• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التوكل على الله عز وجل

التوكل على الله عز وجل

◄لقد استوعب المجاهدون في صدر الإسلام الأوّل حقيقة التوكل على الله وتوكَّلوا على الله حق التوكّل ولذلك انجزوا ما يصعب انجازه واقتحموا أشدّ الصعاب وبلغوا أرقى الدرجات ونالوا عظيم المكاسب، بخلاف المسلمين اليوم الذي جُردّوا من عالم المعنى نتيجة للاستغراق في عالم المادة وعبودية صنم الاستهلاك والتمحور حول فهم ومتعة الذات، فأُصيبوا بقصر النظر وضعف الهمم وجَرّدوا  كلمة التوكل عن معناها الأصيل فصارت مفردة جوفاء لا واقع لها في حياتهم ومشاريعهم ومشاعرهم وعواطفهم وأذهانهم.

وقد اسهم في هذه الحالة المرضية انكار البعض للمدد الغيبي للمؤمنين وتعزيز البعض للأخذ فقط بالحسابات المنطقية والطبيعية في تحليل الأمور وتقييم قدرة الفرد والأُمة على انجاز المطلوب. فمما لا شك فيه ان قدرات الإنسان إذا قيمها وحدها وجدها محدودة، فيحدّ بها أعماله وطموحاته، ولكنه إذا نظر إليها نظرة أوسع، من عين عارفة بمكانة الإنسان في الأرض، ومبصرة لعظيم الدعم والتثبيت لاقدام المؤمنين في الأرض، فإنّه يجد أنّه لا سقف لطموحاتهم.

فالإنسان قدرته هائلة إذا اعتقد أن هناك قوة وراء قواه تساعده على تحقيق ما يسعى إليه. وحتى الذين لا يؤمنون بالله ولا يتوكَّلون عليه يؤمنون بأن هناك قوة وراء قواهم، يفسرونها تارة بالقوى المعنوية أو بالطبيعية وبغير ذلك، ويقدمون على عظائم الأمور. فكيف حال مَن يؤمن بالله عن دليل قاطع، ويصدّق بوجود الله تصديقاً جازماً مطابقاً للواقع عن دليل، فإنّه لا شكّ يحقق بتوكله على الله أضعاف أضعاف ما يحققه غير المؤمن.

التوكل على الله كان من أعظم مقومات الجماعة المؤمنة والحزب الإلهي ف

ي زمن تحقيق الانتصارات المتتالية في عهد رسول الله (ص) وللتوكل اثر سيكولوجي عميق يدفع الإنسان لترجيح الانتصار حتى لو كانت الظروف الموضوعية والقراءات الواقعية تشير إلى عدم امكانية تحقيق المراد. فللتوكل أثر بالغ في تمكين الاعتقاد وبث روح التفاؤل والتسليم المطلق لله تعالى بغض النظر عن النتيجة.

والتوكل على الله ورد في كتاب الله في الآيات التالية:

قال تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران/ 160).

(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 51).

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (التوبة/ 129).

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2).

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (هود/ 123).

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) (الفرقان/ 58).

ففي هذه الآيات دلالة قطعية على وجوب التوكل على الله ففيها أمر صريح بالتوكل على الله، وبها بيان محبوبية المتوكل من الله سبحانه وتعالى.

وجاءت الأدلّة مطلقة في طلب التوكل، فيكون الواجب هو التوكل على الله بشكل مطلق في كلّ أمر من الأمور، وفي كلّ مقصد من المقاصد. فالأدلة تدلّ على أنّه حين نعزم على سلوك ما أو مطلب معين، يجب أن نتوكلّ على الله. فالتوكل على الله واجب بغض النظر عن الأسباب والمسببات. ومسألة الأخذ بالأسباب والمسببات وتنبؤ النتيجة مسألة أخرى غير مسألة التوكل وأدلّتها غير أدلة التوكل، فلا يصحّ أن تُحشر معه أو تكون مقيدة له. وهذا الكلام لا يعني أن تهمل القراءة الواقعية والأخذ بالأسباب وانما معناه أن نؤمن بقوة قادرة على تغيير كلّ الأمور الموضوعية ونضع ثقتنا فيها بعد تحكيم العقل وانبعاث العزم الإيماني.

 

صنعة المواقف الثابتة يكون بما يلي:

1-  الإيمان بالفكرة إلى حد الاعتقاد:

آمن أنت أوّلاً بفكرتك وانسجها نسجاً باطنياً مع جهازك النفسي ومن ثمّ ارسها في عقلك اللاواعي (الباطني) فان عقلك الباطني مخزن العقائد والقيم ومبرمج السلوك إلى حد يجعل الإنسان مطبقاً لعقيدته تلقائياً دون تردد أو حاجة للرجوع إلى العقل الظاهر (عقلك الواعي). "وجوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة"! وإلا فستبقى الفكرة مجرد صياغة لفظية خالية من الروحية المعنوية والحيوية السلوكية. واعلم انّ الفكرة إذا جُرّدت من الأبعاد العاطفية فهي تلقائياً تفقد قابليتها في الوصول إلى العقل اللاواعي.

لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان، ولم تصبح كائناً معنوياً حياً يتحرك جوارحياً على وجه الأرض في صورة إنسان. كذلك لا تتحقق أنسنة الإنسان بالارتباط بمحبوبه الأوّل، خالقه واعمار قلبه بعقيدة يؤمن بها بحرارة.

هناك أفكار عديدة قد يقتبسها الإنسان منها الصائبة ومنها المعوجة! أما الأفكار التي لم تطعم هذا الغذاء الإيماني المقدس فهي تولد ميتة ولا تمتلك قابلية تحفيز الإنسان ولا تستطيع دفع الإنسان شبراً إلى الأُمام ولا تهبه الصمود على المبدأ والفكرة.

2-  عاطفة حب العطاء وتلمس حاجة الآخرين إلى عطائه:

إنّ هذا الشعور العاطفي سبب لفعالية المؤمن وتأجيج نشاطه الحركي، وغياب هذا البعد يحوّل الإنسان المتوهم بانّ ليس عنده شيء يقدمه للآخرين إلى الشلل الحركي ويصبح الإنسان عرضة للإصابة بالانطواء والخمول والكسل وتسلط التفكير السلبي عليه، والإنسان الذي يقدم شيئاً يحتاج إليه الآخرون سواء كان الشيء ثقافة أو مال أو مؤازرة أو جهاد ومرابطة، يشعره ذلك بقيمته الذاتية ويعزّز من تقديره لنفسه جاعلاً إياه مستعداً لتقديم المزيد وتكرار العمل. لذا فلابدّ للمؤمن أن يؤمن بانّه يمتلك الشيء الذي يفتقده العالم للتغلب على مشاكله وأزماته، فهو يملك عقيدة يخرج بها الإنسان من الظل إلى العدل ومن الظلمات إلى النور ومن القلق إلى السكينة ومن الاضطراب إلى الطمأنينة.

3-  الدعاء والتضرع إلى الله:

"الدعاء يرد القضاء".

طلب حسن العاقبة بعد الهداية والتمييز بين الحق والباطل (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا...) (آل عمران/ 8).

4-  جاهزية الاستجابة للقيادة الإلهية والتضحية للإسلام:

المؤمن دائم التفكير في خدمة الدين، عظيم الاهتمام بأمور المسلمين، على قدم الاستعداد دائماً للإستجابة للقيادة الإلهية (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...) (آل عمران/ 172).

(لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى...) (الرّد/ 18).

المؤمن الحق إن دُعي أجاب، أو نودي لبى منتظراً للقائم المنتظر - عجل الله تعالى فرجه - كي يجاهد معه ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً  كما ملأت ظلماً وجوراً.

5-  حماسة القلب وتعلقه بالغاية:

يتعين على المؤمنين أن تكون في قلوبهم حماسة إيمانية مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً، ولا تدعه حتى تجرّه إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئاً يسد به رمق أولاده فتقلقه، وتضطره هذه الحماية إلى بذل الجهد والسعي لنصرة الدين وبرهنة عشق الله على أرضه ببذل المزيد في سبيل تهذيب الذات واصلاح المجتمع والحركة الدؤوبة لتطبيق حاكمية الله المطلقة على الأرض بمن عليها.

يتوجب علينا أن تكون في صدورنا عاطفة صادقة، تشغلنا في كلّ لحظة من لحظات وجودنا بالسعي في سبيل غايتنا، عاطفة تعمر قلوبنا بالطمأنينة، وتُكسِب عقولنا الحكمة والإخلاص والتجرد، وتشغلنا عن الدنيا وأهلها وزخارفها.

6-  العزيمة وقوة الإرادة والثقة بالنفس:

إنّ تحقيق هدفك بحاجة إلى مزيد من العزيمة، وقوة الإرادة والثقة بالنفس، والقوة النفسية، والشجاعة الأدبية، بيد أنك ستواجه سيلاً عارماً من التثبيط ومن التشكيك، ومن التنقيص، وكلّ ذلك بهدف التقليل من مكانتك وشأنك، ولا ضير من ذلك إذا  كانت مناعتك النفسية قوية، فهناك عوائق وعقبات ومشاكل في طريق هدفك، عليك أن تستعد لكل ذلك وأبعد من ذلك، وتأكد من أنّ الطرق المتكرر لابدّ وأن يفتت الصخرة الصماء.

7-  تهذيب النفس وتحليتها بفضائل الأخلاق:

استمرارية المحاسبة والمراقبة للنفس والسعي لتخليتها من الرذائل وتحليتها بالفضائل.

8-  إدارة الوقت:

إنّ الساعة من الوقت بالنسبة للإنسان الفعّال، لها قيمتها، حتى أنّ الساعة التي يظن أنّه لا يمكن استخدامها في شيء فإنّ الإنسان الفعّال يستخدمها في شيء نافع، فالزمن زمن بالنسبة لكل إنسان، ولكن بالنسبة للإنسان الفعال زمن تتولد فيه حقيقة من حقائق الحياة، ولحظات تنبض بالحيوية لا لحظات خامدة ميتة، لهذا مما يشق على الإنسان أن يسأل يوم القيامة عن عمره فيما أفناه.

كلّ رجل ناجح لديه نوع من الشباك يلتقط به نحاتات وقراضات الزمان، ونعني بها فضلات الأيام وأجزاء الصغيرة من الساعات مما يكنسه معظم الناس في مهملات الحياة، وإنّ الرجل الذي يدخر كلّ الدقائق المفردة وأنصاف الساعات، والأعياد غير المنتظرة، والفسحات التي بين وقت وآخر، والفترات التي تنقضي في انتظار أشخاص يتأخرون عن مواعيد مضروبة لهم، ويستعمل كلّ هذه الأوقات ويستفيد منها ليأتي بنتائج باهرة يدهش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم.

9-  عدم الانهزام أمام نقد الناقدين:

المؤمن ينطلق من التكاليف الإلهية ويجب عليه أن لا تيكترث من الناقدين فهاهم أنبياء الله واجهوا كافة ألوان النقد الهدام ولم تهدم معنوياتهم لأنّهم يدركون غايتهم وعلى بصيرة من أمرهم (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الحجر/ 11).

10-                   المداومة على الأمور التعبدية:

إنّ من آثار تكرار العبادات وتكثير الأذكار والأوراد وإتيان المستحبات أن يتأثر القلب منها وينفعل حتى يتشكل باطن الإنسان شيئاً فشيئاً من حقيقة الذكر والعبادة فيتحقق قوله تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة/ 138).►

 

المصدر: كتاب التحفيز الإيماني

ارسال التعليق

Top