• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

في بيتنا حرب غير معلنة

طارق حسني

في بيتنا حرب غير معلنة

◄عندما يظهر الطفل - ذو العامين فقط - حالة من التمرد، ويظهر نزعة للاستقلال عن الأهل.. يجب التحلي بالصبر والحكمة، حتى لا يتطوّر النزاع إلى الصراع!!

عادة ما يبدأ الطفل - مع دخوله عامه الثاني - إظهار رغبته في إنجاز بعض المهام بنفسه، وبالطبع هذه المهام لا تتجاوز محاولته تحضير وجبة الإفطار، أو ارتداء ثيابه، أو ربط حذائه.. وماذا في هذا الأمر؟

المشكلة تبدأ في الظهور مع اعتقاد هذا الإنسان الصغير أن بوسعه أن يقوم بكلّ شيء بنفسه دون الاعتماد على الآخرين، وهو ما يعتبره خبراء نمو الطفل مرحلة من مراحل تطوّره تسمى مرحلة الاستقلالية.

واعتقاد الطفل هذا لا يسبب له مشكلة، بل إنّ المشكلة هي ما يشعر به الأبوان، فبكلّ تأكيد أنّهما يستطيعان إنجاز ما يقوم به طفل العامين بشكل أفضل وبجهد أقل ودون إحداث أي فوضى.

وتزداد المشكلة تعقيداً عندما يعتبر الطفل أبويه خصمين له، حال محاولتهما إمداد يد العون له.. هل كلّ هذا يدعو للقلق؟

الخبراء يرون أنّ مثل هذه المعارك من أجل الحصول على مساحة أكبر من الاستقلالية بين الآباء وأطفالهم أمر إيجابي ومرحلة مهمّة من مراحل نمو الطفل، بل ويجب تدعيم هذه الروح الاستقلالية لديه.

د. توماس باور - أستاذ علم النفس التطوري في جامعة هيوستن بالولايات المتحدة - يشرح ذلك قائلاً:

"طفل العامين يحبّ بطبعه تقليد الكبار، فهو عندما يشاهد أحدهم يفتح باب السيارة، أو يدير جهاز التلفاز، أو يضع مسحوق التنظيف في الغسالة، يتبادر إلى ذهنه: ولم لا أقوم - أنا - بهذه الأشياء.

وما يغذي إحساس الطفل بقدرته على القيام بمثل هذه المهام هو مرونة يديه، فالطفل يكون قد أمضى فترة طويلة - نسبياً - في معرفة عمل اليدين، وهو يرى أنّه بعد أن أصبح لديه بعض التحكّم فيهما فإنّ الوقت قد حان لاستخدامهما. لذلك هو يتوق - الآن - إلى استعمال أنامله في كلّ شيء كمفاتيح الكمبيوتر والهاتف وأدوات الكهرباء.. وغير ذلك".

- اختلاف التقييم:

وفي الحقيقة، أنّ "الصراع" ما بين الأطفال والآباء حول هذه "المعركة" له ما يبرره، فهم لن يتفقوا على المهام التي تناسب الطفل، والتي يمكن أن يقوم بها، أو التي تثير اهتمامه، فبينما قد يرى الطفل أنّه يريد - ويمكنه - تنظيف أدوات المطبخ، سترى الأُم أنّ هذا الأمر أكبر من طاقته، وأنّ بإمكانه - مثلاً - مجرد وضع ثيابه المتسخة في السلة، وهو أمر مرغوب أيضاً، أمر قد لا يثير اهتمام الطفل بأي شكل من الأشكال.

وفي الواقع، أنّ دور الآباء يبدأ من هنا تحديداً، فردود أفعالهم وسلوكهم تجاه هذا "الصراع" هي التي ستعزز - أو تنتقص - من ثقة الطفل بنفسه. ولكي نحدد ما يمكن عمله في مثل هذه الحالة، يجب أن نفهم أنّ طفل العامين في ميله نحو الاستقلالية ورفضه - لأهله الذي يحبّهم كثيراً - يشبه ميل المراهق نحو ذلك.

كما أنّنا يجب أن ندرك أنّ تمرد الطفل على أهله في هذه السن يُعدّ مؤشراً واضحاً على ثقته بهم وحبّه لهم!!

كيف؟.. يفسر لنا أحد الباحثين ذلك قائلاً:

"إنّ الطفل لا يستطيع أن يقوم بالمهام بنفسه، دون مساعدة أبويه، إلّا إذا كان يشعر بقدر من الأمان والطمأنينة، وهي مشاعر لن يحصل عليها إلّا عن طريق الحبّ والحنان اللذين تمنحهما له الأسرة، مما يغذي ثقته بنفسه، ويدفعه نحو اكتشاف العالم من حوله".

كلّ هذا يوضح أنّ السلوك المطلوب من الأبوين في مثل هذه الحالة هو تعزيز هذه النزعة الاستقلالية، وهو ما يضعهما أمام تحدي إيجاد طرق يمارس بها الطفل استقلاليته، وفي ذات الوقت يبتعد عن المهام الخاصّة بالكبار، والتي لا يستطيع إنجازها".

- نحو التهدئة:

وهناك الكثير من هذه الطرق التي تجنّب الآباء تصعيد "النزاع" مع هذا الصغير، وحتى لا يتحول "النزاع" إلى "صراع" - غير متكافئ بالطبع - يؤدي إلى نتائج عكسية. ومن هذه الطرق:

* عدم الإسراع بالتدخل: فسرعة تدخل الآباء أمام عدم استطاعة الطفل إنجاز العمل تعني أنّهما يبحثان عن المتاعب، فالطفل ينزعج من أي نوع من التدخل فيما يقوم به، وسيتخذ رد فعل غاضباً أزاء ذلك، ولكن يجب عدم فهم رد الفعل هذا بأنّه متجه ضد الآباء، فحقيقة الأمر أنّ غضب الطفل واستياءه يكون متجهاً نحو المهمّة التي يقوم بها ولا يستطيع إنجازها.

* العمل كفريق: إنّ تقسيم المهمّة إلى عدد من الوظائف، ومنح الصغير أسهلها، طريقة ناجحة، فهي تزيد من ثقته بأنّه يستطيع أن ينجز ما يكلف به، وفي ذات الوقت تتيح للأهل تقديم المساعدة، مثال على ذلك يمكن تقسيم عملية ارتداء الثياب، بحيث يسمح له بارتداء بنطاله بنفسه وترك أمر ارتداء الحذاء وربطه للآباء.

* تهيئة المنزل: يجب ألا يتردد الآباء في إيجاد وسائل تتيح للطفل القيام ببعض الأعمال بنفسه، كوضع كرسي صغير قرب الحوض في الحمام حتى يستطيع الطفل الوصول إلى فرشاة أسنانه، أو استخدام إبريق وكوب صغير يمكن للطفل استخدامهما دون سكب الماء أو الحليب.

* تجنب الاستعجال: فبالطبع الطفل - ذو العامين - لن يستطيع أن يقوم بمهمّة ما - مهما صغرت - بذات الروعة والكفاءة كالكبار، فيجب التحلي بالصبر، وإعطاؤه الفرصة للتجريب، وإنجاز المهمّة بأفضل شكل ممكن.

بل أكثر من ذلك يجب تخصيص وقت له ليمارس فيه استقلاليته، ولا نعني هنا وقتاً محدداً، بل يكفي هنا إتاحة الفرصة له لتحقيق إنجازاته الصغيرة كشرب الماء أو إعداد شريحة خبزنا بالجبن، أو إحضار الصحيفة، أو تفريغ أكياس البقالة.. إنّ هذه الإنجازات الصغيرة تؤكد له أنّه شخص كفوء، يعتمد عليه، قادر على إنجاز ما يطلب منه.

ويقول د. باور "من الصعب على الأبوين أن يقررا متى يكون الطفل مستعداً للقيام بعمل ما بنفسه، لذلك كلّ ما يجب أن يفعلاه هو منحه المزيد من الوقت، وألا يتوقعا منه الكمال".

- الوقوف عند الحدود:

لكن، على الرغم من أهمية تدعيم نزعة الاستقلالية هذه فإنّ هناك حدوداً يجب الوقوف عندها تفرضها أحياناً طبيعة ما يرغب الطفل في القيام به، وأحياناً أخرى الظرف والوقت الذي يختاره لإنجاز مهمامه، فكيف يكون التصرّف؟ بداية لا يمكن التساهل مع طفل العامين في أمور السلامة، كرغبته في إشعال الموقد بنفسه، أو عبور الشارع وحده، فهنا يجب استخدام "لا" حازمة لا تقبل المساومة، حتى لو أدى الأمر إلى تصعيد النزاع، فلا خيار أمام الآباء حينها. أما فيما عدا ذلك فيمكن التحايل على الأمر، كإيجاد بديل للعمل الذي يرغب فيه ولفت انتباهه إلى مهمّة أخرى، مثل فتح صنبور المياه له، ودعوته لغسل ألعابه، أو عرض مهمّة أخرى محبّبة لديه على أن ينجزها في وقت لاحق، كمساعدة والده في ترتيب ثيابه عند عودته من العمل مثلاً.. ولكن في هذه الحالة يجب الالتزام بما تم الاتفاق عليه، وعدم النكث بالوعد.

وما يجعل الوالدين يتداركان الأمور قبل استفحالها، تعليمهما الطفل أن يعتاد الاستئذان قبل أدائه للمهمّة التي يريد إنجازها، وهذا يتيح لهما "تقدير الموقف" في الحال.

وبالطبع، مع طفل يخطو نحو عامه الثالث خطواته الأولى، لن يكون الأمر سهلاً تعليمه الاستئذان، وسيستغرق الأمر بعض الوقت.

وهذا بعض ما يمكن أن يقوم به الأبوان تجاه ظاهرة الاستقلال هذه، وبالطبع إنّ المعايشة اليومية للطفل تتيح للأهل ابتكار الكثير والكثير من الحيل للتعايش واحتواء النزاعات التي قد تحدث.►

ارسال التعليق

Top