• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الترحيب بالابتلاءات!

أسرة البلاغ

الترحيب بالابتلاءات!

من عادة الإنسان الترحيب بالعافية.. أمّا أن يُرحِّب بالابتلاء، فذلك ليس خلاف العقل والمنطق، هو لا يريد الوقوع في شباكه؛ لكنّه إذا وقع يعرف كيف يستنفر قواه، ويستخرج ذخائره المخزونة، ويشحذ مهاراته المدخرة، ويُوظِّف ذكاءه وتجاربه وإبداعاته المودعة فيه، وهذا درس في الثقافة المجتمعية أنّ إنسان كلّ مجتمع هو رصيده الأكبر، ومُغيِّره، وناقله إلى مصاف النجوم!

الإنسان الذي يواجه الابتلاء فيصمد ويصبر ويكافح، أشبه شيء بالزيتون الخام، ذلك أنّ الزيتون يكون في البداية مُرّاً، فإذا رصّ رصّاً، وكبس كبساً، زالت مرارته، وإذا عُصر عصراً سال زيته النقيّ وهو أكثر قدرة على النفع في أغراض متعدِّدة، أكثر من نفعه وهو ثمرة أسقطتها الشجرة!

الابتلاءات، أوبئةً كانت أم كوارث، أم نكبات، أم مصائب، أم غيرها، مُرحَّب بها على هذا النحو الذي عَبَّر عنه القرآن بالقول: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 156).

إنّ للموت الفرديّ - بلا شكّ - وقعَه، وأثرَه، ومردودَه النفسيّ على المحيطين بالمتوفّى.. أمّا عندما تكون الدائرة أوسع، كما في الزلازل والفيضانات والأعاصير، أو حوادث تحطّم طائرة، أو ارتطام قطار، أو سقوط ضحايا بالجملة في تفجير بسوق مكتظ بالمتبضّعين، أو نتيجة اضطهاد ديني حيث يُساق شعب إلى المجزرة، فقد يكون له مردود نفسي آخر.

لا نتحدَّث عن كمّية الأسى والحزن هنا وهناك، وإنّما عن فداحة الجريمة وجسامة الخسائر ومستوى الظليمة، إلّا أنّ ما يُخفِّف وقعَ الألم علينا عند ارتفاع عدد الضحايا، هو شمول البلاء، على طريقة (الخنساء) في تهوين مقتل إخوانها عليها:

ولولا كثرةُ الباكينَ حولي

على إخوانِهم لقتلتُ نفسي

وبذلك يصدق القول هنا: إنّ المصائبَ إذا عمّت هانت!

إنّ الموت سواء أكان بـ(المفرق) أم بـ(الجملة) كان موجوداً قبل (كورونا)، وهو موجود مع وجوده، فقد يموت أُناس في زمن كورونا بغير كورونا، وفاقاً لقول الشاعر:

مَن لم يمتْ بالسيفِ ماتَ بغيرِه

تعدَّدت الأسبابُ والموتُ واحدُ

وسيبقى الموت بعد الخلاص من كورونا، لسبب بسيط، أنّه لم يُولد بولادته، وقد يلجأ الإنسان أو يهرب من الموت إلى مكانٍ ناءٍ، ظنّاً منه أنّه ينجيه من قبضة الموت، فإذا بالموت يكمن له في الملاذ الذي تصوَّره آمناً!

فرُبَّ هارب من الموتِ والموتُ يطلبه، يقول تعالى في وصف هذه الظاهرة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) (البقرة/ 243)، ذلك المعنى الذي صاغه الشاعر بقوله:

طافَ يبغي نجوةً****من هلاكٍ، فهلكْ!

كلُّ شيءٍ قاتلٌ****حينَ تَلقى أجلَك!

ارسال التعليق

Top