• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوفاء.. توأم الصدق

الوفاء.. توأم الصدق

◄عن أمير المؤمنين (ع):"أيّها الناس إنّ الوفاء توأم الصدق لا أعلم جُنّةً[1] أوقى منه. ولا يَغْدِرُ من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كَيْساً[2] ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم الله، قد يرى الحُوّلُ[3] القُلّب[4] وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز[5] فرصتها من لا حريجة[6] له في الدّين". نهج البلاغة، الخطبة 41.

  -        نقض العهد من الكبائر: إنّ قضية الوفاء بالعهد والميثاق تعتبر واحداً من أهم مستلزمات الحياة الإجتماعية، إذ بدونها لا يتمّ أيّ نوع من التعاون والتكافل الإجتماعي، وإذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك حياتهم الإجتماعية وآثارها أيضاً. ولهذا تؤكّد مصادر التشريع الإسلامي – بشكل لا مثيل له – على قضيّة الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية، لأنّ الوفاء لو إنعدم بين أبناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعمّ الإضطراب فيه وزالت الثقة العامة. وزوال الثقة يعتبر من أكبر وأخطر الكوارث. ونقض العهد من الكبائر، وقد إستَشْهَدَ الإمام الصادق (ع) لإعتبار هذا الذنب من الكبائر بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد/ 25). وفي أكثر من موضع في القرآن الكريم، إعتبر الوفاء بالعهد واجباً، يقول تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) (الإسراء/ 34). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة/ 1). (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (البقرة/ 177). والروايات في قبح نقض العهد كثيرة منها: عن رسول الله (ص): "لا دين لمن لا عهد له". وعن أمير المؤمنين (ع): "الخُلف يوجب المقت عند الله وعند الناس، قال تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 3). وعن الإمام الباقر (ع): "أربعة أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنت إليه ويكافئك بالإحسان إليه إساءة. ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته على أمر فمن أمرِك الوفاء به ومن أمرِه الغدر بك. ورجل يصل قرابته ويقطعونه". إنّ قبح نقض العهد من الشناعة بحيث لا أحد على إستعداد لأن يتحمّل مسؤوليته بصراحة إلّا النادر من الناس حتى أن ناقض العهد يلتمس لذلك أعذاراً وتبريرات مهما كانت واهية لتبرير فعلته.   -        نقض العهد على نحوين: 1-    نقص العهد مع الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (الأعراف/ 172-173). إنّ الله تعالى خلق أرواح البشر في عالم قبل الحياة الدنيا بنحو لديهم إدراك وشعور ولياقة للمخاطبة والمكالمة، وأخذ منهم إقراراً بربوبيّته، وعهداً بأن يثبتوا على ذلك ولا يشركوا به ولا ينحرفوا عن رسالات الأنبياء، ولا يتّبعوا الشيطان، وعاهدهم الله تعالى في مقابل ذلك على أن يعينهم ويرحمهم ويسكنهم جنّته، وإذا لم يفوا بما عاهدوا الله عليه في ذلك العالم لم يعطهم ما عاهدهم عليه. ونقض العهد الإلهي من الذنوب الكبيرة. ومن أنواع العهد مع الله تعالى أن يقول مثلاً: عاهدت الله، أو عليّ عهد الله أن أفعل كذا أو أترك كذا، إذا رُزقت العافية أو رجعت من السفر سالماً أن أدفع مبلغاً ما للفقير. فالعهد مع الله إذا تحقّقت شروطه الموجودة في كتب الفقه يجب الإلتزام به. وقد ذمّ الله تعالى من ينقض العهد مع الله بقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (التوبة/ 75-77). 2-    معاهدة الناس: فيجب الوفاء بالعهود معهم ويحرم نقضها كما في قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) (الإسراء/ 34). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، (وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون/ 8). وعن الرسول (ص): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد". فهو يشمل العهود والمواثيق الخاصّة بين الأفراد في القضايا الاقتصادية والمعاشية، وفي العمل والزواج، وهو يشمل أيضاً المواثيق والمعاهدات بين الحكومات والشعوب.   -        خلف الوعد من صفات اليهود والمنافقين: وقد ذمّ الله تعالى اليهود لاتّصافهم بصفة نقض العهود مع الله ومع الناس، يقول تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (الأنفال/ 55-56). نزلت هذه الآية في يهود بني قريظة الذين عاهدوا رسول الله (ص) أن لا يعينوا أعداء الإسلام، ثمّ نقضوا عهدهم في معركة بدر حيث زوّدوا المشركين بالسلاح، ثمّ قالوا لرسول الله (ص): "نسينا عهدنا، وعاهدوه مرّة ثانية ثمّ نقضوا عهدهم في معركة الخندق، حيث اتّحدوا مع أبي سفيان في حربه ضدّ رسول الله (ص). وقد ورد عن رسول الله (ص) في صفات المنافق: "ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا ائتُمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف".   -        إحترام المعاهدة: إنّ الوفاء بالعهد لا يختصّ بالمسلمين فيما بينهم فقط، بل ينبغي لهم أن يفوا بما عاهدوا عليه غير المسلمين. عن الإمام الصادق (ع): "ثلاثة لم يجعل لأحد فيها رخصة: برّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين، والوفاء بالعهد للبر والفاجر وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر". وبعد إقتدار المسلمين وقوّة شكوتهم أمر الله تعالى في سورة براءة بجهاد المشركين وتطهير مكّة المعظّمة من الشرك وعبادة الأصنام لكنّه إستثنى أولئك المشركين الذين كان بينهم وبين المسلمين معاهدة. قال سبحانه: (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 4). والشواهد كثيرة من تاريخ رسول الله (ص) على مزيد إهتمامه (ص) بالوفاء بالعهد. من جملة تلك الشواهد ما حدث في صلح الحديبية بينه (ص) وبين مشركي مكّة، والذي يقضي أنّ من حقِّ قريش أن تقبل من يلجأ إليها من المسلمين ولا يحقّ للمسلمين أن يقبلوا من يلجأ إليهم من قريش. يروي أبو رافع: أرسلتني قريش إلى رسول الله (ص) فلمّا رأيته أشرق في قلبي نور الإسلام فقلت: يا رسول الله (ص)، لا أعود إلى قريش. فقال (ص): "إنّي لا أخالف عهداً عاهدته، أرجع إليهم".   -        فلسفة إحترام العهد: كما هو معلوم فإنّ الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع تمثّل أهمّ دعائم رسوخ المجتمع، بل من دعائم تشكيل المجتمع وإخراجه من آلة الآحاد المتفرّقة وإعطائه صفة التجمّع، بالإضافة لكون أصل الثقة المتبادلة يعتبر السند القويم للقيام بالفعاليات الإجتماعية والتعاون على مستوى واسع. والعهد والقسم من مؤكّدات حفظ هذا الإرتباط وهذه الثقة، وإذا تصوّرنا مجتمعاً كان نقض العهد فيه هو السائد، فمعنى ذلك إنعدام الثقة بشكل عامّ في ذلك المجتمع، وعندها سوف يتحوّل المجتمع إلى آحاد متناثرة تفتقد الإرتباط والقدرة والفاعلية الاجتماعية. ولهذا نجد أنّ الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة تؤكّد باهتمام بالغ على مسألة الوفاء بالعهد والأيمان، وتعتبر نقضها من كبائر الذنوب. وقد أشار أميؤ المؤمنين (ع) إلى أهمية هذا الموضوع في الإسلام والجاهلية واعتبره من أهمّ المواضيع في قوله عند عهده لمالك الأشتر "فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدّ عليه إجتماعاً من تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر". وجملة "لما استوبلوا من عواقب الغدر" معناها: لما نالهم من وبال من عواقب الغدر. نجد في أحكام الحرب الإسلامية أنّ إعطاء الأمان من قبل فرد واحد من جيش المسلمين لشخص أو كتيبة من كتائب العدوّ يوجب مراعاة ذلك على كلّ المسلمين! نُقل عن الإمام علي (ع) نّ العهد حتى لو كان بالإشارة يجب الوفاء به، وذلك في قوله (ع): "إذا أومى أحد من المسلمين أو أشار إلى أحد من المشركين، فنزل على ذلك فهو في أمان". من الآثار السلبية لنقض العهود والإيمان شياع سوء ظنّ الناس وتنفّرهم من الدين الحقّ، وتشتّت الصفوف وفقدان الثقة حتى لا يرغب الناس في الإسلام، وإنْ عقدوا معهم عهداً فسوف لا يجدون أنفسهم ملزمين بالوفاء به. وهذا ما يؤدّي لمساوئ ومفاسد كثيرة وبروز حالة التخلّف في الحياة الدنيا. يقول المؤرّخن والمفسّرون: من جملة الأمور التي جعلت الكثير من الناس في صدر الإسلام يعتنقون هذا الدين الإلهيّ العظيم هو التزام المسلمين الراسخ بالعهود والمواثيق ورعايتهم لأيمانهم. ونظراً لما لهذا الأمر من أهمية قال سلمان الفارسي: "تهلك هذه الأُمّة بنقض مواثيقها". أيْ أنّ الوفاء بالعهد والميثاق كما أنّه يوجب القدرة والنعمة والتقدّم، فنقضهما يؤدّي إلى الضعف والعجز والهلاك. والكلام الذي يجري على الوفاء يجري على الصدق فإنّهما توأمان كما قال الإمام علي (ع). فالصدق من علامات صدق الإيمان ورأسه، عن الإمام علي (ع): "الصدق أقوى دعائم الإيمان". وعنه (ع): "الصدق رأس الدين". وعنه (ع): "الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرُّك، على الكذب حيث ينفعك". وعن الإمام الصادق (ع): "لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربّما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة". هذا وطريق الصدق هو طريق الأنبياء والأولياء الربّانيين، حيث كانوا يتجنّبون كلَّ كذب وغشِّ وخداع وحيلة في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم، وهذا بخلاف شياطين الإنس من الزعماء والرؤساء والملوك الذين ديدنهم الكذب والخداع والغشّ، وهذا من أسباب فشل المسلمين، ذلك أنّهم اتّبعوا شياطين الإنس الكاذبين وتركوا الأشخاص الصادقين، في حين أنّ الله تعالى أمرنا أن نكون مع الصادقين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119).► المصدر: كتاب (مواعِظُ مِن نهج البلاغة)
[1]- الجُنّة: بضم الجيم: الوقاية. [2]- الكيس: العقل. [3]- الحوّل: البصير بتحويل الأمور. [4]- الخبير بتقلّبها. [5]- يبادر. [6]- الحريجة: التحرّز.

ارسال التعليق

Top