• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الكلام والمخ

الكلام والمخ
 اللغة عند البعض يعالجها نصف الكرة المخية الأيسر، في حين يعالجها النصف الأيمن أو كلا النصفين عند البعض الآخر. كيف نعرف أي النصفين هو السائد وما أهمية هذه السيادة؟ عند قراءة نص وفهمه، تتحرض عصبونات (الخلايا العصبية) نصف كرة المخ الأيسر أكثر مما تتحرض عصبونات نصف كرة المخ الأيمن. هذه الملاحظة ليست وليدة الأمس. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لاحظ أطباء أعصاب في الواقع، مثل "مارك" و"غوستاف داكس" وكذلك "بول بروكا"، أنّ الأذيات التي تصيب النصف الأيسر من المخ تسبب في أغلب الأحيان اضطرابات اللغة، الحُبسة، أكثر مما تسببها الأذيات التي يتعرض لها النصف الأيمن من المخ. عندما درس "بول بروكا" الرابط بين أفضلية استخدام إحدى اليدين وسيادة اللغة (تحكّم أحد نصفي المخ باللغة، النصف الأيسر أو النصف الأيمن)، لاحظ أنّ المرضى الذين أصيبوا بحبسة، بعد التعرض لأذية أصابت النصف الأيمن من المخ، غالباً ما كانوا يسرويين، أي يفضلون استخدام يدهم اليسرى، أو ضُبْطاً (مفردها أضبَط، وهو الذي يستعمل كلتا يديه بنفس الدرجة من المهارة والرشاقة). واستنتج من ذلك قانوناً (قانون بروكا) يفيد بأن نصف كرة المخ المستخدم في اللغة يقع في الجانب المقابل لليد المفضلة. بالنسبة لليمنويين، أي الذين يفضلون استخدام يدهم اليمنى، هذا الحكم صحيح كفاية، إذ إن 92 إلى 96% منهم يتميزون بأن نصف مخهم الأيسر هو المتخصص في اللغة. في الواقع، بعد التعرض لأذية دماغية، تكون الاضطرابات اللغوية أكثر شيوعاً عند اليسرويين أياً كان نصف مخهم المتأذي. لماذا؟ لأن تصور representation اللغة غالباً ما يكون موزعاً على نصفي كرة المخ عند هؤلاء اليسرويين. ووفقاً لبعض الدراسات، فإن 70% من اليسرويين لديهم سيادة لغوية في النصف الأيسر من كرة المخ، و15% في النصف الأيمن، و15% في النصفين. وحسب أخرى، فإن سيادة اللغة هي في النصف الأيسر عند 15% فقط من اليسرويين، وفي النصف الأيمن عند 15% منهم، وفي كلا النصفين عند 70% من هؤلاء. وهكذا، فإنّ اليسرويين واليمنويين على حد سواء يستخدمون بالأحرى نصف كرتهم المخيلة الأيسر في اللغة، ولكن يبقى هنالك فارق مرتبط بالأفضلية لهذه اليد أو تلك. وهناك واقعة هامة، هذا التخصص لأحد نصفي كرة المخ موجود عند الصمّ الذين يستخدمون لغة الإشارات. وكان يمكن توقُّع أن تكون لغة الإشارات هي موضع معالجة النصف الأيمن، المعروف بشكل عام على أنّه مقر المهمات الحيزية – الإبصارية Visuo – spatiale. لكن الأمر ليس كذلك البتة، إذ نجد ممن يؤشِّرون (يستخدمون الإشارات في التفاهم) بقدر ما نجد ممن يسمعون لدى من كانت السيادة عندهم هي للنصف الأيسر من المخ.   - بحثاً عن نصف المخ السائد.. عندما يتهيأ الجراحون لانتزاع جزء صغير من الورم أو لمعالجة الصرع، يمكنهم أن يتتبعوا المواضع التي يضعون فيها مبضعهم، بمساعدة المريض. كي يعرفوا أي النصفين ضالع في اللغة، يحقنون مادة في أحد الشريانين السباتيين الداخليين عند المرض في حالة التنبه. من شأن ذلك تخدير أحد نصفي كرة المخ دون الآخر. يتيح ظهور الشلل في الذراع المقابل التحقق من أن أحد نصفي كرة المخ هو نائم بالفعل. يبقى القيام باختبارات لغوية عندما يكون هذا النصف أو ذاك من كرة المخ مخدراً. وكي يعرفوا بشكل أدق إلى أي حد يمكنهم العمل (الكشط مثلاً)، يستطيع الأطباء أيضاً أن يحرضوا كهربائياً نقاطاً مختلفة من القشرة المخية بينما المريض يتكلم بصوت مرتفع. ليس في الدماغ مستقبلات ألم: يمكن القيام بالعمل الجراحي تحت التخدير الموضعي مع إبقاء المريض في حالة وعي. إذا ثبط التحريض إنتاج اللغة، فلن يتم الكشط في هذا الجانب، تجنّباً لتأذي اللغة! تخصص جزئي: مع ذلك، يشار إلى أن تخصص نصف كرة المخ يشمل وظائف اللغة الرئيسية ولكن ليس كلها. وهكذا، فإن سيادة نصف كرة المخ الأيسر بارزة جدّاً بمستوى القشرة المخية الجبهية التي تتوافق وباحة إنتاج الكلام، ولكن ليس على نحو أقل بكثير بمستوى القشرة المخية الصدغية – الجدارية temporo – parietal المسؤولة عن التصور الحسي للكلمات (الإصغاء والفهم)، بينما هي على العكس أكثر بروزاً في نصف كرة المخ الأيمن بالنسبة للجوانب العروضية prosodiques (جانب الانفعالات، والنغمة، والنبْر...). عدا ذلك، في غياب نصف كرة المخ الأيسر، يمكن للنصف الأيمن إنتاج لغة ناقصة النمو. تخصص نصف كرة المخ (أو السيادة الوظيفية لأحد النصفين) لا يقتصر على اللغة، فهو موجود بالنسبة للكثير من نظائف الاستعراف الأخرى. إذا كنا نفهم، على الصعيد الحركي والإدراكي، أن كلاً من نصفي كرة المخ يهتم بأعضائه (ذراعه، ساقه) فإنّ هذا التناظر هو أقل لزوماً بالنسبة لمهام متكاملة؛ بل هو عند ذاك غير ملائم. فكي تتم معالجة المعلومة بأسرع ما يمكن، من غير المفيد أن تتطلب اللغة وصلاً طويل المسافة يتوضع على هذا الجانب والجانب الآخر من المخ. فضلاً عن ذلك، من شأن تجنب اضطلاع منطقتين متناظرتين متماثلتين بالوظيفة نفسها أن "نضاعف" (نعزز) بذلك قدرات استعرافنا. إذن، سيادة أحد نصفي كرة المخ هي استراتيجية بارعة هدفها جعل الحيز المتاح أفضل مردودية. من جانب آخر، اعتقد عدد من العلماء أن نوعنا وحده يفيد من هذه الميزة التطورية، معللين من هنا تفوقنا الاستعرافي (المعرفي). في الواقع، هذه السيادة المخية النصفية، فيما يتعلق بالباحتين الكبيرتين اللتيت تتوافقان وباحتي اللغة (باحة بروكا aire de Broca وباحة فرنيك aire de Wernick)، موجودة أيضاً لدى الشيمبانزي، رغم عدم توافقهما بعدم ووظيفة اللغة. ولدى العديد من الأنواع، حتى عند الضفادع، وظيفة التصويت موجودة في النصف الأيسر من الدماغ. هل وجود هذه السياردة النصفية يشكل أساس أداء نصف كرة المخ الأيسر لوظيفة اللغة؟ يبقى مطلوباً التحقق من ذلك. في كل الأحوال، هذه الملاحظات المسجلة لدى العديد من الأنواع الحيوانية تؤكد واقعة أن ظواهر السيادة المخية النصفية قد استمرت إبان التطور، وهو ما يشير إلى وجود آلية تحكم جيني. دراسة الأسر والمقارنة بين التوائم الحقيقيين تؤكد هذه الفكرة. لوحظ بذلك أنّ اليسرويين الأسرويين (على أساس توارث هذه الخاصية أسرياً) هم أقل تواتراً بالنسبة لسيادة نصف الكرة المخية الأيسر من اليسرويين الآخرين. إذن، ربما كانت السيادة المخيبة النصفية بذلك محكومة ينسخ من جين واحد أو عدة جنينات. من جهة أخرى، ربما كان هذا الجين أو هذه الجينات لا تتحكم بشكل مباشر بالسيادة المخية النصفية بل تتحكم بلا تناظر asymetrie تشريحي لناحية مستوية من المخ تسمى planum temporal. هذه المنطقة، التي تتوافق وباحة فرنيك، إحدى باحات اللغة الهامة، هي أكبر في النصف الأيسر منها في النصف الأيمن لدى معظمنا، وربما كانت تشكِّل سريرَ السيادة النصفية المخية الوظيفية للغة. تعطي نظريات أخرى، متناقضة، أهمية أكبر لتأثير الجنس (الأصنوفة). ويعتقد بعض أطباء الأعصاب بذلك أنّ التستوستيرون، الهرمون الرئيسي المولد للخواص الذكورية، يحث على الحفاظ على تناظر تشريحي لناحية planum temporal، ومن هنا ربما كان يتمخض عن السيادة في نصف المخ الأيمن أو السيادة في النصفين عند الرجال. يؤكد بعض الدراسات، على العكس، أنّ التخصص الوظيفي بالنسبة للغة في النصف الأيسر هو أكثر بروزاً عند الرجال، وهو ما يمكن أن يكون مرتبطاً باختلاف حجم الدماغ، المرتبط هو نفسه باختلاف القامة الجسدية.. أدمغة مشقوقة إلى صفين: الأدمغة المشقوقة Split brains هي تلك التي قطعت فيها حزمة الألياف البيضاء (الجسم الثفني corps calleux) التي تربط نصف الكرة المخية الأيسر بالنصف الأيمن. ومنذ ستينيات القرن العشرين، بدأ جراحوا الأعصاب يعالجون بعض مرضى الصرع بقطع الجسم الثفني جزئياً أو كلياً. يمكن للدماغ المشطور بهذا الشكل في الواقع الاستمرار بالعمل على نحو عادي.. أو تقريباً كذلك. أفضت الأدمغة المشقوقة بذلك إلى مكتشفات باهرة. عند عرض شيء أمام العين اليمنى (والذي يُدرك بنصف الكرة المخية الأيسر) أمام شخص نصف كرته المخية السائد للغة هو الأيسر. فإنّه يسمي هذا الشيء بسهولة. ولكن عند عرضه أمام عينه اليسرى. فإنّ الشخص يعجز عن تسمية الشيء. أخيراً، عندما يكون الجسم الثفني لديه مقطوعاً جزئياً فقط، يستطيع الشخص أن يصف الشيء وصفاً فقط: لا تنتقل المعلومة الإبصارية إلى الجزء القادر في الدماغ على جعله يتوافق والرمز المفرداتي المناسب. عند وجود فشل: يقدم الباحثون فرضية أخرى هامة: قد تكون السيادة في النصف الأيمن هي نتاج "نقْل كفاءة". ربما كان نصف الكرة المخيلة الأيمن يستعيد الوظيفة التي فقدها النصف الأيسر بعد التعرض لأذية. هذه الظاهرة ملاحظة عند مرضى الصرع، مترافقة غالباً بتغير في اليد المشاركة: ربما كانت السيرورة نفسها تحدث عند مرضى غير مصابين بالصرع. وحسب هذه النظرية، قد لا يكون التخصص في نصفي كرة المخ أو في النصف الأيمن ناجماً عن نشوء باحات صدفوي – في النصف الأيمن أو في الأيسر – ضالعة في اللغة خلال تخصصها، بل عن وجود آفات مبكرة في النصف السائد أفضت إلى سيادة النصف الأيمن عبر ظواهر لدانة المشابك العصبية Synapses. في الواقع، قابليات المخ على الاستعادة مذهلة. تبقى استعادة اللغة، عند طفل من سن 5 سنوات (تميل لدونة المخ إجمالاً نحو التضاؤل مع التقدم في العمر)، ممكنة حتى بعد استئصال للقشرة المخية كلها في النصف الأيسر من الكرة المخية. كل شيء يكمن في النغمة من أجل إفهام المعنى الحقيقي لجملة ما، ما فيها من سخرية أو فكاهة، يجب أن نودع فيها نغمة شرط أن يكون هناك غش في المشاعر الحقيقية. هذا العنصر الجوهري في التواصل يعالجه بالأحرى نصف الكرة المخية الأيمن. بما أنّ هذا النصف متخصص أيضاً في الموسيقى، فيمكننا أن نتوقع أنّ الوظيفتين (الوظيفة العروضية – اختلافات النغمة، والشدة، والإيقاع – للغة والموسيقى) مترابطتان. ليس الأمر كذلك أبداً. وهكذا، تعرضت امرأة لخلل في العروض – aprososdie فقدت النبر الصوتي دون أن تفقد قابلية الغناء. في الواقع، الموسيقى واللغة وظيفتان متمايزتان تماماً. الأصوات الموسيقية وأصوات اللغة لا تعالجهما الباحات المخية نفسها. عدا ذلك، عندما تسبب الأذيات التي يتعرض لها الدماغ فقداناً في القابليات اللغوية، لا تتأذى وظيفة الموسيقى فيه حالة المؤلف الموسيقى "موريس رافل" تاريخية. لما كان مصاباً بحبسة إثر أذية في نصف الكرة المخية الأيسر، فإنّه كان يميز الأنغام، غير أنّه لم يعد يستطيع إعادة تكييفها (مع آلات موسيقية لم توضع لها أصلاً). بقي إدراكه الموسيقي سليماً. حالة "سوزان س" هي مشابهة. خضعت هذه المريضة فجأة لاقتطاع جزء من فص صدغها المخي الأيسر وتعرضت لمضاعفة سببت لها تنكساً (تغيراً تمخض عن تدهور في الأداء) في الفص كله. لم تعد قادرة على فهم ما يقال لها أو القراءة أو نطق شيء آخر غير "أنا أحبك". لكن "سوزان" ظلت تغني بعض الأغنيات الصغيرة التي تعرفها. ببساطة، لم تعد قادرة على تعلم كلام جديد ولا على فهم معنى رسائل مغناة. أسطورة الأعسر: أن تكون أعسراً، فإنّه ينظر إلى ذلك على أنّه حالة شاذة. رغم ميل الأبحاث اليوم بشكل متنام إلى رؤيتها على أنها طبيعية. في الماضي، كان المعلمون مقتنعين بأنّ الأعسر أو اليسروي يكتب بالضرورة بشكل سيِّئ. أما العلماء، فكانوا يعتقدون بأنّ اليسرويين هم أكثر استعداداً للإصابة بالتأتاة، وخلل القراءة والأمراض التحسسية من اليمنويين. من جانب آخر، تشير الإحصائيات إلى أنّ اليسرويين يعيشون عمراً أقصر من اليمنويين. من جانب آخر، تشير الإحصائيات إلى أنّ اليسرويين يعيشون عمراً أقصر من اليمنويين. من حسن الحظ، "أسطورة الأعسر سقطت"، حسب عبارة "ناتالي تزوريو – مازوييه"، مديرة أبحاث "اللغة والمحاكمة العقلية" في جامعة كان Caen الفرنسية. "أثبتت دراسات أنّ اليسرويين ليسوا أكثر تعرضاً لاضطرابات بدنية ونفسية من اليمنويين". في الواقع، ليس عوقاً أن تكون يسروياً، بل يعني أنك أعسر في عالم يمنويين لسوء حظك... عن "العلم والحياة" الفرنسية   *باحث ومترجم (سورية)

ارسال التعليق

Top