• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المتنمّرون وضحاياهم

د. شيرين محمود (كاتبة وأكاديمية من مصر)

المتنمّرون وضحاياهم

◄تتوارد على أسماعنا وأبصارنا كلّ يوم حالات تنمّر قد تقشعر لها الأبدان، يُطلق عليها أحياناً لفظ استئساد أو استقواء أو ربما "بلطجة"، تتأجج في كلّ وقت وحين، وفي كلّ مكان يقع فيه التفاعل بين البشر، ولاسيّما في ساحات المدارس أو الجامعات أو حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، أو في محل العمل أو بين الجيران بعضهم بعضاً. وفي السطور الآتية نسلط الضوء على التنمّر في البيئة المدرسية، ونتناول أنواع تلك الظاهرة وأسبابها وسبل علاجها.

تعددت التعريفات التي قدمت في مفهوم التنمّر Bullying، نظراً لتعدد معانيه واختلاف الرؤى والتوجهات التي تناول من خلالها العلماء هذا السلوك. وقام الكثير منهم بالربط بين هذا السلوك والبيئة المدرسية، خاصة عندما نشر العالم النرويجي دان أولويس Dan Olweus، الرائد الأوّل للأبحاث حول التنمّر، كتابه الأوّل عن سلوك التنمّر في المدارس بعنوان "المتنمّرون والضحايا"، وذلك بعد قيامه بإجراء عديد من البحوث حول هذا السلوك العدواني.

 

ما هو التنمُّر؟

يمكن تعريف التنمُّر بأنّه الإيذاء المتعمد للغير، سواء كان في صورة جسدية أو لفظية أو نفسية. ويعد وصفاً لجميع أشكال الإساءة المتعمدة والمضايقات التي تحدث بين تلاميذ المدارس، التي يمارسها أحدهم وهو القائم بالتنمُّر ضد آخر، وهو الضحية قليل الحيلة الذي لا يقوى على المجابهة أو الدفاع عن نفسه، ويكون غالباً أضعف منه جسدياً. ويحدث هذا السلوك لدى الذكور والإناث على حد سواء.

 

أين يحدث التنمُّر؟

أشارت نتائج الأبحاث الدراسية إلى أنّ الأماكن التي يقع فيها التنمُّر تشمل الفصول الدراسية والممرات والاستراحات والكافيتريات ودورات المياه، وفي أثناء الفسحة المدرسية وعند انتظار الحافلات أو في الطرق المؤدية إلى المدرسة أو المنزل.

 

مكمن الخطر:

يترتب على ممارسة سلوك التنمُّر عديد من الآثار السلبية النفسية والاجتماعية والانفعالية والأكاديمية التي تترك تأثيرها في كلّ من المتنمِّر والضحية، إذ تهدد الصحّة النفسية لعدد كبير من تلاميذ المدارس، وهو ما تنقله لنا وسائل الإعلام متمثلاً في حوادث ضرب وتعد وربما قتل بين تلاميذ المدارس. وعلى الرغم من أهمية هذا الموضوع وخطورته، فإنّه لا يلقى الاهتمام الكافي في مجتمعاتنا العربية مقارنة بالغربية، التي يحظى فيها موضوع التنمُّر باهتمام العلماء والآباء والتربويين والمثقفين.

 

آثار التنمُّر على الضحية:

للتنمُّر آثاره السلبية على كلّ من الضحية والمعتدي، حيث أوضحت نتائج الدراسات النفسية والاجتماعية في هذا الشأن أو ضحايا التنمُّر يعانون الشعور بالخوف والعزلة الاجتماعية وانخفاضاً في التحصيل الدراسي، نظراً لتكرار الغياب في المدرسة خوفاً من التهديد. وعلى المدى الطويل، يعانون مشكلات عاطفية وسلوكية ويشعرون بالقلق والاكتئاب وقد تنتابهم الأمراض المرتبطة بالضغط النفسي، التي يمكن أن تدفعهم إلى الإقدام على الانتحار.

 

آثار التنمُّر على المعتدي:

عادة ما يكون المعتدي أكثر عرضة للتسلل من المدرسة وارتكاب أعمال جنائية، ويصبح السلوك العنيف لديه سلوكاً اعتيادياً، ويكون من المتعاطين للمخدرات والكحوليات، أو لديه انحرافات جنسية واضطرابات في الشخصية منها المعادية للمجتمع والحدّية.

 

أنواع التنمُّر:

هناك أنواع عديدة من التنمُّر، نعرضها في ستة محاور:

أوّلاً: التنمُّر الجسدي، وهو الإضرار بشخص ما أو بممتلكاته، ويتمثل في الدفع، والضرب، والعض، واللكم، والرفس، والخمش، (ويعني جرح الجلد)، والصفع، وشد الشعر، والبصق، وكذلك في سرقة أو إتلاف الممتلكات الخاصة والأدوات المدرسية وتمزيق الملابس.

ثانياً: التنمُّر اللفظي، وفيه يتم إيذاء الضحية بالكلمات ويشمل التهديد والاستهزاء والتهكم والسخرية والإهانة.

ثالثاً: التنمُّر الاجتماعي، وفيه يتم نشر الشائعات الخبيثة وبناء التحالفات والاستبعاد الاجتماعي للضحية، وإظهار إيماءات وتعبيرات وجهية مؤذية.

رابعاً: التنمُّر الجنسي، ويضم التعليقات البذيئة على الآخرين، وإطلاق أسماء مخجلة عليهم والتحرُّش الجنسي بهم.

خامساً: التنمُّر الإلكتروني، وتتم فيه المضايقة بالتخويف والتهديد ونشر وإرسال فيروسات مدمرة ورسائل وصور الضحية إلى الآخرين بعد التلاعب فيها عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.

سادساً: التنمُّر العنصري والطبقي، وفيه يتم احتقار الغير والتقليل من شأنه وربما سبه وقذفه لأسباب تتعلق بالديانة أو اللون أو النسب أو المكانة الاجتماعية.

 

أسباب التنمُّر:

توجد أسباب عدة للتنمُّر، منها العوامل الجينية ممثلة في الصفات الوراثية التي قد تدفع الفرد ليتصرف بكيفية معينة، وعوامل بيولوجية، منها ارتفاع نسبة هرمون الذكورة المعروف باسم الأندروجين، الذي قد يكون له تأثير على الدافعية لوقوع العنف، وعوامل فردية خاصة بالطفل، حيث يتصرف المتنمِّر بهذه الكيفية عندما يشعر بالملل والضجر ويعتقد أنّ سلوكه هذا شيء طبيعي، لأنّه لا يدرك الأذى الذي يسببه للآخرين. وعوامل أسرية تشير إلى أنّ الطفل المتنمِّر يتصرف بعدوانية، لأنّه يتعرض لجميع أنواع الإساءة في منزله ويفتقر إلى الشعور بالأمان، ويكون دائماً لديه الرغبة في لفت الانتباه إليه وإيذاء الآخرين، حيث ينشأ أغلب الأطفال المتنمِّرين في عائلات مفككة ويكون لديهم انعدام للضوابط السلوكية وغياب مراقبة سلوكياتهم والإشراف عليهم في ظل ضعف شخصية الأب وتسلط الأُم. وعوامل مجتمعية ترجع إلى تأثير المجتمع، خاصة مكان الإقامة والسكن. فالإقامة في حي يسوده العنف يمكن أن تؤدي بالأطفال إلى تبني مواقف عدوانية وعنيفة ضد الآخرين، بالإضافة إلى تأثير مشاهدة أفلام العنف وانعكاسها على سلوكيات الأطفال، وكذلك ضغط مجموعة من قرناء السوء، التي تمثل عاملاً محفزاً على التنمُّر، الذي لا يحدث عادة نتيجة سبب واحد، وإنما لأسباب عدة مجتمعة.

 

مضامين علاج التنمُّر:

التنمُّر مشكلة قابلة للحل إذا ما تضافرت جهود المدرسة مع الأسرة للحد من هذه الظاهرة، فهناك برامج كثيرة لمناهضة التنمُّر ومحاولة القضاء على هذه الظاهرة والحد منها والعمل على تحقيق علاقات صحّية بين الأقران في المدرسة. ولابدّ أن ندرك من البداية التنوع الشديد في الحالات. ونظراً لوجود هذا الاختلاف، فمن المتوقع أن تتنوع طرق العلاج وفقاً لطبيعة الحالة. ومن أشهر البرامج العلاجية نذكر برنامج "أولويس"وبرنامج كيفا Kiva.

وفي ما يلي سنعرض عرضاً موجزاً لمجموعة من الإجراءات المساعدة على الحد من هذه الظاهرة والعمل على الوقاية منها مستقبلاً. ورغم وجود مجموعة من العوامل الوراثية والجينية لهذه المشكلة، فهذا لا يجعلنا نقف مكتوفي الأيدي ونلتمس عذراً لمثل هؤلاء المتنمِّرين، وإنما نمنحهم اهتماماً أكبر لمساعدتهم على التغلب على هذا الاضطراب السلوكي.

 

محاور علاج التنمُّر:

في ما يلي سنعرض لثلاثة محاور لعلاج التنمُّر المدرسي، الأوّل يتعلق بالمدرسة، والثاني بالأسرة، والثالث بدور الضحية.

المحور الأوّل- المدرسة:

من أهم الخطوات التي يجب أن تتبعها المدرسة كمؤسسة تربوية تعريف الطلاب بماهية التنمُّر، والأسباب الموجبة لمنعه، وسياسة المدرسة المناهضة للتنمُّر، وذلك من خلال ترتيب لقاءات مع الطلاب في الفصول والاستعانة بأكفأ الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين المدرسيين، مع الإشارة إلى توضيح العقوبة التي ستقع على مَن يخالف القواعد المحددة في المدرسة، مع ذكر الكيفية التي سيتم استخدامها وضرورة الالتزام بذلك، وتأكيد الإعلان عن حقّ أفراد المدرسة في أن يكونوا بمنأى تام عن الوقوع تحت طائلة التنمُّر، مع توظيف مبادئ التعليم الديني وتعزيز الجانب الروحاني المسالم، ومحاولة إدماج الطلاب في أنشطة إيجابية مع بعضهم بعضاً، ووضع مجموعة من المعلمين كمراقبين في الأماكن التي يظهر فيها التنمُّر، حتى لا يتم السماح بظهور أي سلوكيات غير مقبولة، ومحاولة خلق مناخ مدرسي إيجابي يسوده الشعور بالأمان والاحترام والثقة، ما يزيد من ترابط الطلاب مع بعضهم بعضاً وشعورهم بالانتماء إلى المدرسة، فضلاً عن توطيد العلاقات الطيبة بين المدرسين والطلاب على أساس من الاحترام والثقة المتبادلة، الذي بدوره يشجع الطلاب على التحصيل العلمي بكفاءة.

المحور الثاني- الأسرة:

تجب مشاركة أولياء الأمور مع المدرسة والعمل معاً في معالجة سلوك التنمُّر، إذ يتحتم أن تؤدي الأسرة دورها في التربية السليمة من دون اللجوء إلى العنف أو الضرب المبرح في سبيل تحقيق ذلك، والحرص على متابعة الأطفال في مراحل حياتهم المختلفة، ووضع عقوبة واضحة وصارمة في حالة تكرار أي سلوكيات غير مقبولة قد تتمثل في حرمان الأطفال من الأشياء التي يحبونها، والحديث الدائم والتواصل معهم على أصعدة عدة، وتوعيتهم ومشاركتهم في الأنشطة الحياتية اليومية، بالإضافة إلى توحيد طريقة تعامل الأبوين مع الطفل، بحيث لا يقوم أحدهما بفرض العقوبة، والآخر ينصرف إلى التدليل، وإعادة توجيه الطفل في حالة كونه متنمّراً للتصرف على نحو لائق ومقبول اجتماعياً ودينياً. ولا مانع من استدعاء أولياء الأمور إلى المدرسة للوصول إلى تحالف فعّال لكيفية التعامل الأمثل مع كلّ من الطفل المتنمِّر والضحية على حد سواء.

المحور الثالث- دور الضحية في علاج التنمُّر:

تتمثل الإجراءات العلاجية التي يقوم بها الاختصاصي النفسي المدرسي بمشاركة الأسرة في رفع معنويات الضحية وتعزيز قدراتها على مواجهة المتنمِّر، وتدريبها على ألا تستجيب للمتنمِّر، لأنّه عندما يتعرّض للإهمال قد يفقد الرغبة في مواصلة تنمّره. كما يجب ألا تبادر الضحية أبداً بالشجار، وأن تظهره الثقة بالنفس من خلال برامج يتم تطبيقها تهدف إلى تنمية تلك الثقة، أو تتعلم كيفية الرد بحزم والاستجابة عندما يسعى أي من أقرانها إلى التنمُّر عليها.

وهنا تجدر الإشارة إلى تشجيع الضحية على الإفصاح عن السلوك التنمُّري الذي قد يقع عليها من دون خجل أو خوف أو تردد، لأنّه أحياناً قد يؤثر خضوعهم للتنمُّر سلباً على تحصيلهم الدراسي وفقدانهم الرغبة في الذهاب إلى المدرسة كنوع من الهرب. وفي هذا الشأن أيضاً، لابدّ أن يقوم الآباء بتوعية أطفالهم المتفرِّجين بضرورة الإبلاغ عن أي حادثة تنمُّر يشهدونها وعدم التغاضي عنها أو التفاعل معها بالصمت السلبي أو الإنكار والإخفاء أو الضحك أو الرد بالعنف أو التعصب وتأجيج الرغبة في الانتقام.

وختاماً، يصبح لزاماً تضافر الجهود من أجل تطبيق وتفعيل سُبل العلاج الأمثل كخطوة أولية أساسية على طريق تربية النشء وإعداد أجيال سوية قادرة على خدمة مجتمعاتنا العربية ورفعة شأنها بين شتى الأُمم.►

 

المصدر: مجلة العربي/ العدد 684 لسنة 2015م

ارسال التعليق

Top