◄ستقول لي: عالم الأفكار رحب فسيح ومتجدد، فإذا ولجتُه فماذا أقرأ؟
وأبادر إلى القول: اقرأ ما تشاء؛ فأنا أومن بحرية القراءة، وحرية الاختيار، وأمقت كلّ أشكال الوصاية والحجر والرقابة على الأفكار، وأرى في فرض القيود على القراءة سدّاً يحول بين الإنسان والإبداع، وحاجزاً يعوقه عن التقدم، ويحرمه من الاطلاع على تجارب الآخرين، ويحدُّ من إمكاناته للتغيير والتطوير والاجتهاد وتجاوز الخطأ. بل إني لأشعر بأنّ أنظمة المنع والقمع والأحادية الفكرية مناقضة للفطرة الإنسانية، لا تلبث هذه الفطرة أن تتغلب عليها، مثل سيل عرم تتجمع مياهه خلف سد، تبحث عن ثقوب ومنافذ لها عبره لإفراغ طاقتها، فإن لم تجد فإما أن تعلوه وتتابع مسيرتها، وإما أن تجرفه بثقلها فتدكه دكّاً، وتمضي في سبيلها.
إنّ تحديد وجهة النظر، وحجب البصر عن الالتفات إلى يمين أو شمال، وتقييد الرؤية من أجل توجيه المسار، أساليب اخترعها الإنسان من أجل الاستغلال الأمثل للطاقة الحيوانية التي سخرها الله له، ولم يدر في خلده أن يكون هو ذات يوم أسير هذه القيود. ولئن استطاع الإنسان أن يقيد بصر البغال والحمير، ويضع الحجب على حافتي أوجهها، كي يضمن سيرها في الاتجاه الذي يريد، وأن يعصب عيني الجمل حتى لا يزيغ بصره وهو يدور حول معصرة الزيتون. إنّه لن يستطيع أن يطبق النظام ذاته على أخيه الإنسان مهما حاول أن يسترقه ويستعبده... ولئن نجح في ذلك، إنما ينجح إلى حين، ولسوف يتمرد الإنسان على قيوده ليحطمها وينطلق حرّاً كما خلقه الله.
ولئن زودته فطرته بحب الاطلاع، والرغبة في ممارسة الممنوع، توقاً إلى معرفة سره واستجلاء حقيقته، حتى غدا المنع، وكأنّه تحدٍّ لفطرته يحفزه إلى تجاوزه.. ولئن ضرب لذلك التحدي مثلاً اختزنه في ذاكرة الأجيال منذ آدم: (كلّ ممنوع مرغوب).. إنّ التقنيات الحديثة قد زودته بكلّ الأدوات اللازمة للحصول على مبتغاه، حتى غدا المنع ضرباً من المستحيل.
الوصاية على الأفكار:
إنّ جميع أشكال الوصاية والحجر الفكري، سواء منها الآبائية أو الدينية أو السياسية، إن هي إلا نوع من الاسترخاء الفكري، ومهما كانت دوافع هذه الوصاية نبيلة.. وإنها في معظم الأحيان لكذلك، فإنها سوف تؤدي بالمجتمع الذي يمارسها إلى التخلف والجمود.
فالوصاية على الأفكار غالباً ما تنطلق من الخوف على ثقافة الأجيال؛ فهي تريد أن تقدم لهم النافع من الأفكار والعلوم، وتحرص على أوقاتهم أن تضيع في الاطلاع على الأفكار الميتة التي فات أوانها، أو الخاطئة التي ثبت إخفاقها، أو المضللة التي تصرفهم عن الصواب، أو الزائغة التي تقحمهم في المتاهات. ولكن أنى للأجيال أن تتعرف على الحقّ إذا لم تعرف الباطل، وأن تعرف الصواب إذا لم تعرف الخطأ؟! ثمّ من ذا الذي يستطيع أن يدعي امتلاكه للحقيقة واحتكاره لها!! ألم يكن الجيل الذي حاكم (غاليله) لقوله بدوران الأرض حول الشمس، يعتقد أنّ الأرض ثابتة والشمس هي التي تدور حولها؟ ألم يكن دوران الشمس حول الأرض هو الحقيقة الثابتة لدى كلّ الأجيال التي سبقت غاليله، وكان غاليله يملخ في الباطل والغواية في نظرها؟! فهل الحقيقة هي التي تغيرت؟ أم الفكر الإنساني هو الذي تغير؟! الأرض كانت وما تزال تدور قبل غاليله وبعده، وما يزال الإنسان يوالي كشوفه العلمية ليصحح أو يضيف إلى مفاهيمه عن الحقيقة مفاهيم جديدة.
الحرية هي المناخ الملائم لنمو الأفكار وتطورها، والحجر الفكري لا يستطيع أن يؤخر هذا النمو إلا إلى حين.
إنّ الاسترخاء الفكري، الذي ينجم غالباً عن الاطمئنان إلى صحة وسلامة محصولنا الثقافي، في أي موقع كنا، والذي يدفعنا إلى فرض وصايتنا الفكرية على الأجيال، وحملها على الاكتفاء بثقافتنا ومفاهيمنا على أنها هي الحقّ الذي لا مرية فيه، ولا حقّ غيره، سوف يؤدي بهذه الأجيال إلى الجمود والتخلف. فالثقافة التي لا تتجدد، تشيخ ثمّ تموت ويتخطاها الزمن.. ولا شيء يولِّد الأفكار ويصقلها وينميها مثل الحوار، والاطلاع على الرأي الآخر، واحترامه، ومجادلته بالتي هي أحسن.
وسواءً أكان الجيل الذي يعاني أزمة وصاية فكرية، ينعم في ظل حضارة نامية، أو يرزخ تحت عبء تخلفه الحضاري، فإنّ عليه أن يكسر طوق هذه الوصاية، وأن يبحث عن سبل خلاصه من تخلفه أو وقايته من السقوط في حمأة التخلف، خارج نطاق الفكر المسموح به، ذلك أنّ هذا الفكر المسموح به لو كان يملك سبل وقايته أو خلاصة لما تركه في هذه الحال... وإنما وصل إلى الحال التي هو عليها في ظل هذا الفكر و(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). ►
المصدر: كتاب القراءة... أوّلاً
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق