لماذا يخجل الخجول أو يتضايق؟ بتعبير آخر حين يشعر ان غيره يشاهده أو يراقبه بل يتثاقل ويضطرب حين يفترض ولو افتراضاً فاسداً انّ الآخرين يوجهون إليه أنظارهم؟.
هذا الاضطراب ينشأ في التحليل الأخير عن خوف من أن يظهر المرء بمظهر لا يريده هو أو من أن لا يظهر بالمظهر الذي يريده.
وذلك يعني انّه ينطوي من جهة ثانية على رغبة شديدة بالاستحسان، ثمّ على كراهية بالغة للاستهجان، وكلتا العاطفتان ترجع إلى خلق سخيف منتشر عام هو (المضاهاة).
إذا حذقت هذا الخلق من طباعك الذي لا ينتظر منه ان يفيدك بشيء والذي يدفع بصاحبه أغلب الأحيان إلى أعمال تناقض مصلحته المعنوية والمادية تصبح فور حذفه مستقلاً سيداً حرَّاً، في تفكيرك أوّلاً، وفي تصرفاتك وسلوكك من بعد.
تأمل فوائد هذا الاستقلال أو هذه السيادة الفكرية إذا شئت تجد انّ الذين أولعوا بالاستقلال وشغلتهم الحرية عما عداها من شؤون الحياة واشجانها هم المتفوقون، هم الذين يرفعون رؤوسهم عالياً أمام أعلى الرؤوس وأصلبها، وهم الذين يسيطرون في الحقيقة على كل مسيطر بالغاً ما بلغت قوته العسكرية أو المادية.
ذلك لأنّ الحر في فكره يصبح في حل عفوي من رضا الناس وسخطهم، فكلامه وحركاته وسكناته وأوقاته وقرارته تخرج عن إدارة الآخرين ولا تتعلق باستحسانهم، ولا تتأثر باستهجانهم، فهو لا ينفق أيامه في استهواء غيره واستجداء الثناء وطلب الاطراء، وانما ينصب بكل قواه على تحقيق الأشياء التي رسم لتحقيقها خطة استوحاها من فكره بكل اناة وروية وحرية.
ترى المستقل الحر ولا دافع لسيرته ولا غاية وراءها إلا أن يتصرف بدقة وضبط لتحقيق أعراضه السامية، ولا يهتم أبداً لتقديرات الآخرين فتقديره الشخصي للأمور والأحوال والظروف يسمو عن كل فهم وتقدير.
بيد انّ هذا لا يعني بحال من الأحوال ان استقلال الفكر يحوي – وان ضمنا – شيئاً من الانطوائية واعتزال المجتمع والاس والابتعاد عن البشر، لا!... وانما ينبغي أن يتحرر المرء من كل نفوذ خارجي ليتمكن من تحصيل مزاج معتدل متسق ولياقة في التصرف، وتسامح ولطف في المعاملة، وكتمان للأسرار، ثمّ ليتمكن أيضاً من امتلاك أعصابه تجاه ما قد يعترضه مت تهكم، أو يناله من سخرية وتهجم ونقد.
واستقلال الفكر لا يعني احتقار كل فكر آخر، والاستعلاء الأجوف على كل ما يقدمه غيره من تجارب وآراء، وإنما هو في هذا المنحى ضرب من الاستعداد للمعرفة. واستخلاص النتيجة، ووسيلة إلى التدقيق والتحقق، فالمستقل يحتفظ بحريته الفكرية ليقوى على المفاضلة والاستقراء والاستدلال حتى إذا أعطى رأياً كان بعيداً عن كل تأثر مطلق من كل قيد وكأن رأيه يمثله ولا يمثل غيره.
وانّه لمن السهل أن تدرك بعد ذلك انّ الولع بهذا الاستقلال يرد الخجول فارساً منتصراً يندحر أمام غاراته الفكرية الحرة كل الأحاسيس والنفعالات التي كانت تعذبه وتخلق الفوضى في كيانه النفسي، فإذا عورض من أحد فيما يحاول من أعمال كان جوابه عن الاستهزاء والتثبيط والتهكم (أنا لا أبالي ما يراه الآخرون ما دمت مطمئناً لما أراه).
ولكن بلوغ هذه المرتبة من الاستقلال والعزم يحتاج إلى جهود وتجارب وصراع دائب مع الانفعالات والعواطف والناس. والولع بالاستقلال الفكري وحده كفيل بنصرك في كل معركة تخوضها من أجل التحرر والتحرير.
ارسال التعليق