◄يبدو أن ضمانات العدل منتشرة بالقسطاس، وبشكل مرسوم، في ساحة الكون وفي صميم الحياة البشرية.
ذلك أنّ العدل نفسه واحد من أعمدة الوجود البشري في العالم، ومبرر خطير من مبررات الحياة، بما أنها فرصة جدية هادفة وليست عبثاً أو فوضى. ولنا أن نتصور كيف ستغدو هذه الحياة لو انعدم العدل أو افتقد ضماناته التي تمكنه من الديمومة والتحقق..
إن قوى الظلم كثيرة وقديرة، وهي تملك أسلحة عاتية للتمكن في الأرض كواحدة من صيغ التحدي الذي كان على الإنسان أن يجابهه لكي يشتد ساعده وتقوى عزيمته، ولكي تتحرك الحياة ويتدفق الإبداع.
ولكن هذه القوى ليست مطلقة السراح تفعل ما تشاء دون أن تجد في طريقها من العقبات والمتاريس ما يفت في عضدها ويشلها أحياناً عن العمل.
لقد شاءت إرادة الله سبحانه أن يجابهها بالعدل، وأن يمدّ خطوطاً معززة من "الدفاع" لحماية هذا العدل وأنزل القصاص بالظالمين.. فحيثما قدر هؤلاء على اجتياز أحد الخطوط والتفوق عليه، كان عليهم أن يجابهوا خطاً آخر قد يصعب اختراقه.
وهذه المعركة لا تقتصر على الأرض وحدها، ولا تتوقف عند حدود الحياة الدنيا، ولكنها تمتد إلى السماء وتتسع لكي تبلغ الآخرة.
وهكذا فإنّ الظلم سيجد نفسه محاصراً مقهوراً، طال الوقت أم قصر، وسيجد العقاب العادل بانتظاره في الأرض أو في السماء.
وإذ كانت الحياة الأخرى هي الدوام والامتداد والأبدية، وكانت حياتنا الدنيا هذه فرصة قصيرة، منصرمة، فانية، فإنّه ليس مهماً في المنظور الإيماني أن يُستعجل على حساب الظالم هنا، أو أن يعتبر افلاته من القصاص في هذه الحياة بمثابة الخلاص النهائي.
ثمّ انّ هذا التصور لا يحمل أي بُعد سلبي كما قد يتوهم البعض، فليس ثمة في الإسلام أيّة دعوة لإلقاء السلاح والكف عن مجابهة الظلم في العالم بانتظار يوم الحساب.
على العكس تماماً، فإنّه ما من دين يدعو لاستمرار المعركة منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية كالإسلام، ويكفي أن نعرف جانباً من حقيقة الجهاد وأهدافه، لكي نتأكد من ذلك، بل يكفي أن نطالع حديث الرسول (ص) "الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة"، لكي تتبدى لنا الحقيقة أوضح من أن يقدر أحد على طمسها كائناً من كان.
فليس ثمة مكان في تصورنا مطلقاً لعبارة الماديين المعروفة "الدين افيون الشعوب" وليس ثمة مبرر – حتى – لتذكرها.
إنّما يطرح التصور الإسلامي رؤيته عن العدل في آفاقها الواسعة الممتدة في الزمان والمكان، لكي يؤكد واحدة من الحقائق الأساسية في نسيج هذا التصور وهو حتمية تحقق العدل كقيمة خطيرة من القيم التي يقوم عليها بنيان السماوات والأرض، بل انّ هذا التصور هو الذي دفع المسلمين – ولا يزال – إلى الإلحاح في ملاحقة الظلم، والاستشهاد دون العدل، ما دام انّ هذا الفعل الجهادي سيؤدي ثماره عاجلاً أم آجلاً..
فالجزاء آتٍ لا محالة في المنظور الإسلامي، والإيماني عموماً، وليس ثمة لا جدوى تتحكم بالإنسان وتضيع فاعليته وجهده في سبيل أهدافه الكبرى.
إنّ الأمر هاهنا يبدو محفزاً إيجابياً على العكس تماماً مما يتوهمه البعض أو يوهم به الآخرين.
وخطوط الدفاع التي المحنا إليها في بدء الحديث تبدأ بالإنسان نفسه وتمتد إلى المؤسسات التي تنظم حياته، ثمّ تتجاوز ذلك صوب الطبيعة نفسها بما تتضمنه من سنن وطاقات ونواميس.
ومن وراء هذه الخطوط الثلاثة، ومن قبلها وبعدها، ومن خلفها وبين يديها، تقف إرادة الله التي لا راد لها لكي تحق الحق وتزهق الباطل وتمكن العدل في الأرض وفي السماء.
فإذا حدث وأن أفلت الظالم من عقاب "ضميره" المركوز في جبلته وتجاوز خط الدفاع الأوّل هذا عن العدل، فإنّه سيجد نفسه محاصراً بالخط الثاني: النظم والمؤسسات التي تواضعت عليها المجتمعات البشرية لملاحقة الظالم وكفه عن الأذى وانزال القصاص العادل به، وتحقيق هذا الجانب أو ذاك من جوانب العدل في العالم.
لكن هذه النظم وتلك المؤسسات لم تكن يوماً تملك قدرتها الكلية على تحقيق أهدافها وتنفيذ القصاص بمن يستحق، وحماية العدل من العدوان. وكثيراً ما حدث وان عجزت عن مهمتها وتمكن الجناة من الافلات لكي يواصلوا العدوان. وحينذاك قد يكون وقفهم عن المضي إلى أهدافهم المضادة للإنسان عند خط الدفاع الثالث: السنن الطبيعية التي يعجز ابن آدم أحياناً عن اختراقها بالباطل، والتي قد تصبر على التجاوز ولكنها ما تلبث ان تتحرك – بأمر الله – لكي تضرب ضربتها وتنزل قصاصها العادل بالمستحقين.
وهاهنا – أيضاً - قد نجد الكثيرين ممن يقدرون على الافلات ويجتازون خط الدفاع الثالث منتصرين. ولكن انِّى لهم اجتياز الخط الأكبر، والأعمق، والأكثر امتداداً وشمولاً؟.
إرادة الله، ورقابته، وهيمنته على كل صغيرة وكبيرة، الإرادة التي لا يغرب عنها مثقال ذرة في السماوات والأرض؟!.
إنّ الظالم قد يفلت من ضميره بعد أن يتيبس هذا الضمير ويفقد وظيفته، وقد يفلت من المؤسسة أو النظام ذي الرقابة النسبية والقدرات المحددة مهما امتلك من وسائل وتفنن في استخدام الأساليب.. وقد يفلت من عقاب السنن الطبيعية ويمضي إلى هدفه دون أن يعوقه شيء منها.
ولكنه لن يقدر على الافلات من قبضة الله!.
وقد يطول المدى بين الفعل الظالم والقصاص العادل فيتوهم البعض انّه ليس بنازلٍ أبداً..
ولكنه نازل بالمجرمين.. يقيناً..
فالله سبحانه قد يمهل الظالم، لهذا السبب أو ذاك، ولكنه لا يهمله حتى لو التجأ إلى نفق في الأرض أو ابتغى سلماً في السماء.. ثمّ هو سبحانه إذا أخذ الظالم فلن يفلته أبداً..
ومن خلال هذا التصور الإيجابي يطمئن الإنسان المؤمن ولا تذهب نفسه حسرات وهو يرى عشرات، بل مئات المجرمين وألوفهم، ينفذون بجلدهم من العقاب ويموتون مطمئنين..
فهناك بعد الموتة الأولى بعث ونشور.. وحساب عسير!!..►
المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد 6 لسنة 1404هـ
ارسال التعليق