• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

مركز نون للتأليف والترجمة

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

- سلاح المؤمن:

لا يُمكن للعبد النجاة من الرَّذائل الخلقيّة وانحراف النفس الأمّارة ووساوس الشيطان بالاعتماد على عقله وحسب، بل لابدّ له أن يستعين بالله تعالى، فلا يُوفَّق لسلوك سبيل الرشاد ولا يُفعم قلبه بنور الهدى ما لم يلجأ إلى بارئه بالدُّعاء والإنابة.. فالتضرُّع إليه جلّ شأنه يُزيح حُجُب النسيان وينتشل النفس من غَياهب الضلال ويجعلها تنتعش بفطرتها السليمة التي لا شائبة فيها.

وبالطبع، فإنّ مفهوم الدُّعاء واسعٌ والحديث عنه مترامي الأطراف ولا يمكن استيفاؤه هنا، إلّا أنّنا نحاول أن نتطرَّق إلى جانبٍ هامٍّ منه، وهو دَوره التربويّ وتأثيره في هداية البشر.

الدُّعاء يعني الانقطاع إلى المعبود وطلب التقرُّب منه والتوفيق للطاعة والبُعد عن المعصية، وكلّما انقطع العبد إلى ربّه أكثر ووثَّق الصلة به بالتضرُّع والرَّجاء فسوف ينعم بفيضٍ عظيمٍ ويتقرّب إليه أكثر.

والدُّعاء يُعين العبد في ميدان الجهاد الأكبر لسببين، هما:

1- لا يُوفَّق أحدٌ لفضيلة الدُّعاء والتضرُّع ما لم يؤيِّده الله تعالى، وبالتأكيد فإنّ هذا التوفيق يمكن أن يناله العبد من خلال دعائه.

2- الدُّعاء يُنير القلب ويوقظه من غفلته التي هي أساس كلّ انحرافٍ ورذيلةٍ.

وقد أكّد الإمام عليّ (ع) على أهميّة الدُّعاء في النجاة من الغفلة، قائلاً: "وأكثِرْ الدُّعاءَ تَسلَمْ مِن سُورَةِ الشيطانِ".

والتضرُّع إلى الله تعالى وطلب العون منه سيفٌ بتّارٌ يقطع دابر الشيطان ويقضي على نزوات النفس الأمّارة، كما قال رسول الله (ص): "الدُّعاءُ سِلاحُ المؤمنِ وعَمودُ الدِّينِ ونُورُ السَّماواتِ والأرضِ".

فتعساً لمن حُرِم من هذا السلاح الذي يُعدّ سدّاً منيعاً أمام صولات إبليس وجنوده، ولم يغتنم الفرصة ليتنعم ببركة خطاب بارئه. مَثَلُ الإنسان في الحياة الدنيا كثمرةٍ ناضجةٍ متدليّةٍ من غُصن شجرةٍ، ومادامت مرتبطةً بهذا الغُصن فسوف تبقى في مكانها، ومتى ما انقطع ارتباطها سوف تهوي ساقطةً وتفقد طراوتها. والإنسان مرتبطٌ في حياته الدُّنيا بحبل الله المتجسِّد بالدُّعاء والتضرُّع.. ومادام ارتباطه وثيقاً، فإنّ نَفسَه نزيهةً وراقيةً في أعلى درجات العُبودية؛ ولكن لو قطع ارتباطه بارتكاب ذنوبٍ وقبائح فسوف يسقط في حضيض الدنيا الفانية ويصبح أسيراً لوساوس الشيطان.

وأشار الإمام علي بن الحسين (ع) إلى ذلك في مناجاته، حين قال: "إلهي وسيِّدي ومَولاي، إنْ قَطَعتَ تَوفيقَكَ خَذلتَني؛ إلهي وسيِّدي ومَولاي، إنْ رَدَدتَني إلى نَفسي أهلَكتَني".

ونستوحي من القرآن الكريم أنّ التضرُّع إلى الله تعالى يرفع من شأن الإنسان ويُقرِّبه إليه، وإلّا فلا شأن له مادام منقطعاً عن ربّه وتاركاً دعاءه، حيث قال تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) (الفرقان/ 77).

 

- الدُّعاء عند الأنبياء والأولياء:

والحقيقة أنّ سرّ توفيق الأنبياء والصالحين ونجاحهم في إنجازاتهم العظيمة هو استعانتهم بالله تعالى وطلبهم العون منه، كما صرّح القرآن الكريم بذلك في كتابه المجيد مراراً وتكراراً، منها: دعاء آدم وحواء (الأعراف/ 23)، دعاء النبيّ نوح (القمر/ 10، الشعراء/ 118، المؤمنون/ 29، نوح/ 28)، دعاء النبيّ إبراهيم (إبراهيم/ 37-41، الشعراء/ 83-89، البقرة/ 127-129) دعاء النبيّ موسى (القصص/ 16 و21، الأعراف/ 155)، دعاء النبيّ عيسى (المائدة/ 114)، دعاء النبيّ يوسف (يوسف/ 33 و101)، دعاء أصحاب الكهف (الكهف/ 10)، دعاء الحواريين (آل عمران/ الآيتان 52 و53).. وما أحوج العبد إلى التضرُّع في جهاده الأكبر، إذ لا يمكنه كبح نفسه الأمّارة وكسر شوكة إبليس وجنده دون الاستعانة بربّه العظيم.

ونلمس مدى أهميّة الدُّعاء في الأدعية المأثورة عن الأئمة المعصومين (ع)، حيث علَّمونا أُسلوب التضرُّع إلى الله تعالى ومناجاته طلباً للعون والمغفرة.

ويجب على العبد الاعتراف بعظمه ربّه والإذعان لأوامره بالعبودية والطاعة، وكذلك لابدّ من أن يناجيه لكي يهديه إلى سواء السبيل في كلّ صلاةٍ مرّتين: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة/ 6 و7).

قال أمير المؤمنين وسيِّد الموحّدين (ع): "ونَستَعينُهُ على هذه النُّفوسِ البِطاءِ عَمّا أُمِرَت بِهِ السِّراع إلى ما نُهيَتْ عَنهُ".

وفي الدُّعاء الذي علَّمه (سلام الله عليه) لكميل بن زياد والمنسوب إلى الخضر (ع)، نستلهم أسمى مفاهيم التضرُّع إلى الله تعالى بمنطقٍ متواضعٍ قَلّ نظيره، منه: "اللهمّ إنِّي أتقرَّبُ إليكَ بذِكركَ واستشفِعُ بكَ إلى نفسِكَ، وأسألُكَ بجُودِكَ أنْ تُدنيَني من قُربِكَ وأنْ تُوزِعَني شُكرَكَ وأنْ تُلهمَني ذِكرَك. اللهمّ إنِّي أسألُكَ سؤالَ خاضِعٍ مُتذلِّلٍ خاشِعٍ أنْ تُسامِحَني وتَرحَمَني"، ومنه كذلك: "قَوِّ على خِدمتكَ جوارِحِي واشدُدْ على العَزيمةِ جَوانِحِي وهَبْ لي الجِدِّ في خَشيَتِكَ والدَّوامَ في الاتِّصالِ بِخدمَتِكَ".

وقال الرسول الأكرم (ص) في دعاءٍ: "اللهمّ اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به رضوانك، ومن اليقين ما يُهوِّن علينا به مصيبات الدُّنيا.. اللهمّ أمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا واجعل ثارنا على مَن ظلمنا، وانصرنا على مَن عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا ولا تُسلِّط علينا مَن لا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين".

وقد روى أبو حمزة الثماليّ عن أبي جعفرٍ الباقر (ع) أنّه قال: "إنّ الله عزّوجلّ أوحى إلى داود (ع) أنْ ائتِ عبدي دانيال فقُل له: إنّك عصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك، فإنْ أنتَ عصيتني الرابعة لم أغفر لك. فأتاهُ داود (ع)، فقال: يا دانيال، إنّني رسول الله إليك وهو يقول لك: إنّك عصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك، فإنْ أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك.

فقال له دانيال: قد أبلغت يا نبيَّ الله.

فلمّا كان في السَّحَر قام دانيال فناجى ربَّه، فقال: يا ربِّ، إنّ داود نبيَّك أخبرني عنك أنّني قد عصيتك فغفرت لي وعصيتك فغفرت لي وعصيتك فغفرت لي، وأخبرني عنك أنّني إنْ عصيتك الرابعة لم تغفر لي: فَوَعزَّتك لئن لم تعصمني لأعصينَّك ثمّ لأعصينَّك ثمّ لأعصينَّك".

إنّ نبيّ الله دانيال (ع) بالطبع لا يقصد في قوله "لأعصينَّك" إصراره على ذلك، بل يؤكِّد في ذلك ضعف النفس وعدم صمودها أمام المعصية ما لم يعصمها الله تعالى، لذا يدعوه مُتضرِّعاً أن يُسدِّد خُطاه ويأخذ بيده ويحفظه من كلّ زلّةٍ.

كذلك يجدر بنا أن نحتذي بالصالحين ونتوسّل بربّ العزّة والجلالة لأن يُوفِّقنا لما فيه خير الدنيا والآخرة وأنْ يحفظنا من وساوس الشيطان الرجيم وأنْ لا يُوكلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ.

نقرأ في جانبٍ من دعاء أبي حمزة الثمالي ما يلي: "أعوذُ بِكَ من نَفسٍ لا تقنعُ ومِن بَطنٍ لا يَشبعُ وقَلبٍ لا يَخشعُ ودُعاءٍ لا يسمعُ وعملٍ لا ينفعُ وصلاةٍ لا تُرفعُ. وأعوذُ بك يا ربِّ على نفسي وديني ومالي وجميع ما رزقتني من الشيطان الرجيم".

فالعبد المتضرِّع يشعر بلذّةٍ وطراوةٍ في مناجاته لا يُدركها أحدٌ سواه، لأنّ الدُّعاء يسحر قلبَه ويأسره بحيث لا يبقى فيه مجالٌ لملذّات الدُّنيا الزائلة وشهوات نفسه الحيوانية التي لا تتغلغل إلّا في النفوس الخاوية البعيدة عن حقيقة الذِّكر: "مَنْ ذا الذي ذاقَ حَلاوةَ ذِكرِكَ فَرامَ مِنكَ بدلاً".

فيا تُرى هل هناك ربٌّ أفضل من هذا الذي يتقرّب إلى عبده ويدعوه إلى التقرُّب منه ليُنعمه بالسعادة الأزلية، فأوحى إلى نبيّه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186).

ويلٌ لمن يموت قلبُه ولا يُلبِّي دعوة ربّ الأرباب بالتقرُّب إليه ولا يُناجيه، فقد حرم نفسه من نعمةٍ عظيمةٍ ومتعةٍ حقيقيةٍ لأنّه انهمك في متاع الدنيا الزائف وعاش في وهم اللذّة العبثية التي ستودي به إلى عذاب الجحيم.

وعن الإمام جعفر الصادق (ع): "إنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّه داود (ع): إنّ أدنى ما أنا صانعٌ بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم".

فيا أيُّها العبد المسكين الذي خدعته الدُّنيا بغرورها وغرق في وحل شهواتها، التحق بركب الصُّلحاء والصِّدِّيقين وتضرَّع إلى بارئك وانقطع إليه متوسلاً به وبأفضل خلقه محمّد وأهل بيته الكرام وناجه: "إلهي أذِقني حَلاوَةَ ذِكرِكَ".

 

المصدر: كتاب مبادئ الجهاد الأكبر

ارسال التعليق

Top