◄أبدأ بحديث النبي (ص): أيها الناس أتاكم رمضان، شهر بركة يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ويباهي بكم الملائكة، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإنّ الشقي من حُرِم رحمة الله في رمضان". فأمسك بيد زوجتك وإبنتك، وأمسكي بيد أبيك وأمك، وإجعلوا الله يرى أفضل ما لديكم.
أبدأ مقال اليوم بمشكلة وهي التفكك الأسري. وأبدأ بقصة خيالية أسطورية: كان يا ما كان في قديم الزمان، كانت هناك جزيرة جميلة، يحب سكانها جزيرتهم ويحب بعضهم بعضاً. كانوا عائلة كبيرة، بينهم كبير العائلة، وبينهم آباء وأمهات وأحفاد وشبان وبنات متحابون، يتحدثون معاً، يفهم بعضهم بعضاً من نظرة العين، يسهرون معاً، يأكلون معاً، ولا يفرطون في إجتماعهم على المائدة أبداً. يجتمعون كلهم تحت مظلة العائلة، فيرى الشبان البنات، وهكذا يتزوجون. لو أحببت أن تجمع كل ما في الجزيرة بكلمة واحدة لقلت: الأمان.
لكن الدنيا تتغير، والله تعالى يقول: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء/ 35).
في القصة الأسطورية، حدث زلزال، وتشققت الأرض، وإنقسمت الجزيرة الواحدة إلى جزر عدة، حتى إنقسم السرير الواحد وعليه الزوجان، فبات كل منهما في جزيرة وحيداً، أب وإبنه كانت أيديهما متشبثة ببعضها، إنقسمت الأرض من تحتهما، وتباعدت الجزيرتان حتى أفلتت الأيادي. في البداية، بكى الجميع وأخذوا ينظرون ويلوحون لبعضهم. لكن في ما بعد، توقف البكاء، وإعتاد الجميع الوضع الجديد، فأدار كبير العائلة في جزيرته ظهره للجميع، وإنشغل بزرع أرضه، ولم يعد ينظر إلى العائلة، وصار الأجداد في جزيرة وحدهم، والأولاد في جزيرتهم فرحون بالحرية بعيداً عن العائلة، والأب والأُم في جزيرة، وصار بعض الآباء والأُمّهات كل في جزيرة وحده.
لكن، بعد مدة قالت أم لزوجها: ألا نعبر إلى أولادنا في الجزيرة الأخرى؟ فقال: بل هم مَن عليهم العبور إلينا، فنحن الكبار. وقال أخ لأخيه: أنا لست سعيداً هنا، فأنا أمتلك الحرية، لكني لا أمتلك الأمان، ألا نعبر لأبينا وأمنا؟ فأجابه: دعنا نبقَ هنا، فالحرية أحلى.
هي قصة أسطورية، ولكنها واقعية وحصلت في بيوتنا وفي أسرنا. صارت غرفة كل منا جزيرة منعزلة. لم يمتْ أحد، ولكنهم بانعزالهم صاروا كالأموات. ونحن هنا لا نتكلم عن الطلاق، أو الخلافات الزوجية، أو العنف الأسري. أبداً، بل نتكلم عن التفكك والتباعد، وانعدام اللغة، والاهتمامات المشتركة، وبرود العلاقات وتجمدها. فصار البيت كالفندق: هذا يسلم المفتاح لذاك، وهذا ينظف الغرف، حتى صرنا كالقوقعة، تظن أن بداخلها كنزاً، لأنّ المفترض أنّ الجنة فعلاً في بيوتنا، لكنك تفاجأ حين تفتح القوقعة بأنها خالية، حتى إنّ البعض يتكلمون بالأوراق التي تلصق على باب الثلاجة، والبعض يتكلمون بالإيميل، لدرجة أن أحدهم أرسل إلى خطيبته "إيميل" أبلغها فيه أنّه فسخ الخطوبة.
سأصف لكم الحال في بيت ثري: أب يشاهد قناة تلفزيونية إخبارية، بينما بعض الأولاد يتابعون قناة ترفيهية، أحد الأولاد يشاهد فيلم فيديو، الابن الأصغر يلعب لساعات طويلة بالـ"Play Station"، التي إشتراها له والده ليشغله عن مناداته قدر الإمكان، دون الإلتفات إلى تأثير ذلك في الولد، البنت تحادث صديقتها عبر الشات، الإبن الأكبر يغلق غرفته ويحدث صديقته بالهاتف، والأُم تقف في المطبخ لتلبية الطلبات المتتالية، فإن إجتمعوا لمشاهدة أحد البرامج معاً، يشاهدوه بصمت، ثمّ تفرقوا بمجرد إنتهائه. فما الذي يمنعهم من تقييم ما تمت مشاهدته معاً؟ ولتكن هذه لغة حوار بينهم.
هناك تفكك سيؤدي إلى الإنهيار. أمتنا عظيمة، لكنها لم تعد تملك الكثير لتتوكأ عليه، فإن ضاعت الأسرة ضاع الأمل لمائتي سنة أخرى.
الإنعزال مرض، وهو المسمار الأوّل في نعش الطلاق، وفي إدمان أولادنا المخدرات، وهو أوّل ما يجعل البنت تبحث عن الحنان خارج البيت، وهو أحد أسباب الخيانات الزوجية.
أهم خصائصه أنّه يأتي تدريجياً، وببطء، ولا يأتي فجأة، فيبدأ بتوقف خروج الأسرة معاً، ثمّ يتوقف الإجتماع على مائدة الطعام، ثمّ يتوقف الحوار بينهم، ثمّ لا تجمعهم أي إهتمامات مشتركة، فلا يشعرون إلا وقد تباعدوا، حتى لم يعد أحدهم يرى الآخر أو يشعر به، على الرغم من وجوده في الغرفة المجاورة. وهذا التدرج أشبه ما يكون بقصة الضفادع.
يحكى أن مجموعة من الضفادع ماتت عن طريق الغليان في الماء دون مقاومة. قد تستغرب الأمر ولا تصدقه، وتقول: إنّ الفعل الطبيعي للضفادع إن وضعت في الماء المغلي هو أن تقفز للخارج. نعم، ولكن لم توضع الضفادع في الماء المغلي مباشرة، بل وضعت في ماء فاتر، ثمّ شرع أصحاب التجربة بزيادة درجة الحرارة تدريجياً، وكلما رفعوا الحرارة كيّفت الضفادع نفسها على هذا الوضع الأسوأ، إلى أن وصل الماء إلى درجة الغليان، وكان قد فات الأوان، فما إستطاعت الضفادع أن تقفز للخارج، فماتت.
ونحن الآن، علينا أن نتدارك بيوتنا قبل الوصول إلى مرحلة الغليان، وبعض البيوت بدأت تغلي بالفعل: شاب بات أصحابه أغلى لديه من أبيه وأمّه حتى لم يعد يريد رؤيتهما. أدركوا بيوتكم قبل الغليان.
سأحكي لكم قصة، يمكننا إختصارها في جملة واحدة: "إما أن تبني أسرة، أو تبني سجناً". فإما أن تبنوا أسراً قوية، أو تزيدوا عدد السجون، لأن عدم وجود هذه الأسر يعني أن عدد المجرمين سيزيد. هي قصة فيلم لشركة "ناشيونال جيوجرافيك". يحكي الفيلم قصة مجموعة من الأفيال تعيش في غابة ملاصقة لبعض القرى الهندية التي يقطنها فلاحون يعملون بزراعة الأرض، والأفيال هي أكثر الحيوانات، بعد الإنسان، التي تعيش كأسر، ولديها توارث عائلي من خلال تعليم الكبير للصغير. اعتادت هذه الأفيال أن تأخذ صغارها كل ليلة وتدخل إلى القرى المجاورة وتأكل المحاصيل التي زرعها الفلاحون، الأمر الذي أغضب هؤلاء الفلاحين، فوضعوا حواجز شائكة. إلا أنّ الأفيال كانت تدوسها بأرجلها وتدخل وتأكل المحاصيل. فلجأ الفلاحون إلى وضع الشطة للأفيال، أو إطلاق قنابل الشطة عليها لتنفيرها، لكن دون جدوى. وأخيراً، إتخذوا قراراً في غاية الخطورة: قتل الأفيال الكبيرة (الآباء والأُمّهات) لأنها هي التي تقود القطيع، وظنوا أنهم بذلك حلوا المشكلة، فخرج جيل من الأفيال لم يجد من يربيه حين غابت الأسرة فتوحش، وبدأت هذه الأفيال الصغيرة تكبر، وأخذت تهاجم الإنسان، فقتلت عدداً من البشر، وهدمت البيوت، وخربت القرى، فاضطر الناس إلى حل هذه المشكلة بأن يستوردوا أفيالاً كبيرة من أفريقيا لتعيد تربية الأفيال الصغيرة. وبعد ستة أشهر عاد السلام للقرى، وعادت الأفيال تكتفي بأكل المحاصيل، وكُتب في نهاية الفيلم: "إما أن تبني أسرة، أو تبني سجناً". وقد قاموا بتصوير كل هذه الأحداث في الفيلم. فهل نستورد آباء، أم ماذا نفعل؟
أدركوا بيوتكم، فهذا آخر ما تبقى لنا، وإستشعروا نعمة الأسرة قبل أن نخسرها. فالأب نعمة، والأُم نعمة، والزوجة والأخ والأخت والابن والابنة والجد.. كل من هؤلاء نعمة، لعل البعض يشعر بها، والبعض الآخر لا يشعر بها إلا حين يفقدها. يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل/ 72). فاسألوا من فَقَد هذه النعمة. انظر أيها الشاب إلى أطفال الشوارع واشعر بالنعمة، وانظر أيها الأب المشغول لأب فقد ابنه أو ابنته، واسأله: لو رجعت بك الأيام ماذا كنت ستفعل؟ وكذلك الزوجة التي لا يعجبها زوجها.. أنت في نعمة.. إياكم والخيانة. انظروا إلى قول الله تعالى: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة/ 61). اشكروا النعمة قبل أن تحرموها، وحرمانها قد يكون بالطلاق الذي قد يقع لنزوة، أو لأسباب تافهة ثمّ يكتشف الزوج بعدها قدر زوجته فيحاول إرجاعها ولكن دون جدوى.
سأروي لكم قصة غريبة: إحدى السيدات طلبت منها الجهة التي تعمل لديها أن تقوم بعمل خيري وهو زيارة لدار الأيتام. وأثنا وجودها هناك، وزعت الدار أوراقاً على الأطفال الأيتام، رُسمت فيها قلوب، وطلبوا منهم تلوينها. لوّن الطفل الجالس بجوار هذه السيدة القلب بلون كحلي غامق، فظنت السيدة أنّه لا يملك ألواناً أخرى، فأجابها الطفل: بل هو لون قلبي. فاحتضنته السيدة وقبّلته وأشبعته حناناً، وأمضت اليوم معه حتى صار يلعب في حجرها ويحضنها، وكأنّه يحاول أن يشبع كل حاجته، ثمّ عاد للتلوين، وانشغلت عنه السيدة ونسيت أمره، وحين همت بالخروج من الدار، فوجئت به يجذبها من ثوبها ويقول: لقد تغير لون قلبي.. صار لونه أصفر.
أنت أيها الشاب في نعمة، كان ممكناً أن تكون في مكان هذا الطفل، أبوك وأمك نعمة، فاذهب إليهما وقبّل أيديهما.
وتروي إبنة حكايتها فتقول: تزوجت وأنجبت وفترت علاقتي بوالدي، فصرت أتصل به من حين إلى آخر، فيلومني على تقصيري، فأعتذر له بانشغالي بالأولاد والعمل، حتى إتصل بي أخبري ذات يوم وقال لي: أدركي والدك فهو في المستشفى في لحظاته الأخيرة إثر سكتة دماغية، هرعت نحو المستشفى وأنا أراجع الزمن، أتذكر والدي حين كان يحملني في طفولتي، يحضنني، يحكي لي حكاية قبل النوم، ينفق عليَّ، أتذكر حين كان يأخذني للمصيف الذي أحبه، فقط ليسعدني، بينما كان يرغب في الذهاب لغيره، وأراجع ماذا فعلت أنا معه؟ شعرت بنعمة حقيقية كنت أتجاهلها. دخلت المستشفى ووجدته مستلقياً فاقد الوعي، وقفت أنظر إليه وأتذكر الماضي، فوجئت بالممرضة تقول لي كلمة عجيبة: هل يمكن أن تجلسي بجواره وتمسكي يده؟ متى كانت آخر مرة أمسكت فيها يد والدي؟ عندما كنت طفلة. هل كنت متبلدة طوال السنوات الماضية؟ هل كنت أخجل من إظهار مشاعري، وأنا الأنثى رمز الحنان؟ أمسكت بيد أبي، وكانت هذه آخر مرة أمسك فيها يده، فقد مات بعدها بساعات. بعد ذلك بأشهر عدة كنت أمشي مع إبني الصغير وإبنتي، أمسك ابني بيدي، وابنتي في العاشرة من عمرها تشعر بأنها بدأت تكبر فلا تريد أن تمسك يدي. كنت سعيدة بابني، ولا يمكنني أن أقول لابنتي "أمسكي بيدي"، لكني تمنيت لو أحكي لها قصة والدي كي لا يحصل لها ما حصل لي، وقلت: "يا رب، أهذه عقوبتي؟ ها أنا ذي أتوب إليك فاجعل ابنتي تمسك بيدي يوماً قبل أن أموت أنا أيضاً".
- الأسرة نعمة:
يروي قصة الأستاذ أشرف، فيقول: "نحن أسرة مكونة من أب وأم وإبنتين، نهى كانت بكالوريوس سياسة وإقتصاد إنجليزي، فوجئنا بأنّ الله إبتلاها وإختبرها بإصابتها بالسرطان، وكان لترابطنا نحن الأربعة دور كبير في تجاوزنا لهذه المحنة، وكان كل منا يقدم للآخر ويؤثره في نفسه عن حب وعن ترابط وعن إخلاص، وهذا بفضل الله علينا، فتعافت إبنتي لمدة سنتنين وشفيت تماماً، ثمّ فوجئنا بعودة المرض إليها بشدة، وكانت صدمة شديدة بالنسبة إلينا. سافرنا لفرنسا، وراجعنا المستشفيات، وقال لنا الأطباء فعلنا كل ما يمكن لعلاجها. وعدنا، وشاء الله ألا يأتي العلاج بنتيجة، رقدت في المستشفى لشهرين، ومكثت معها والدتها طوال المدة، أنا وأختها كنا نذهب إليها يومياً منذ الصباح، ونبقى هناك للعاشرة ليلاً، وفي الشهر الأخير مكثت أختها معهما في المستشفى، وآخر عشرة أيام أقمت أنا أيضاً معهنّ بصفة دائمة فصرنا نحن الأربعة في غرفة واحدة، ثمّ توفيت، والحمد لله عند وفاتها رضينا بقضاء الله لأنّ الله أكرمنا وأنزل علينا الصبر. كان ترابطنا نعمة من الله كما كان له دور كبير في التخفيف عنا، وبعد وفاتها لم ننسها ليوم واحد، وإزداد ترابطنا نحن الثلاثة بصورة كبيرة، وكل منا يحاول تقديم المساندة والتخفيف عن الإثنين الآخرين، وأصبحنا فرحين برضا الله علينا، حتى إن بيتي إذا دخلته أشعر برضا الله فيه، وبدءنا نجتهد أكثر في فعل الخيرات من دار مسنين ودار أيتام وإطعام الطعام، حتى إن طعم الأكل في بيتي إختلف وأصبح جميلاً، على الرغم من أنّه الأكل نفسه، وصرنا إذا وضعنا رؤوسنا على الوسادة ننام فوراً، بعد أن كنا نتقلب لنصف ساعة أو ساعة، وهذا من حب ربنا لي وحبي أنا وأسرتي جميعاً لربنا وترابطنا الأسري، والحمد لله فهذا كله بفضل الله.
إياك أيها الشاب أن ينام والدك وهو غاضب عليك، فتموت أو يموت، وإياك أن تنامي وأمك غاضبة منك. كيف ستتمكنان من النوم هذه الليلة؟ أيقظاهما واعتَذرا إليهما وقبّلا أيديهما، فالأسرة نعمة.
مقال اليوم يقول لك: ابدأ لا تنتظر، فأنت في نعمة ستشعر بها لو أخذت منك. قيْد النعمة، والنعمة قيدها الشكر، فكيف تشكر؟
يقول الله تعالى: (.. اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا...) (سبأ/ 13). يا آل داوود إن أردتم شكري فاعملوا. فهيا نعمل على لمّ الشمل.►
ارسال التعليق