ها هو الضيف الكريم الذي أمتع المسلمين أياماً معدودات بطلعته المشرقة، وأوقاته المملوءة بالخير والبر يتأهب للرحيل، ويؤذنهم بالتوديع، (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) (الرعد/ 38)، "وأحبب مَن شِئُت؛ فإنَّك مُفارِقُهُ، واعمَلْ ما شئْت؛ فإنَّك مَجْزِيٌ بِهِ".
فترى هل أكرم المسلمون وفادته، وأحسنوا قراه؛ فهو شاكر ممتن؟ أم تثاقلوا عن واجبه، ونسوا حقّه؛ فهو مغبون مهضوم؟ والضيف يحمد أو يلوم.
وها هو ذلك الكتاب الناصع الصفحات من مذكرات الزمن لم يبق في صحائفه إلا القليل، وقد طوى الكثير منها على ما احتواه من الخير أو الشر؛ فترى هل كتب المسلمون صحائف هذا الكتاب بمداد الصالحات، ووشوه بأنوار الطاعات والمبرات، وطرزوه بسنا الخلائق الغر والصون والطهر، وختموه بمسك الإنابة والإستغفار، أم أهملوها فطويت غفلاً، وذهبت هباءً، أو لوثوها بسواد العصيان، وكدروا نصاعتها بظلمة العدوان؟!
وها هو ذلك الشهيد الذي أقام فينا شهراً يعود ليؤدي مهمته، ويعلن شهادته، وينطق علينا بما رأى منا، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرّاً فشر؛ فهل قدَّر المسلمون ذلك؛ فجعلوا أعمالهم حجة لهم لا حجة عليهم؟!
وها هي مركبة الزمن التي أرسلها الله لعباده قد قطعت مرحلتها، وسارت إلى غايتها؛ حيث تتوارى بالحجاب بما تحمل من خيرات أو آثام، ثمّ يحفظ كل ذلك لأهله، ويرى كل إنسان ما قدم من عمله، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا...) (آل عمران/ 30)؛ فهل رأى المسلمون هذه المركبة، وهي تسير؛ فحلوها من الصالحات ما يرونه محضراً يوم القيامة تقرُّ به نفوسهم، وتنشرح له صدورهم.
فأي الأشخاص كنت أيها الأخ الكريم؟
أيها المسلمون، ها هو رمضان يؤذنكم بالرحيل، وقد كان فيكم أستاذاً يملي عليكم مبادئ الرجولة الصحيحة، ويربي فيكم الإرادة القوية، يُعَوِّدكم الإحتمال والصبر، ويرسم لكم طريق الحرِّية، ويكشف عن بصائركم حجب المادة؛ حيث تسمو إلى أفق الملائكة، ويعلِّمكم الفقه عن الله – تبارك وتعالى – والفهم لكتابه ودينه وآياته، ولكلِّ أستاذ أثره؛ فكيف كان شهر رمضان في نفوسكم؟! زنوا أنفسكم وتعرَّفوا أثر رمضان في أرواحكم، وانظروا: هل قويت إرادتكم؛ فأصبحتم قادرين على الإستغناء عن التوافه من المتع في سبيل العظائم من المكرمات؟ وهل تعوِّدتم الصبر على الشدائد؛ فأصبحتم قادرين على التضحية في سبيل الوصول إلى أنبل الغايات؟ وهل كُشف عن بصائركم الحجاب؛ فأدركتم حقارة أعراض هذه الحياة الدنيا إلى جانب عزة النفس ووفرة الكرامة وحرِّية الضمير وسعادة الروح؟ وهل تفقهتم في دين الله وتفهُّم آياته؛ فأصبحتم تتجاوزون الألفاظ الجامدة إلى المعاني السامية، والتقاليد الفاسدة إلى لبِّ التشريع وأسرار التنزيل؟ إنْ كان ذلك كذلك؛ فاحمدوا الله على ما هداكم، وإنْ لم يكن ذلك كذلك؛ فاجتهدوا في هذه اللحظات الباقية أن تصقلوا مرآة أرواحكم، وتطهروا أدران نفوسكم، وتنتفعوا بفيض الله – تبارك وتعالى – في شهركم؛ فإن فعلتم فسوف تدركون – إن شاء الله، وإنْ أعرضتم فقد بلغت.. اللّهمّ اشهد.
المصدر: كتاب (كيف نستقبل رمضان)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق