◄إنّ السبيل للوصول إلى المعنى الدقيق للفطرة الإنسانية هو البحث عن أصل وجود هذه الفطرة وخصائص هذا الوجود فقد اختلف في هذا الأصل الفلاسفة المسلمين وغيرهم حيث قال بعضهم بوجود الفطرة في النفس الإنسانية وقال البعض بعدمها وعلى أثر هذا الاختلاف أُعطيت الفطرة معاني مختلفة لا تتناسب مع ما ذُكر في القرآن الكريم وروايات أهل البيت (ع) ولدفع هذا الاختلاف نبدأ بما ذُكر في كتاب الله عزّ وجلّ حول الفطرة قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/ 78).
فظاهر الآية يؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من أن لوح النفس خالية من المعلومات ثمّ تنقش فيها العلوم شيئاً فشيئاً قال النيسابوري (بحار الأنوار 65-246).
"اعلم أن جمهور الحكماء زعموا أنّ الإنسان في مبدأ فطرته خال من المعارف والعلوم إلا إنّه تعالى خلق السمع والبصر والفؤاد وسائر القوى المدركة حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك الماهيات وضلت صورتها في ذهنه".
ويقول الشيخ الطوسي في التبيان 6/411 (هو "تعالى" الذي (أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)، وأنعم عليكم بذلك وأنتم في تلك الحال (لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) ولا تعرفونه، فتفضل عليكم بالحواس الصحيحة التي هي طريق العلم بالمدركات، وجعل لكم قلوباً تفقهون بها الأشياء، لأنها محل المعارف، لكي تشكروه على ذلك وتحمدوه على نعمه).
وذكر أيضاً الشيخ الطبرسي في مجمع البيان 6/184 (ثمّ عدد سبحانه نعماً له أخرى فقال (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) منعماً عليكم بذلك وأنتم (لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) من منافعكم ومضاركم في تلك الحال (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ)، أي تفضّل عليكم بالحواس الصحيحة التي هي طُرق إلى العلم بالمدركات وتفضّل عليكم بالقلوب التي تفقهون بها الأشياء إذ هي محل المعارف "لكلكم تشكرون" أي لكي تشكروه على ذلك وتحمدوه ثمّ عطف سبحانه على ما تقدم من الدلائل بدلالة أخرى فقال ألم تروا أي ألم تتفكروا وتنظروا).
وفي التفسير الصافي الفيض الكاشاني 3/148 "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة وركب فيكم هذه الأدوات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واكتساب العلم والعمل به لعلكم تشكرون كي تعرفوا ما أنعم عليكم طوراً بعد طور فتشكروه"، إذن اتفق كل من علماء النفس والمفسرون على أنّ الآية المباركة لها دلالة واحدة وهي أنّ الإنسان عند ولادته لا يملك أي علم من العلوم وأنّ الله سبحانه وتعالى أعطاه الحواس لتكون وسيلة لكسب العلوم.
لكن في مقابل ذلك المعنى الذي يؤكد خلو النفس الإنسانية من جميع العلوم نرى أنّ القرآن الكريم يذكر أموراً أخرى يخاطب الإنسان بها على إنّه مدرك لها وأن أدراكه لها لا يحتاج إلى استدلال أو علم مثل:
قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزُّمر/ 9).
وقوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور/ 35).
وقوله تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص/ 28).
وغيرها من الآيات التي تستفهم استفهام تُقرر فيه أنّ المخاطب قادر على إدراك هذا المعنى دون أن يكون هذا الإدراك مستوجباً لإقامة الدليل أو العلم السابق إضافة إلى أنّ هذه الأمور المقرر عنها في الآيات خارجة من كونها أمور تُدرك بالسمع والبصر...
فكيف يمكن التوفيق بين هذين المعنيين؟
كذلك كيف يمكن التوفيق بين قوله تعالى: (لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) وبين قوله: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم/ 30)، وقد رد في الحديث أنّ رسول الله قال: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه فيهودانه" (بحار الأنوار)، فرسول الله (ص) يقول: "كل مولود يولد على الفطرة أي أنّه يولد وهو يمتلك شيئاً يسمى الفطرة بينما القرآن الكريم يؤكد أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً أي أن كل مولود يولد وهو لا يملك ولا يعلم أي عمل من العلوم؟!
للتوضيح نقول:
في قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) (النحل/ 78)، تأكيد على أنّ الإنسان عند ولادته يكون خالياً من جميع العلوم، وأنّ الله سبحانه وتعالى أعطاه ما يكون سبيلاً لتحصيل العلوم من (السمع والبصر والأفئدة) فيكون كل ما يحصل عليه من العلوم كسبية (حصولية) عن طريق الحس والتجربة أي أنها لم تكن حاصلة لديه ثمّ حصلت.
ومعنى كونها كسبية هو أن حضورها في الذهن لا يكون كافياً في جزم الذهن بالحكم، بل يحتاج في إثبات هذا الحكم إلى أمور خارجة عن الذهن فمثلاً إذا حضر في الذهن ما هو الجسم؟ فإنّ الذهن لا يستطيع الجزم بالحكم إلا إذا انتقلت صورة الجسم عن طريق البصر إلى الذهن وإلا فإنّ الذهن لا يكون مدركاً لهذا الجسم.
فما تشير إليه الآية السابقة هو هذا النوع من العلوم والتي تسمى بالعلوم الكسبية أما بالنسبة إلى الآيات الأخرى نحو قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)، إلى غيرها من الآيات.
فإنّها تشير إلى نوع مختلف من العلوم التي لا تكون ظاهرة في بداية حياة الإنسان عند الولادة وإنما تظهر هذه العلوم إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم وأعمل حواسه ولامس الحقيقة الخارجية، وكأنّ في النفس البشرية سلسلة من المعلومات، هذه المعلومات خامدة وراكدة تتجلى وتظهر شيئاً فشيئاً مع احتكاك الإنسان بالواقع الخارجي بمعنى أنّه تكون لديه قوة واستعداد للعلم، ولا يُسمى علماً فعلياً إضافة إلى أنّه يجب ملاحظة أن حضور هذه المعلومات في النفس كافية في جزم الذهن بالحكم دون أن يحتاج إلى الحواس الأخرى، فمثلاً إذا حضر الكل والجزء في الذهن فإن حضورهما كافٍ في جزم الذهن بأن (الكل أكبر من الجزء) قال النيسابوري "وعندي إنّ النفس قبل البدن عالمة بعلوم جمة هي التي ينبغي أن تُسمى بالبديهيات وإنما لا يظهر آثارها عليها حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئاً فشيئاً... فالمراد بقوله (لا تعلمون شيئاً) أنّه لا يظهر أثر العلم عليهم ثمّ إنّه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب سائر العلوم" (بحار الأنوار 65-246).
إذن الإنسان يخرج من بطن أمّه ليس فيه علم فعلي ولكنه يملك قوة العلم هذه القوة هي مبادئ آلهية تحتاج إلى أرضية مناسبة لظهورها وتكاملها...
وقد ذكر العلامة الحلي هذا المعنى في كتابه "نهج الحق وكشف الصدق" "اعلم إنّ الله تعالى خلق النفس الإنسانية في مبدأ الفطرة خالية عن جميع العلوم بالضرورة وذلك ما هو ملاحظ في حال الأطفال ثمّ إنّ الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك، وهي القوى الحساسة، فيحس الطفل في أول ولادته بحس لمس ما يدركه من الملموسات، ويميز بواسطة الإدراك البصري، على سبيل التدريج بين أبويه وغيرهما، وكذلك يتدرج في العلوم، وباقي المحسوسات إلى إدراك ما يتعلق بتلك الآلات. ثمّ يزداد تفطنه فيدرك بواسطة إحساسه بالأمور الجزئية، الأمور الكلية من المشاركة، والمباينة، ويعقل الأمور الكلية الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية، ثمّ إذا استكمل الاستدلال، وتفطن بمواضع الجدال، إدراك بواسطة العلوم الضرورية، العلوم الكسبية، فقد ظهر من هذا أنّ العلوم الكسبية فرع على العلوم الضرورية الكلية".
وعليه نجد أن قوله تعالى: (لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) لا يتنافى مع قوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم/ 30)، لأنّ الفطرة ليست من قبيل العلم الحصولي الذي يؤخذ بالاكتساب عن طريق الحواس كما أنّه لا يوجد تعارض بين قول روس الله (ص): "كل مولود يولد على الفطرة" وبين قوله: (لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)، فالمولود لا يملك علماً لكنه يملك فطرة لديها كل القابلية والاستعداد للعلم بما تحمله من مبادئ وأصول.
وقد أكّد أهل بيت العصمة – عليهم السلام – هذا المعنى للفطرة في رواياتهم نذكر بعض منها: عن الحسين بن نعيم الصحاف قال: قلت لأبي عبدالله: أيكون الرجل مؤمناً قد ثبت له الإيمان ينقله الله بعد الإيمان إلى الكفر؟ قال: إن الله هو العدل، وإنما بعث الرجل ليدعوا الناس إلى الإيمان بالله، ولا يدعوا أحداً إلى الكفر، قلت فيكون الرجل كافراً قد ثبت له الكفر عند الله فينقله الله بعد ذلك من الكفر إلى الإيمان؟ قال: إنّ الله – عزّ وجلّ – خلق الناس على الفطرة التي فطرهم الله عليها لا يعرفون إيماناً بشريعة ولا كفراً بجحود. ثمّ ابتعث الله الرسل إليهم يدعونهم إلى الإيمان بالله حجة لله عليهم فمنهم من هدأه الله ومنهم من لم يهده. (علل الشرائع 1-121، ورواه الكافي 2-416).
ففي قوله (ع): "عن الله عزّ وجلّ خلق الناس على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيماناً بشرعة ولا كفراً بجحود".
يقول العلامة المجلسي: "الظاهر إن كلام السائل استفهام، وحاصل الجواب إنّ الله خلق العباد على فطرة قابلة للإيمان وأتم على جميعهم الحجة بإرسال الرسل وإقامة الحجج فليس لأحد منهم حجة على الله في القيامة ولم يكن أحد منهم مجبوراً على الكفر لا بحسب الخلقة ولا من تقصير في الهداية وإقامة الحجة".
وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر (ع) أنّه قال: "كانوا قبل نوح أخوة على فطرة الله لا مهتدين وضلالاً فبعث الله النبيين". (بحار الأنوار 65-246)
إلى غير ذلك من الروايات التي تؤكد هذا المعنى للفطرة فالإمام (ع) في الرواية السابقة يقول: (لا مهتدين ولا ضلالاً) أي أنهم لم يكونوا على هدىً أو على ضلال بل (على فطرة الله) لديهم فطرة تمكّنهم من تمييز الضلال من الهدى فيحكم بحسن الهدى وقبح الضلال وهذا هو المبدأ الفطري الإلهي.
واتماماً لما ذكر في روايات أهل البيت – عليهم السلام – حول معنى الفطرة ينبغي أن نشير إلى أن هناك روايات ذكرت عدة معاني للفطرة منها التوحيد، والإسلام، والولاية ومعرفة الله – عزّ وجلّ – فقد ذكر في الكافي 2-12 (علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (ع) قال قلت: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" قال التوحيد) عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: سألت عن قول الله عزّ وجلّ: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (الحج/ 31)؟ قال الحنيفة من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله؟ قال: فطرهم على المعرفة به.
بحار الأنوار 64: عن أحمد بن موسى عن الحسين بن موسى الخشاب عن علي بن حسان عن عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبدالله (ع) في قوله: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" قال: فقال على التوحيد ومحمد رسول الله (ص) وعليّ أمير المؤمنين (ع).
ولقد ذكر في معنى هذه الروايات وعلاقتها بالفطرة وجهين:
الوجه الأوّل: إنّ معنى قوله (ع): "فطرة الناس التي فطر الناس عليها قال التوحيد" أي أنّه خلقهم للتوحيد بمعنى خلق الناس للاعتقاد بالتوحيد وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ المفيد حيث قال في كتابه (تصحيح اعتقادات الإمامية) ص60-62.
"قول الصادق (ع): "فطر الله الخلق على التوحيد" أي خلقهم للتوحيد وعلى أن يوحدوه وليس المراد به "أراد منهم" التوحيد ولو كان الأمر كذلك ما كان مخلوق إلا موحداً وفي وجودنا من المخلوقين من لا يوجد الله تعالى دليل على إنّه لم يخلق التوحيد في الخلق بل خلقهم ليكتسبوا التوحيد".
الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الصدوق حيث قال إنّ المراد من ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى فطر في النفس أصول ومبادئ ثابتة هذه الأصول تكون مقتضية للتوحيد والدين والمعرفة لله – عزّ وجلّ – وأنّ هذه الفطرة إذا لم يؤثر على صفائها ونقائها عوامل تحجب ظهورها فإنّها تقوى وتشتد حتى توصل النفس الإنسانية إلى كمالها.
ويلاحظ أن ما ذكره الشيخ الصدوق من معنى للفطرة يتفق مع ما ذكر في الآيات وروايات أهل البيت – عليهم السلام – أما ما ذكره الشيخ المفيد قدس سره من معنى للفطرة في الروايات فلا يخرج عن التأكيد من أن وجود الفطرة في النفس لا يعني أنّ الإنسان مجبراً بل مختاراً كما أن رأيه يبين الحكمة الآلهية من وجود الفطرة ولكنه لا يعطي معنى لتلك الفطرة.
الخلاصة:
1- الفطرة هي مبادئ وأصول وقيم، فطر الله الإنسان عليها وهي راسخة ثابتة في النفس الإنسانية ولا يمكن تغيرها أو زوالهما ولكن هذه الأصول الفطرية ليست من قبيل الأمور التي كانت معلومة لديه كما أشار إلى ذلك بعض الفلاسفة من أن هذه الأصول هي ملازمة لبناء الإنسان الذهني وهي سلسلة من المعلومات الذهنية التي تكون لديه منذ ولادته، كما إنها ليست من قبيل المعلومات التي كانت معلومة لديه قبل أن يخلق، أي أن روحه قد تعلمت هذه الأصول قبل أن تخلق في هذا العالم وعندما ارتبطت هذه الروح بالجسد نسيت هذه الأصول فتحتاج إلى التذكير بها بسبب حجب الجسد لهذه المعلومات، إنما هي أصول فطرية تخلق في النفس القابلية والاستعداد للعلم وليست علماً فعلياً فالوليد تكون لديه هذه الأصول في نفسه ولكنها لا تظهر إلا بعد أن يصل إلى مرحلة يستطيع فيها تصور الأمور فيكون إدراكه لها فطرياً.
وعلى هذا فلا تناقض بين قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)، وبين قولنا أن قوله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (القلم/ 35)، أمر فطري لأنّه خارج عن كونه علماً.
2- إذا قلنا بأنّ الأصول الفطرية هي علم أي أنها أمور مكتسبة فإن كل ما نتوصل إليه عن طريق هذه الأصول يكون غير نابع من مبدأ وأصل ثابت بل يكون بمثابة أنّ هناك أحد حملنا وأجبرنا على قبولها ولا يكون لدينا اختياراً فيها ولتوضيح ذلك إليك هذا المثال: إنّ القائلين بأنّ الأصول الفطرية هي معلومات موجودة في سلسلة معلومات الإنسان الذهنية يكون حكمة بأن (الواحد نصف الاثنين) أحد المعلومات في هذه السلسلة أي أن وجود المعلومة في هذه السلسلة هو الذي حمله على الحكم بأن (الواحد نصف الاثنين) كذلك هو الحال في القائلين بأنّ الأصول الفطرية معلومة في النفس ولكنه نسيها فيكون نسيانه لهذه المعلومة هو الذي حجبه عن الحكم ويكون التذكر كافياً وحاملاً له على الحكم بأنّ (الواحد نصف الاثنين).
إذن لا يمكن أن تكون الأصول الفطرية بمعنى العلم لأنّ ذلك لا يوصل إلى العلم بل إنّه ينفي القيمة لأي علم من العلوم وعلى ذلك يكون معنى كون الحكم بأن (الواحد نصف الاثنين) فطري هو إنّ الإنسان لا يعرف شيئاً عن كون (الواحد نصف الاثنين) ولكن عندما يحصل له تصور إلى (الواحد) وتصور عن (الاثنين) ومقارنة أحدهما بالآخر أي أعمال الأصول الفطرية مع هذه التصورات فإنّه يستطيع أن يحكم بصحة كون (الواحد نصف الاثنين) ويكون حكمة هذا بدون تعلم أو تجربة ولا يحتاج إلى دليل عليه.
3- أنّ الأصول الفطرية لا يمكن أن تكون من قبيل العلوم الحضورية كعلم النفس بذاتها، لأن علم النفس بذاتها حضوري ولكن هذا العلم يختلف باختلاف النفس الإنسانية والأصول الفطرية ليس فيها اختلاف عند جميع البشر كما سيتبين لنا ذلك عند البحث عن (خصائص الفطرة الإنسانية) إضافة إلى أنّه ما كان العلم به حضورياً لا يحتاج إلى إقامة الحكم عليه كما هو الحال في الأصول الفطرية.►
المصدر: كتاب الفطرة الإنسانية
ارسال التعليق