• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

غزوة حنين ومعاني الثبات والاستقامة

عمار كاظم

غزوة حنين ومعاني الثبات والاستقامة

كانت طريقةُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند فتح أيّة منطقة من المناطق هي أن يقوم بنفسه بإدارة شؤونها السياسية والدينية مادام هو فيها، فإذا أراد أن يغادرها عيّن أفراداً صالحين للقيام بتلك الأُمور، وشغل تلك المناصب لأنّ الناس في تلك المناطق كانوا قد اعتادوا على النظام المباد، ولم يكن لهم معرفة بالنظام الجديد، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ الإسلام دين متكامل، ونظام سياسي، اجتماعي، أخلاقي، ومعنوي يستمد قوانينهُ من منبع الوحي الطاهر، ويحتاج إيقاف الناس على تلكم القوانين والتعاليم، وتطبيقها العملي إلى أفراد صالحين متمرسين ومدرَّبين على التثقيف والتطبيق الصحيحين، ليمكّنهم إيقاف الناس في تلك المناطق على مبادئ الإسلام وأُصوله الصحيحة، وتنفيذ البرنامج السماوي الإسلامي في حياتهم على النحو الصحيح.

وقد فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا عند فتح مكّة، فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن قرر مغادرة مكّة والمسير إلى قبيلتي «هوازن» و«ثقيف» عيَّن «معاذ بن جبل» ليعلِّمَ الناس القرآن، وأحكام الإسلام، و«عتابَ بن أُسيد» الذي كان رجلاً مؤهَّلاً، لإدارة الأُمور، والصلاة بالناس جماعة، ثمّ غادر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكّة بأصحابه بعد أن مكث فيها خمسة عشر يوماً متوجهاً إلى أرض هوازن.

كان الجيش الذي سار به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هوازن يبلغ (12) ألفاً من الجنود المسلحين: عشرة آلاف هم الذين صحبوه من المدينة، وشاركوا في فتح مكّة، وألفان من رجال وشباب قريش الذين أسلموا بعد الفتح، وقد أوكل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قيادتهم إلى أبي سفيان. ولقد كان مثل هذا الجيش العظيم والجمع الكبير قليل النظير، ونادر المثيل في تلك العصور، وقد صارت هذه الكثرة ذاتها سبباً في هزيمته في مبدأ الأمر، فقد أعجب أفراد هذا الجيش بكثرتهم - على خلاف ما مضى - فتجاهلوا التكتيكات النظامية الدقيقة، وغفلوا عن خطط العدو ونواياهُ فكان ذلك داعياً إلى هزيمتهم! ولقد أشار القرآن الكريمُ إلى هذه الحقيقة إذ قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) (التوبة/ 25). وهذا يعني أنّ الكثرة ليست سبباً للنصر وأنّ العبرة ليست في الكمية وإنّما في النوعية التي تملك الإيمان وروح الاستشهاد في سبيل الله.

كما قد بلغت خسائرُ المسلمين من الأرواح في هذه المعركة ثمانية أشخاص في مقابل أسر ستة آلاف نفر من العدو. كما وأنّ المسلمين غنموا في هذه الواقعة أربعة وعشرين ألف بعير، وأربعين ألف رأس غنم، وأربعة آلاف أُوقية من الفضة. ثمّ إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بأن يؤخذ الأسرى والغنائم إلى منطقة تدعى الجعرانة (وهي ماء بين الطائف ومكّة) وكلّف أشخاصاً معيّنين بحراستها وحفظها وجعل الأسرى في بيوت خاصّة، كما أمر بأن تُحفظ الغنائم من دون أن يتصرّف فيها أحد في ذلك المكان، ريثما يرى فيها رأيه.

إنّ الذين عادوا إلى ساحة القتال وقاتلوا بشجاعة فائقة إلى جانب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنهم الإمام عليّ (عليه السلام).. هم القلة المؤمنة فهؤلاء هم الذين حقّقوا الانتصار في حُنين، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة والطمأنينة والدعة، فثبتوا في الظروف الحرجة لما يملكونه من عقيدة راسخة، وإيمان قوي، وشجاعة فائقة، وإرادة صلبة، ويقين راسخ بلطف الله ونصره. قال تعالى: (ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) (التوبة/ 26). وعليه فالسرّ في انتصارهم النهائي هو ثبات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليّ (عليه السلام) والقلة من الصحابة الذين يملكون الإيمان، فهؤلاء هم الذين أنزل الله عليهم السكينة التي تعني نوعاً من الهدوء والاطمئنان الذي يبعد عنهم كلّ أنواع الشكّ والخوف والقلق وأيّدهم وشدَّ أزرهم وقوَّى معنوياتهم، وأوجد روح الثبات والاستقامة في نفوسهم وقلوبهم بجنود من الملائكة لم يروها.

ارسال التعليق

Top