• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أطفالنا وأصول التعايش مع الآخرين

أطفالنا وأصول التعايش مع الآخرين

    لا يولد الطفل مدركاً أصول التعامل مع الآخرين، وقواعد الأخذ والعطاء مع أقرانه. فهذه مفاهيم مكتسبة، وليست موروثة. لذا، يحسن بالوالدين، لاسيما الأُم، تعويده على اجتياز مرحلة مهمة، وهي الانتقال من الـ"أنا" إلى الـ"نحن"، وإدراك مفهوم الآخر.

    بطبيعة الحال، تشكل البيئة المنزلية المدرسة الأولى لتعلم قواعد الحياة، وكيفية التعايش مع الآخرين، والأخذ والعطاء، والتخاطب معهم، وإيجاد الحلول الوسطى، واعتماد الكلام كوسيلة للتعبير بدلاً من الصراخ أو الضرب (ما يحصل أحياناً مع بعض الأطفال، ممن يعبرون على أنفسهم من خلال العنف تجاه أقرانهم". فالطفل لا يعي مثل تلك الأصول، بما أنها ليست موروثة، إنما تكتسب تدريجياً، من خلال التجربة اليومية، و"المواجهات" المستمرة مع الآخرين. فهذه تتخذ طابعاً أنانياً، من الجانبين، وهذا أمر طبيعي عند الطفل. فالصغير يعرف الـ"أنا"، لكنه يجهل الـ"نحن"، ولا يأبه بمفاهيم من قبيل "المشاركة"، "المشاطرة"، "الاقتسام"... إلخ. وتلك كلها عوامل طبيعية، لا داعي للقلق منها، لأنّها جزء من الطبيعة البشرية.

    القلق يبدأ حين لا يسعى الوالدان إلى تعليم طفلهما أصول التعامل مع بقية الأطفال، والآخرين بشكل عام، فيتركان له الحبل على الغارب، بحجة المحبة والمعزة والدلال، ما يؤدي إلى نتائج كارثية له، ومآس وشعور بالحرمان، لاحقاً، وبشكل خاص العجز عن الاندماج في المجتمع، وربما الجنوح. لذا، تعدُّ فترة 3 إلى 6 سنوات مرحلة أساسية، إذ تشكل مدرسة اجتماعية بحق، ينبغي أن يكون الطفل قد ختم خلالها "برنامجه" التعليمي الاجتماعي. فالطفل في سن 3 سنوات، سواء أكان خجولاً متردداً أم قوي الإرادة، سواء أكان البكر أم آخر العنقود، لابدّ أن يبدأ في اكتشاف وجود كائنات أخرى: أقرانه. وهذا يشكل بالنسبة إليه "ثورة" اجتماعية.

    

    - تكرار الرسائل الموجهة:

    ففي تلك السن، عموماً، يدخل الطفل دار الحضانة. هكذا، ينتقل فجأة من بيئة يكون فيها الطفل الوحيد في ذلك العمر، ويحظى برعاية والديه وحنانهما، واهتمام باقي أفراد الأسرة، وإعجابهم، إلى بيئة تحل فيها معلمة محل الوالدين، ويترتب عليها مراعاة ربما 20 أو 25 طفلاً آخر في سنه، يجدهم كلهم غرماء وخصوماً محتملين. لذا، يتلكأ في تقبلهم، ومن جانبهم يترددون في قبوله. هكذا، تجده تارة يدفع طفلاً يحاول أخذ مكانه، وتارة يضرب آخر لكي يصل إلى لعبة "الزحليقة" قبله، ويتعارك مع ثالث لأنّه حاول أخذ لعبة منه، وما إلى ذلك. لكنه، من خلال تلك التجارب اليومية، يتعلم شيئاً فشيئاً المساومة، وتقبل المشاركة من وقت إلى آخر. ويستمر التعلم حتى زهاء 6 سنوات. إنّه مسار الانتقال إلى حياة المجتمع، والانتماء إلى مجموعة.

    وفي تلك الفترة، ما من مسوّغ للقلق، من الوالدين، إن انتبها إلى ضرورة تكرار الرسائل الموجهة إلى الطفل، وإعادتها مراراً، إلى أن "تدخل في مخه". فإجادة أصول حياة المجموعة مسار شائك، وطويل، ويتطلب الأناة والصبر من الوالدين، وعدم الملل من تكرار النصائح والتوجيهات لفلذة كبديهما. لكن، عدا عن النصائح، ثمة تقنيات تربوية، تعينه على هضم الأصول الجديدة. فمثلاً، ينبغي تجنب بعض الألعاب التي تشدد على الـ"أنا"، وتشجيع الألعاب الجماعية. على سبيل المثال، تعينه لعبة "الغميضة" (أو "الختيلة") على تعلم احترام أصول اللعبة: إذ عليه أن يعدَّ، وألا يلتفت، ولا يبدأ بالبحث عن رفاقه سوى بعد انتهاء العد، ومضي زمن محدد. هذه القواعد، على بساطتها، بداية جيِّدة، لأنّها تضع حدوداً، بالتالي تعين الصغير على اكتشاف هذا المفهوم، مفهوم الحدود والقواعد، الجديد تماماً من منظوره. وبالمثل، تعدُّ لعبة سباق الركض مجدية، بما أنها قائمة على أساس انطلاق المسابقين جميعهم في لحظة واحدة. وهذا أيضاً، يشكل أحد تمارين احترام أصول اللعب. وعموماً، ينبغي حضه على ممارسة أي لعبة تنطوي على قواعد تُلزم جميع المشاركين.

    المحور الأوّل، إذن، في مسار اندماج الطفل في الحياة الاجتماعية، يقوم على أساس تلقينه احترام أصول اللعب. ومن خلاله، سيتعلم لاحقاً احترام الأصول عموماً، وليس فقط في إطار اللعب.

    

    - تقنين العنف:

    وعندما يصل الطفل إلى سن 4 أو 5 سنوات، من المجدي إدخال الألعاب الاجتماعية، مثلاً الـ"دومينو"، والـ"مونوبولي"، و"أسئلة وأجوبة"، ولعب على غرار إيجاد حيوان ونبات ومدينة واسم شخص،... إلخ، كلها تبدأ بحرف باء أو جيم أو دال، وما إلى ذلك (طبعاً مع توخي اختيار الألعاب كلها في مستويات مبسطة، خاصة للصغار في تلك السن). هكذا، يتعلم الطفل انتظاره دوره، والإنصات للمشاركين الآخرين، والتركيز، وتقبل الخسارة إن لم يوفق عندما يأتي دوره، وهكذا دواليك، ومَلكة تقبل الخسارة شيء مهم، يعينه لاحقاً على مواجهة مصاعب الحياة برحابة صدر، ويلقنه حقيقة أنّ الحياة ليست كلها نجاحات، إنّما ينبغي أيضاً التسليم بفكرة أنّ الإخفاق وارد أيضاً، لكن لا يجب الاستسلام له، والمحاولة مجدداً.

    وعندما يكون الطفل عنيفاً بالفطرة، ومفعماً بالطاقة، فليس من الحكمة السعي إلى لجم عنفه، فهي محاولة لا تكلل بالتوفيق إلا في ما ندر. إذ، في تلك الحال، ينبغي إيجاد وسائل لتقنين ذلك العنف، وتفريغه، من دون إيذاء أحد. تقول أم وسيم، البالغ من العمر 5 سنوات، إنها وزوجها عانيا وخجلا من شكاوى آباء أطفال آخرين ضده، لأنّه تعود ضرب أقرانه كلما نشب نزاع حول لعبة، أو الدور في اللعب، أو أي شيء. هكذا، أتتهما فكرة شراء كيس تدريب على الملاكمة، وضعاه في غرفة وسيم. وقالا له إن من حقه، كلما أزعجه أحد، أن يضرب الكيس بقدر ما يشاء، مع التفكير في الطفل الذي ضايقه. وتؤكد أنّ الحيلة نجحت، إذ بات وسيم يفرغ شحنته العدوانية على كيس الملاكمة، بدلاً من أجساد أقرانه.

    وفي هذا الشأن، ينصح بعض متخصصي التربية بـ"حيلة" أخرى، تنصب على لعب لعبة العراك مع الطفل من جانب أمه أو أبيه، مع وضع وسادة للحماية، لكن بشكل خاص مع تحديد أصول وقواعد دقيقة، وعدم التساهل فيها، من بينها التأكيد أن من حق أيٍّ من المتباريين التوقف حين يشاء، وأن من واجب كل منهما عدم توخي إيذاء الآخر، إنما التظاهر بالعراك. كما يجب عدم إغاظته أثناء اللعبة، أو إبداء روح تحدٍّ، إنما الحرص على أن تبدو لعبة للتسلية وحسب. وينبغي أيضاً عدم إفهامه بأنّ القصد هو التغلب على طاقته المفرطة، وإفراغها. فهذه مفاهيم لا يعي أبعادها، وقد يغتاظ من عدم القدرة على رسم صورة واضحة عنها في مخيلته. هكذا، يجب أن يبدو الأمر مجرد لعب وتمضية وقت. وغالباً ما تؤدي تلك الطريقة إلى تفريغ الشحنة العدوانية لدى الطفل. فالهدف ليس العراك في حد ذاته، ولا السعي إلى لجم تلك النزعة العنيفة، إنما تعويد الطفل على السيطرة عليها، وحمله على الانضباط الذاتي، واحترام أصول معينة حتى في ممارسة العنف. وبشكل عام، يمكن حضه على ممارسة أي لعب يستلزم صرف قدر كبير من الطاقة، كالتسلق، أو أي فن من الفنون القتالية، أو الركض، أو السباحة. وفي إمكان ذلك النوع من الهوايات، أيضاً، مساعدة الطفل الخجول المتردد على التخلص من الخجل المفرط، والتحلي بقدر أكبر من الجرأة، اللازمة، هي أيضاً، من أجل حياة اجتماعية متوازنة.

    المحور الثاني، إذن، يرتكز على تلقين الطفل الانضباط الذاتي، والسيطرة على عدوانيته وتقنينها، واحترام أجساد الآخرين، وعدم الاعتداء عليها. فمن خلال تلك الأصول، يتعلم السيطرة على نزواته، لاحقاً عندما يكبر، ويصبح قادراً على كبح جماح "أناه"، ويعي بوجود ضمير "نحن"، ويدرك أن ليس في وسعه اقتناء أي ما يشاء.

 

       - تعويده الانتظار:

    أما الألعاب الجماعية، فتعين الطفل على تعود انتظار دوره. هكذا، مثلاً، يجب أن ينتظر لكي يصعد على لعبة "الزحليقة"، وينتظر لكي يقفز في المسبح من أعلى لوحة الغطس، وينتظر أن ينهي أخوه أو رفيقه أو جاره، أو أي طفل آخر، لكي يصعد على الأرجوحة، ويستمتع بها بدوره. فللطفل رغبات لا تنتهي، لكن يجب ألا تشبع كلها، وبشكل تلقائي. في هذا الصدد، أكدت فرانسواز دولتو، خبيرة علم نفس الأطفال الفرنسية الراحلة، أن "إشباع رغبات الطفل كلها يعني موت تلك الرغبات". هكذا، يعينه التعود على انتظار دوره على السيطرة على رغباته، ودمجها في إطار رغبات الآخرين.

    يرتكز المحور الثالث، والأخير، إذن، على تعويد الطفل انتظار دوره. فمن شأن ذلك تلقينه احترام رغبات الآخرين، وتكييف رغباته وفقاً لها، مع الحرص على عدم التخلي عن حقوقه، إنما فرضها حين تكون الفرصة مناسبة، وبما لا يتعارض مع حقوق الآخرين. وفي النهاية، ينبغي التذكير بالمحورين الآخرين، اللذين ينبغي عليك التركيز عليهما لتلقين طفلك التعايش مع الأشخاص الآخرين: المحور الأوّل يقوم على أساس تلقينه احترام أصول اللعبة، والمحور الثاني على أساس تعليمه الانضباط الذاتي، والسيطرة على نزعته العدوانية.

ارسال التعليق

Top