرار في مناقشات مطولة وهم في عمر الشباب، إضافة إلى خسارة مهارات معرفية أخرى.
وأخيراً، مما لا شك فيه أن قراءة الكتب الرقمية لابدّ منها بالنسبة إلى الأطفال الصغار، لا سيما أنّها ضرورية لتنمية مهارات مطلوبة بشدة للقرن الواحد والعشرين، لكنها يجب ألا تكون معتمدة كليًا في القراءة المشتركة، لأنّ التوازن بين الكتب الرقمية والورقية هو المطلوب، لكيلا يفقد أطفالنا القدرة على القراءة المعمّقة، ولكيلا تترسخ لديهم ثقافة السرعة والإلهاء التي قد تغذيها الكتب الرقمية.
إلّا أنّه، بغضّ النظر، يجب ألّا ننسى ما قالته المتخصصة في طب الأطفال السلوكي التنموي د.جيني راديسكي، بأن القراءة المشتركة للأطفال، إن كانت من خلال كتب ورقية أو رقمية، ليست فقط من الطقوس «المحببة» في كثير من العائلات، لكنها واحدة من أهم التفاعلات الإيجابية بين الآباء وأبنائهم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق