• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أللّهمّ إنِّي صائم

أللّهمّ إنِّي صائم
◄(وإذا ما غَضِبُوا هُم يَغفِرونَ) (الشورى/ 37).. فَمَن هؤلاء الأقوياء الذين يغضبون فيغفرون؟ إنّهم المؤمنون الأشدّاء الذين يحققون بطولات نادرة في مصارعة الغضب. وهو نوع من المصارعة صعب المراس، لا يحتاج إلى قوّة في البدن، ولكن يحتاج إلى قوّة الإيمان وصلابة النفس في مواجهة الخصم لأنّك لا تصارع إنساناً مثلك، بل تصارع شهوة نارية وبركاناً يثور في الصدور عند الغضب، فإن كنت مدرباً على رياضة النفس والسيطرة عليها في الموقف الغاضب، فقد شهد لك رسول الله (ص) بأنّك أشد مصارع في العالم، ففي الحديث: "ليس الشديد بالصُّرعة، إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"[1]. وفي شهر الصبر على الحرمان من الشهوات، فرصة لترويض النفس وإمتلاكها عند الغضب خصوصاً في مواقف التدافع والزحام، حيث يتدافع الناس بالسيارات في مشهد كريه قد يتحوّل في لحظة إلى ضجيج مزعج، وتختلط أصوات الصائحين الغاضبين بأبواق السيارات فتشعر أنّ الزوابع قد هبت لتقتلع خيام الشهر الكريم، وتكدر صفاءه في نفوس المتشاحنين، وربّما رأيت مَن خرج من سيارته فائراً ثائراً فيطرح صيامه وراء ظهره ليسري عن نفسه بالشتائم والسباب. فماذا بقي لنا من صيامنا سوى الجوع والعطش؟ وأين مَن يدفع بالتي هي أحسن ليشهد ربّه أنّه من المستحقين لجزاء الصابرين في قوله سبحانه: (وجَزَاهم بِما صَبَروا جَنّةً وحَرِيراً) (الإنسان/ 12)؟ قد نسمع العديد من الصائمين في رمضان وهم يرددون في موقف الغضب: "أللهمّ إنِّي صائم".. نقولها أحياناً في تلقائية فيذهب عما نجد من ثورة الغضب. فليس من قبيل المصادفة عن القصد أن يأمرنا رسول الله (ص) بقولها مرّتين عندما يساء إلينا ونحن صائمون وليس فينا مَن لم يحفظ أو يسمع قوله (ص): "الصيام جُنّةٌ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإنْ سابَّهُ أحد أو قاتله، فليقل إنِّي امرؤٌ صائم"[2]، يقولها مرّتين لا ليفاخر بأنّه صائم، ولكن ليخرج بها شحنة الغضب في أسلوب حضاري مهذب لا يؤذي أحداً ولا يفسد له صوماً... يقولها ليحتفظ لنفسه في موقف الغضب بكبرياء المؤمن المستعلي بصيامه على فورة النفس الأمّارة.. يقولها ليطفئ بها ثورة الغضب في نفس صاحبه وإستجابة لقول المولى جلّ في علاه: (إدفَع بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بَينكَ وبَينهُ عَداوَةٌ كأنّهُ وليٌّ حَمِيم) (فصِّلت/ 34). من الصعب أن يصبر الإنسان على شهوات الدنيا وقلبه غير مشغول بنعيم الآخرة وأصعب من هذا أن يصبر على شهوة الغضب وهو غير متطلع إلى ما أعده الله للصابرين في الآخرة. وقد بشّر الله المتقين بجنّة عرضها السماوات والأرض إذا سارعوا إليها بأعمال حددها لهم، وجعل منها (والكاظِمِينَ الغَيظَ والعافِينَ عنِ النّاسِ واللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ) (آل عمران/ 134). فالإختيار هنا شديد لا يقوى عليه إلا طامع في الجنّة واثق في وعد الله فليس المطلوب هنا أن تكظم غيظك فحسب، فقد يكظم الإنسان غيظه فيظل يغلي في الصدور كالبركان ولكن إذا كظم غيظه ثمّ عفا عمّن أساء إليه، فقد برئت النفس من مكامن الخطر وتطهّرت المنطقة من الألغام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، وأحسنت إلى مَن أساء إليك فقد هيّأت نفسك لجنّة أعدّت للمتقين، وهل يمكن للإنسان أن يصل إلى هذه المرتبة وقلبه محتل بالدنيا قد يتحمّل الإنسان في عمله ما يثير الغضب ويؤلم النفس حتى لا تضيع ثمرة جهده أو أجرة عمله. وهذا ضرب من الصبر يثاب عليه في سبيل لقمة العيش، ويمكن أن نصفق لصاحبه لو أنّه جعل صبره على مكاره الجنّة كصبره على مشقات العمل أو جعل حرصه على أجره الأخري أشد من حرصه على أجره الدنيوي (فَمِنَ النّاس مَن يقولُ ربَّنا آتِنا في الدنيا وما لهُ في الآخرةِ مِن خالقٍ * ومِنهُم مَن يقولُ ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسَنَةً وفي الآخرةِ حَسَنَةً وقِنا عذابَ النّار) (البقرة/ 200-201)، والأجور الأخروية في رمضان مرتفعة والمكافآت عالية، فلا ينبغي أن نخسرها في لحظة غضب وقد نخسر صيامنا فنخرج من شهرنا مفلسين.. ليتنا نعلم أنّ مواقف الغضب إختبار إلهي كغيره من إختبارات الحياة التي نبتلى بها تمحيصاً وفحصاً وتمييزاً للخبيث من الطيِّب، كما يقول مولاك: (ولَنبلُوَنَّكُم حتّى نَعلَمَ المَجاهِدِينَ مِنكُم والصّابِرِينَ ونَبلُوا أخبارَكُم) (محمد/ 31).►   * أستاذ بجامعة الأزهر ووكيل كلية اللغة العربية الأسبق   المصدر: كتاب (القرآن وقضايا العصر)  
[1] - أخرجه البخاري (8/ 28)، برقم (6114) من حديث أبي هريرة. [2] - أخرجه البخاري (3/ 26)، برقم (1904) من حديث أبي هريرة.

ارسال التعليق

Top