• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

موازينُ الناس في الميزان

أسرة

موازينُ الناس في الميزان
 هل العرفُ شريعة؟ ليسَ لدينا في الإسلام شريعتان: شريعةُ اللهِ وشريعةُ الناسِ، أمّا إذا لم يصطدم العُرف الاجتماعي بحكمٍ إسلامي، فلا تعارض ولا تناقض، فلا ضيرَ في الأخذ به لأنّه سيكون ممّا أقرّه الإسلام، ولسنا في صدد مناقشة الموضوع من وجهة نظر شرعية فذلك اختصاصُ غيرنا ولا نريدُ أن نتطفّل عليه، إلّا أنّنا نُريد أن نقول أنّ معايير التفاضل هي بكلمة واحدة، تلك التي تقيس بقيمة الإنسان كإنسان، وكمخلوقٍ محترمٍ ومُفَضّلٍ ومُكرّم، أما ما عدا ذلك فهو دخيل وطارئ وأجنبي عليه ولو تعارف الناسُ على أنّه قيمة ومعيار وميزان للتفاضل، ولكي لا نذهب بعيداً دعونا نضع اعتباراتِ الناس في الميزان العقلي لنرى كم هي، وكم تُساوي:   1- الحكم على الأزياء والملابس: اللباس سِترْ.. واللباسُ زينة. هناكَ وقاية.. وهنا إمتاعٌ للبَصر. هو مطلوبٌ إذاً.. الحيواناتُ وحدها التي لا تتستر ولا تتزيّن، تعيشُ العُريَ دائماً، أو قُل كما خلقها الله من دون زيادات أو إضافات. واللباس إختيار.. وذوق.. وتعبير.. "إختيار" لأننا ننتقي من الألبسة ما نشاء، لكنّنا كمسلمين نُراعي في اللباس شروطه بأن لا يكون مثيراً للغرائز ولا داعياً للتخنّث، ونفصّله كما نحب بما لا يخرج عن العفّة في المحيط الاجتماعي، وبالتالي فهو تعبير عن لابسه، بمعنى أنّ الانتقاء والذوق والمراعاة لآداب الملبس كلّها تنطوي على تعبير عن شخصية اللابس. كيف إذاً نقول إنّ اللباسَ ليس جزءاً من الشخصية؟! أوّلاً: هو جزء من الشخصية الكمالية – إذا جاز التعبير – وليس جزءاً من الشخصية المعنوية للإنسان، فنحن هنا نتحدّث عن جانبين في الشخصية: الجانب الجوهري أو القيمي، والجانب التكميلي أو المظهري المتغيِّر. وثانياً: لنعرض المسألة على القرآن لنرَ بِمَ يجيب. يقول تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف/ 26). اللباس من منظور قرآني: للستر (يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) وللزينة (وَرِيشًا) وهذا هو الذي يشكِّل اللباس الخارجي أو المظهري، أمّا اللباس الداخلي، فهو (التَّقْوَى) والورع عين محارم الله، فمرتكب الفاحشة عارٍ حتى ولو ارتدى أثمن وأزهى الملابس، والمتّقون مستورون حتى ولو لم يرتدوا إلا ما يغطي عوراتهم!.. هناك لباسٌ يبلى، وهنا لباسٌ لا يبلى بل وتزداد قيمته مع الأيام! إنّ الحديث عن اللباس والزينة في الجنّة هو بعض من نِعَمها: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) (الحج/ 23). وفي موقع آخر: (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) (الكهف/ 31). وهو حديثٌ عن (نوع) اللباس و(لونه) وعن (الحلية) التي يتزيّنَ بها أهلُ الجنّة. إذاً للملابس اعتبارها، ولكنّ العقل يقول إعطِ لكلّ ذي قيمة قيمته بلا زيادة ولا نُقصان، وإلّا إذا نظرنا بعيني فرعون لملابس موسى وهارون (ع) لرأيناها كما رآها، ولو نظرنا إلى مدرعة (ثوب) علي بن أبي طالب (ع) المرقّعة التي استحيا من راقعها لكثرة ما رقّعها، بعين القيمة، لانتقصنا من قدر علي، لأنّنا حينئذٍ نقيسُ قيمة الشخص بقيمة ما يلبس، وهذا هو الخطأ. الخارجُ علينا بلباسٍ نظيفٍ جميلٍ مكويّ ومعطّر يسرّنا.. يسرُّ الناظرين، وهو شيء محبّب على عكس ذي الملابس الرثّة واللحية الكثّة. سؤالنا عمّا داخل وتحت هذه الملابس الجميلة من فكر وعمل وإبداع وتجربة وخُلق وإيمان؟ فإذا انسجم الجوهرُ مع المظهر أو تقاربا فزينٌ على زَين، وزينةٌ على زينة، وجمالٌ يتوجُ جمالاً. وإذا كان الباطنُ أجمل وأكمل، أهملنا النظر إلى المظهر لنُرسل عيوننا ترتعُ في جنبات القلب الكبير، والروح العظيمة، والعقل السليم والسلوك المهذّب، فلا نعودُ نُبصرُ قِشرة الفاكهة، بل نتذوّق طعمها ونكهتها.. ألسنا – في الغالب – نرمي القشور ونحرص على اللُّباب، أليس الغوّاص الباحث عن المحار واللؤلؤِ يزهدُ بالصدف ويتشبّث بما في داخله.. قس هذا المثل أيضاً على الثياب. ولنعرض المسألة أيضاً على الشِعر، وإن من الشعر لحكمة، لننظر ماذا يقول الشعراءُ الحكماءُ في ذلك: هذا أحدُهم لا يرى دخلاً للملبس في أصل بناء الشخصية: يا مَن تَلبس أثواباً يتيهُ بها **** تيهَ الملوكِ على بعضِ المساكينِ ما غيَّر الجُلُّ[1] أخلاقَ الحميرِ ولا **** نقشُ البراذعِ أخلاقَ البراذينِ وقال آخر في خطأ الاستدلال على الشخصية من خلال الثياب: ولو لبسَ الحمارُ ثيابَ خزٍّ[2] **** لقالَ الناسُ: يا لَكَ من حمارِ وفي المعنى ذاته: ترى الرجل النحيف فتزدريه **** وفي أثوابه أسدٌ مزيرُ[3] ويعجبُك الطَريرُ[4] فتبتليهِ **** فيخلفُ ظنّك الرجلُ الطريرُ   2- الحكمُ على التقاسيم والملامح الجسديّة: الوجهُ، ومن ثمّ الجسدُ.. العنوان. والكتابُ.. هو الإنسان. وفي الأمثال "الكتابُ يُقرأُ من عنوانه" فالكاتبُ عادةً يراعي في اختياره لعنوان مقاله أو كتابه أن يكون حاكياً ومعبِّراً وناطقاً عن مضمون وفحوى كتابه ومقاله، ولكن هل يصدق هذا دائماً على الإنسان؟ "ستالين" الدكتاتور الروسي لم يكن قبيحَ المنظر، لكنّنا نراهُ كذلك لأن أفعاله قبيحة، فنُسقطُ هذا (التصوّر) على تلك (الصورة) فيبدو ستالين في نظرنا قبيحاً، ثمّ إنّ المجرمين لكثرة ما يلغون في دماء الناس، ويُسرفون في جرائمهم يُمحقُ بهاءُ الإنسانية من وجوههم فتبقى قسماتُ الوجه لكنّ نُورَه يتلاشى! الوجه صناعة الله.. خلقُ الله.. وليسَ لحسان الوجوه أن يفتخروا بمزية أو تفضيل رباني، وإلا خرج السودُ في تظاهرةٍ احتجاجية، وإلا لما كان الله تعالى يغفلُ النظر إلى وجوهنا وأشكالنا يومَ القيامة، ويركِّز النظر على قلوبنا وأعمالنا! الإكتفاء بالنظر إلى (محاسن الوجه) وعدم الانتقال أو الدخول إلى (محاسن النفس) يعني الرضا بالخديعة. يقول (الشريف الرضيّ): لا تجعلنّ دليلَ المرءِ صورتَهُ **** كم مخبرٍ سَمجٍ عن منظرٍ حَسنِ وقال (حسّان بن ثابت): لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عِظَم **** جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ وفي مثل هذا المعنى قال آخر: لقد عظُمَ البعيرُ بغيرِ لُبٍّ[5] **** فلم يستغني بالعظمِ البعيرُ وقال شاعرٌ يحذِّرُ من مغبّة الانخداع بالمظهر الخارجي والقياس عليه: ما كلُّ أصفرَ دينارٌ لصُفرته **** صُفرُ العقاربِ أرداها وأنكرها والدينار (الذهب) وكما قيل فالبعض من الخارج (رُخام)، ومن الداخل (سخام) أو كما عبرّ آخرون "طوله طولُ النخلة وعقلهُ عقلُ الصَخلَة" ولعلّه مستوحى من المثل العربي: "ترى الفتيانَ كالنخلْ وما يُدريك ما الدَخلْ"! وحدّد آخرُ الموقفَ من النظر إلى الأجسام والهياكل الخارجية: فما عِظَمُ الرجالِ لهم بفخرٍ **** ولكن فخرهم كرمٌ وخَيرُ بُغاثُ الطير أكثرها فِراخاً **** وأمُّ الصقرِ مِقلاةٌ نزورُ[6] ضعافُ الطيرِ أطولها جسوماً**** ولم تطُل البزاةُ ولاالصقورُ   3- الحكمُ على الكلام: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) (المنافقون/ 4)، وهذا تصويرُ القرآن للمخادعين الذين يبتزّون الناس بكلماتهم المنمّقة والمعسولة.. ترى أحدهم يخضع بالقول فيبدو ناعمَ الملمسِ، رقيقَ الحاشية فكأنّه يقولِ شِعراً.. وترى الآخر يُقسمُ بالأيمان المُغلّظة حتى لا تشكّ لحظة أنّه صادق، وترى ثالثاً يُبهرك بقدراته الوهميّة المختلفة والمصطنَعة، ومنازلاته الجبارة، ومناقبه وتجاربه الغنيّة.. ولعل رابعاً يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والحكم والمرويّات، وهو يلوي أعناقَ النصوص ليبدو في نظرك مُقنعاً لأنّه لا يأتي بالكلام من عنده.. إنّه كلامٌ مقدّس لا يأتيه الباطل.. إنّهم يعرفون من أين تؤكل الكَتِف... وكيف ينفذون إلى قلوب المخدوعين من آذانهم، وقد قيل في وصفهم: "يدٌ تُسبِّح.. ويدٌ تُذبِّح"! وقيل أيضاً: "كلامٌ كالعَسل وفِعلٌ كالأسَل" والأسل هي الرماحُ والسيوفُ والسكاكينُ وكلُّ حادٍ وقاطع. شاعرٌ جرّب الخداعَ في القول فاكتوى بناره، يقول: كَثُرَ الخداعُ اليوم في أقوالنا **** فانظُر إلى مَن قال لا ما قيلا البعضُ تشيطنَ حتى تعذّر فرزه، إنّه كالمادة التي فسدت وانتهت صلاحيتها، فاستبدلَ صاحبُها (المخادع الغشّاش) تأريخَ الصلاحية بتأريخ جديد ليوهمك أنّها جديدة.. إنّك لن تعرف الحقيقة حتى تجرِّب المادة وتتعرّض إلى التسمّم، وعندها تلفظها وترفضها بعد أن تكون دفعتَ ثمنها مرّتين.. ليس أمامنا إلّا التجربة والاختبار! وإلا قولوا لي هل هناكَ مَن لم يتعرّض لخداع مراوغ مُحتال أو متلوّن نصّاب في ذلاقة لسانه وتلاعبه بالألفاظ وتغميسه كلماته بالحكم والآيات والأَيمان.. نادرٌ جدّاً. الفعلُ هو الذي يُترجمُ القول فيصدِّقه أو يكذِّبه: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 111)؟! صادقٌ أنتَ؟.. هاتِ إذاً ما يثبتُ لي بالدليل صدقَ قولك؟ أنا ظانٌّ بكَ ظنّاً، فكذِّب ظنّي بموقفٍ يُثبتُ لي صحّةَ ما تقول!
[1]- الجُلّ: الغطاء الذي تُغطّى به الدابّة زينةً أو وقاية، جاء في الأمثال: "ليس الفَرَسُ بجُلّة وبُرقعه" بل بمهارته في السباق. [2]- خزّ: حرير. [3]- مزير: الشجاع. [4]- الطرير: ذو المنظر الحسن. [5]- اللُّب: العقل. [6]- في هذا البيت إشارة بليغة إلى أنّ الطيور التي ليس لها جوارح هي تلدُ فراخاً كثيرة، ولكن أم الصقر تضع واحداً ثمّ لا تحمل، وهي إذ تلدُ تلدُ صقراً مثلها!

ارسال التعليق

Top