منى سراج
صديقتي تملك موهبة نادرة يطلقون عليها Chasseur de Tete، أي مكتشفي المواهب في المؤسسات الكبرى.. وقد حققت خلال عملها نجاحاً كبيراً كنا نحسدها عليه.. وعندما التقت بالشاب الخجول الذي جاء إلينا باحثاً عن فرصة عمل أدركت أنها أمام مشروع رجل ناجح، ومثل المقامرين المحترفين راهنت عليه بكل ما تملك من حنان وحب وعطاء وذكاء. خمس سنوات كاملة وهي تلعب من أجله كل الأدوار. عوضته عن الأُم التي لم يعرفها، والأخت التي لم يحصل عليها، والحبيبة التي تمناها. علمته كيف يختار الملابس الأنيقة ويتعامل مع الرؤساء والمرؤوسين.. وأدخلته المجتمع الراقي.. وأصرت على أن يمارس رياضة "الجولف" رغم جهله حتى باسمها لأنّها وسيلة لكسب صداقات أثرياء المجتمع.. كانت تدفع من جيبها اشتراك النادي.. و"الموبايل" الأنيق وتساعد في دفع أقساط السيارة.. كانت بإصرار وصبر تصنع من أجلها شخصاً: الأب الذي حُرمت منه.. والزوج الذي تمنته.. والابن الذي حلمت به.. وعندما نجح وحصل على منصب مهم في الشركة.. اكتشف فجأة!! أنها امرأة مسيطرة!! وتخنقه باهتمامها!! ولا تترك له مساحة من الحرية يتحرك فيها!! وتركها!! وعندما التقيت بها بعد الصدمة كانت متماسكة رغم الألم.. وقوية رغم صعوبة الموقف وقالت لي وهي تلمح تعاطفي: "لا تقلقي.. سأنساه بسرعة".
وابتسمت مشفقة.. فأخطر ما في الصدمات العاطفية أننا نتصور أنّ النسيان كبسولة دواء يسهل ابتلاعها عند اللزوم مع بعض الدموع.. وأن حرق الذكريات لا يحتاج إلا "لعود كبريت" من الغضب كي تتحول إلى رماد.
ولكن الحقيقة أنّ الحب كائن حي وعندما يموت يحتاج إلى فترة حداد وحزن مشروع نراجع فيها أنفسنا ونطهر من خلالها جروحنا ونترك للأيام مهمة إغلاق الجرح.. وإخفاء آثار الكدمات الزرقاء والندبات العميقة.. وبعدها يأتي النسيان، ولكنه يحتاج إلى قدر كبير من الصبر والصدق مع النفس، والرغبة الحقيقية في إغلاق هذه الصفحة تماماً.
واليوم التقيت بصديقتي.. كانت بصحبة رجل يحمل نفس ملامح خطيبها السابق، بل ونفس ملامح شخصيته! وقالت لي بسعادة: "انتظري.. سأصنع منه المدير القادم لهذه المؤسسة"! وابتسمت وقد تذكرت جملة قالها لي الكاتب الكبير توفيق الحكيم أثناء حوار صحفي: "إذا لم يتعلم الإنسان من تجربته فإنّه يظل يكرر أخطاءه، خاصة في الحب"!
ارسال التعليق