• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شمولية الاتصال... خصوصية الثقافة

شمولية الاتصال... خصوصية الثقافة
  ◄ثمة بين الاتصال والثقافة من عناصر الالتقاء والتكامل أكثر مما بينهما من مكوِّنات الجفاء والاختلاف. فالثقافة ستنحصر وتركد لا محالة إنْ هي لم تتكئ على وسائل للاتصال تضمن لها الذيوع والانتشار، والاتصال بدوره سيبقى من دون جدوى إذا لم ترفده الثقافة بالمعلومات والمعارف والمضامين.

لا ينحصر الأمر في استوظاف الثقافة لوسائل الاتصال بغاية كسر طوق العزلة وضيق الانتشار، ولا في لجوء وسائل الاتصال إلى الثقافة لتجاوز بُعدها الأدواتي الخالص، بل يتعدى ذلك ليطال طبيعة كلٍّ منهما، وآليات تصريف الخطاب لدى كلّ منهما، وكذلك المرجعية التي تحكم مسار كلٍّ منهما.

ولئن كانت الثورة التكنولوجية في العقود الثلاثة الأخيرة قد أثرت حقل الإعلام والمعلومات والاتصال من حيث الأدوات والمضامين كلتيهما، فإنّها وإنْ بوتيرة أقل قد ساعدت إن لم يكن في إنتاج المعارف والرموز فعلى الأقل في استنباط طُرُق وأنماط تنقلها وتداولها بين الأفراد والجماعات.

وعلى هذا الأساس، فشمولية الاتصال، ممثلةً أساساً في انفجار الشبكات المعلوماتية وتكاثر الأقمار الصناعية وفورة التلفزة العابرة للحدود... إلخ، لم تزح، ولا يمكن لها بأي حال أن تزيح عن الثقافات ما يميزها ويكوّن خصوصيتها، بقدر ما أصبح بإمكانها العمل في اتجاه توسيع فضاء إنتاجها وتوزيعها واستهلاكها.

ومعنى هذا أنّه لو كان لشمولية الاتصال أن تفعل في الخصوصية الثقافية لجهة من الجهات، فلن يكون لها ذلك إلا بقدر قابلية هذه الخصوصية وتجاوبها مع تلك الشمولية وقدرتها على ذلك. ومعناه أيضاً أن ما يُسمى منذ مدة بـ"التكنولوجيات الثقافية" لا يخرج عن هذا السياق، سياق التجاوب بين شمولية الاتصال وخصوصيات المجال الثقافي.

الواقع أنّ العلاقة بين شمولية الاتصال وخصوصية الثقافة لا تنحصر فقط في جانب التجاوب المشار إليه بينهما، بل تتعداه إلى آليات من الارتباط جديدة ومتجددة، إن لم تكن موحِّدة لاتجاه مسارهما، فهي بالتأكيد نحو التفاعل والتأثير في بعضهما البعض.

هناك، في ما يبدو، ثلاثة مظاهر كبرى تلقي ضوءاً على ذلك وتؤكّده:

المظهر الأوّل، وتتغيّا شمولية الاتصال من خلاله إبراز الخصوصيات الثقافية وتقييمها على نطاق واسع على نقيض عهود سابقة حالت وسائل النقل والإعلام والاتصال فيها دون تنقل المعطيات والرموز خارج الفضاء الواحد بسبب ارتفاع الكلفة أو ضعف التجهيزات.

لا نشير هنا فقط إلى ما للبثّ عبر الأقمار الصناعية من امتيازات وما للمتعدد الأقطاب من فضل، بل وكذلك إلى ما لشبكة الإنترنت من عطاءات، إذ لم يكن تداول الثقافة من قبلها جميعاً يتعدى أبناء الفضاء الضيق الواحد أو في أحسن الأحوال الفضاءات المجاورة مباشرةً.

ولئن كانت الأقمار الصناعية قد ساهمت بعمق من تدفق المضامين الثقافية، على الأقل بالقياس إلى عدد القنوات الفضائية ذات الطبيعة الثقافية والتربوية والعلمية... إلخ، فإنّ شبكة الإنترنت ما فتئت بدورها تُساهم في بلوغ مكتبات ومعاهد ومتاحف ومراكز بحوث وجامعات ودور نشر لطالما حالت "الندوة التكنولوجية" دون بلوغها أو حتى معرفتها.

لا نعتقد في المطلق أنّ دخول الثقافات المحلية أو الوطنية شبكات الإعلام والاتصال الكبرى يمنحها صفة "العالمية" أو القدرة على الفعل المباشر في الثقافات الأخرى، لكنه يتيح لها بلا شك سُبُل "وضعها على المحك" مع الثقافات الأخرى، ويوفر لها وإن على المدى الطويل إمكانيات التعارف والتلاقح في ما بينها.

المظهر الثاني، وهو امتداد للأوّل، ونعتقد معه إنّ شمولية الاتصال لا تدفع فقط باتجاه تقييم الثقافات المحلية أو الوطنية، بل وأيضاً باتجاه إفراز خصوصيات بقيت لعهود طويلة لصيقة بفضائها ومحيطها المباشر.

ليس المقصود هنا عملية المَوْسَطة التي منحتها تكنولوجيا الاتصال لخصوصيات أفرزتها الحروب في البلقان كما في إفريقيا كما في غيرهما، ولكن أيضاً الحقّ في خلق قنوات فضائية تتحدث بلغة تلك الخصوصيات (الأكراد مثلاً ضمن أقليات أخرى)، أو خلق مواقع على شبكة الإنترنت تعتمد اللغة المذكورة حتى وإنْ كان زوار تلك المواقع أُناساً هامشيين كحال الطوائف المحدودة مثلاً أو غيرها.

والمقصود هنا باختصار أنّ شمولية الاتصال قد منحت الخصوصيات الثقافية فرصاً للبروز بعدما كانت الثقافات الطاغية قد أوشكت على طمس معالمها.

المظهر الثالث، ويتجلّى لنا بالأساس في قدرة "شمولية الاتصال" على إفراز صناعات ثقافية لخصوصيات تبقى محلية في غياب تلك الوسائل والأدوات.

لا نُلمِّح هنا فقط إلى الأقراص المدمجة المتضمنة للعديد من مآثر وطقوس وتمثلات تلك الخصوصيات، ولا إلى شيوع العديد من الرموز الثقافية المنحصرة التأثير إلى عهد قريب، ولكن أيضاً إلى انتشار مواقع على الإنترنت تتغيّا التعريف بهذه الخصوصيات والدفع بتميّزها وإنْ كان التميّز من أجل التميّز على ما يبدو أحياناً.

ولئن كان من شبه الثابت أن مدّ العولمة المتسارع منذ ثمانينات القرن الماضي قد أدى إلى اتجاه العديد من الخصوصيات إلى التقوقع والانغلاق ورفض الآخر من جراء المد التنميطي المتزايد، فإنّ العديد من الخصوصيات الثقافية قد سارعت إلى مواجهة ذلك المد عبر لجوئها إلى ما توفره تكنولوجيا الاتصال من سُبُل وإمكانات، وأيضاً عبر تمكّنها من تملّكها والنجاح في توطينها.

والسرّ في ذلك لا يكمن فقط في خصوصية القيم التي تجاوبت مع تلك التكنولوجيا أو في تفوقها على ما سواها من قيم، ولكن ربما يكمن في قدرة أصحاب القرار على إنجاح ما يمكن تسميته بـ"التقاطعات" بين التقني والثقافي على خلفية من السيادة الضمنية للمرجعية الثقافية الأصل. وهو أمر يكفي لتبيانه دولة كماليزيا أو الهند أو العديد من "الجيوب التكنولوجية" في دول أمريكا اللاتينية.

إذا كانت شمولية الاتصال قد "مدَّت يد العون" إلى الثقافات الوطنية بقصد تبيان تميّزها عن بعضها البعض وإبراز أوجه الخصوصية التي تطبعها، فإنّها بالمقابل – وعلى النقيض من ذلك – قد ساهمت وإلى حد ما في تقويض بعضٍ من أُسسها أو المسّ ببعضٍ من مميّزاتها.

والسرّ، في رأينا، لا يكمن فقط في أنّ لكلٍّ منهما وتيرته (السرعة والآنية بالنسبة للاتصال، التأني والمدى الطويل بالنسبة للثقافة)، ولا في الطبيعة المتمايزة التي تطاولهما (الانسياب بالنسبة للاتصال، والقارّية بالنسبة للثقافة)، ولكن نراه كامناً أيضاً في ثلاثة مستويات أخرى:

المستوى الأوّل، ويتمثّل في تنافر شمولية الاتصال مع خصوصية الثقافة، وهو يتراءى لنا في ذلك البُعد السلعي الذي يعمل الاتصال على إلباسه للثقافة وطبعها بطابعه في الشكل كما في الجوهر.

والمقصود بهذا القول بأنّه مع تقدم السوق، ممثّلاً في العولمة، وتكريس "ثقافة" السوق، فإنّ الرائج أن لا قيمة للشيء إن هو لم يقيِّم كسلعة وفق منطق العرض والطلب، سيّان في ذلك مواد الاستهلاك الجماهيرية، أو رموز الهوية والذاتية، أو قيم التميّز الحضارية.

قد لا يبدو العيب كبيراً في ثقافة السلعة مع استفحال العولمة واقتصاد السوق وانفجار تيارات المعلومات والمعارف، فهي المهيمنة وهي المرجعية أو تكاد، لكن العيب ربما يأتي من "تسليع" الثقافة وتحويل مضامينها إلى بضائع وأدوات ومواد للاستهلاك العابر.

وبالتالي، فحتى لو تم التسليم جدلاً بمركزية السوق في تقييم "السلع الثقافية" – كتباً كانت أم أسطوانات أم لوحات فنية أم غيرها – فإنّه من المستحيل إخضاع الثقافة كتمثلات ونمط عيش وطريقة تفكير لطقوس السوق وآليات اشتغاله.

هذا المستوى من التنافر مركزي في تصورنا، لا على اعتبار توازي خط كلّ من الاتصال والثقافة، ولكن أيضاً بسبب تعذر اختزال فضاء أحدهما في فضاء الآخر.

المستوى الثاني، ويتمثّل في اتجاه الاتصال نحو الشمولية في الوقت الذي تتشبث فيه الثقافة بمبدأ الخصوصية حتى وإنْ في تطلّعها إلى الكونية.

إذ لما كانت العولمة، وفي صلبها اقتصاد السوق وثقافة السوق، تدفع باتجاه الشمولية، غير آبهة بما قد يكون تشبثاً بالخصوصيات، فإنّها بذلك إنما تدفع باتجاه سيادة "الثقافة الأقوى"، أي تلك التي لها من إمكانات الاتصال ما يجعلها حاضرة بقوة في فضاء الخصوصيات. ولعلّ ذلك هو السبب الجوهري وراء وجود "ثقافات كونية" لا تقيم توازناً بين العالمي والمحلي بقدر ما تعمل على استتباع الثاني لصالح الأوّل وابتلاع مقوماته وعناصر المناعة لديه.

ليس المقصود مما سبق، القول بـ"نهاية الخصوصيات الثقافية" في ظل "هيمنة" و"تسيُّد" ثقافة كونية، أنجلوساكسونية بالأساس، ولكن المقصود هو حقيقة التقدم المطرد لمنظومة في تصوّر العالم على خلفية من ابتزاز الصناعة والتقنية والسوق لقيم الخصوصية والتميّز التي تدفع بها الثقافة ومنظومات القيم "المستهدفة". وبالتالي، فالمُطالب به، في هذه النقطة بالذات، هو التسليم بمبدأ الكونية، أقصد كونية الخصوصيات لا تَوَحُدِها واندغامها في الأقوى.

المستوى الثالث، ويكمن، في اعتقادنا، في التوظيف الإيديولوجي الذي يخضع له مبدأ شمولية الاتصال بغرض إقامة و"تسييد" ثقافة كونية من جانب واحد على غرار مبدأ الخصوصية الثقافية الذي هو القاعدة الأساس.

لا يتعلق الأمر هنا، كما في الحالات السابقة، في تقديم "قيم" الليبرالية الجديدة وإخضاع "السلع" الثقافية لها "منظمة التجارة العالمية كما المنظمات المختصة الأخرى) دونما إيلاء اعتبار يُذكر لمطالب الدول والشعوب المستضعفة، ولكن الأمر يتعدى ذلك إلى إخضاع المجال الثقافي ذاته لسياسات عهدناها موضوعة أصلاً لمجال الاتصال، كسياسات التحرير وإعادة التقنين والخوصصة.. وما إليها.

وهكذا، فإنّ شمولية الاتصال، في نظر الخطاب الإيديولوجي السائد، لا توازيها، في نهاية المطاف، إلا كونية الثقافة... تماماً كما حاول نائب الرئيس الأمريكي السابق آل غور التأسيس لذلك من خلال ترويجه لأطروحة "المجتمع الكوكبي" الحميمي، أي المجتمع الكوني... "المنصهر" في إيديولوجيا "ثقافة الاتصال".►

 

المصدر: كتاب أوراق في التكنولوجيا والإعلام والديموقراطية

ارسال التعليق

Top