"لولا الموسيقى لكانت الحياة غلطة"، هكذا قال نيتشه ذات مرة، أمّا الشاعر مرسي جميل عزيز فقد قال مخاطباً المثقفين العرب: "فيروز هي عدة شغلكم". يومها عقب أحد هؤلاء المثقفين مؤيداً ما ذهب إليه عزيز: "إن في قلب كل من قرأ جملتين، مساحة ضوء لفيروز وأغانيها". ونظن أن في قلب كل مواطن عربي مساحة ضوء لفيروز التي أحالتْ أوقاتنا إلى مشاوير من الهناء وأسهمت في صياغة أحلامنا عن الحب والوطن والفرح والحزن، وأخذت بأيدينا بعيداً إلى بيوت محمية وراء حدود العتمة والثلج والريح، وإلى ليالٍ باردة تدفئها نيران مواقد ناعسة في ضيع تلقي برأسها على أكتاف جبال شماء.
مجدت فيروز الحب في لحظات أوج تجليه، في أغانٍ باتت لنا ذاكرة فنية وموسيقية مشتركة غطت الوجدان العربي على امتداد رقعة هذا الوطن الكبير المنبسط من أقصاه إلى أقصاه، بغناءٍ هو للوجود سر، وبناي يبقى خالداً بعد أن يفنى الوجود كما في قصيدة جبران الشهيرة التي غنتها.
بموسيقى وكلمات الأخوين رحباني صنع صوت فيروز مجداً غنائياً، انطلق من لبنان وطاف في ديار العرب، لا بل وطاف العالم كله. الزمن الرحباني – الفيروزي ينتمي إلى زمن آخر كان فيه لبنان في أوج عافيته الثقافية والفنية، قبل أن تندلع الحرب الأهلية بكل عبثيتها وجنونها فتدمر معالم تلك المرحلة، ولكن الفن عابر للزمن. إنّ تراث الرحابنة وفيروز يظل طازجاً، كأنّه أُبدع البارحة.
زياد الرحباني، ابن عاصي وفيروز، المتماثل والمتباين في آن مع المدرسة الرحبانية، الواصل لها والخارج على صرامة بعض قواعدها، أخذ بفيروز إلى مناطق جديدة في أداء سفيرتنا إلى القمر، وإلى حدود بعيدة فإنه كسر الصورة التي شكلها الأخوان رحباني لفيروز، دافعاً بها بجرأة وإبداع إلى مغامرات جديدة في الكلمة واللحن.
وزياد، إضافة إلى كونه ملحنا مبدعاً وموزعاً موسيقياً بارعاً، فإنّه كاتب كلمات موهوب أيضاً. الكلمة عنده مأخوذة من الحياة.. بسيطة وعفوية وحارة، فهي تنأى عن المعجم الرحباني المعروف بتراكيبه اللغوية المشحونة بالشفافية والعذوبة، ولكنها تقدم وهجها الخاص الذي يحول المحكي واليومي إلى جملة شعرية وموسيقية تنفذ إلى أعماقنا.
يدهشنا زياد بقدرته على أن يجعل من البسيط معقداً ومركباً في نسيج يؤكد موهبة هذا الفنان المغامر الذي لا يركن إلى حال، يسعفه في ذلك صوت فيروز الذي يبدو وكأنّه يكتشف فيه طاقات مجهولة.
ارسال التعليق